الآثار الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة
مع نظرية عدم الارتباط، وسيطرة النوع الأول، التقنى، من تفسيرات الأزمة، بدا الاستنتاج القائل بأن العالم العربى محصن وبعيد عن الأزمة منطقياً. لكن مع انتقال التقلص الاقتصادى العالمى من مرحلة لمرحلة، بدأت تتكشف التأثيرات السلبية، واحدة تلو الأخرى، كاشفة هشاشة فكرة عدم الارتباط.
جاءت أولي الإشارات من البورصات. فقد فقدت أسواق الأوراق المالية فى منطقة دول مجلس التعاون الخليجى نسبة بلغت 47.5 فى المائة منذ بداية العام لتنخفض القيمة السوقية بمقدار 538 مليار دولار أمريكى، بينما شهدت انخفاضاً بمقدار 373 مليار دولار أمريكى منذ بداية شهر أكتوبر من العام 2008. وقد شهدت الأسواق الكبيرة فى المنطقة القدر الأكبر من الانخفاض، حيث ألقي تباطؤ النمو الاقتصادى العالمى، وانخفاض أسعار خام النفط والأزمة المالية السائدة بظلاله علي الأسواق. وقد فقد السوق السعودى، وهو أكبر أسواق المنطقة، 254 مليار دولار أمريكى من قيمته السوقية منذ بداية العام، وذلك برغم أن الأجانب غير مصرح لهم بالتداول فيه، بينما فقد سوقا الإمارات والكويت 141 و 101 مليار دولار أمريكى من قيمتهما السوقية منذ بداية العام علي التوالى[5].
وفى دولة كمصر، والتى يعدها محللون إلي جانب دبى السوق الأكثر ارتباطاً بالسوق العالمى بسبب نسب تداول الأجانب فى بورصتها، كانت أوجاع البورصة أكثر إيلاماً. فبعد أن سجل مؤشرها الرئيسى مستوي قياسياً فى الخامس من مايو 2008، سجل تراجعاً تجاوز %70 من قيمته بنهاية نوفمبر، بفعل خروج مكثف للأجانب من السوق.
بعد البورصات، تصاعدت المخاوف بخصوص الاستثمارات المصرفية العربية فى البنوك العالمية. وتقدر احدي الدراسات[6] قيمة هذه الاستثمارات بما بين 8.1 إلي 2 تريليون دولار، ستون فى المائة منها بالدولار الأمريكى. وبالرغم من أن عدداً محدوداً من البنوك العربية، خاصة فى الخليج، أعلنت عن حجم تعرضها للأزمة، ومساحات تضررها، إلا أن الأرقام القليلة المعلنة تكشف حجم المشكلة. إذ قال بنك أبو ظبى التجارى وحده إن حجم خسائر محفظته يتجاوز 272 مليون دولار، وأنه قاضي مؤسسة مورجان ستانلى المالية العالمية بسبب ما وصفه بأنه توصيات استثمارية غير سليمة. وتصل الأرقام المعلنة فى بنوك الخليج فيما يخص خسائر المحافظ المالية المماثلة إلي 7.2 مليار دولار. لكن الرقم الحقيقى قد يكون أكبر من ذلك بكثير بالوضع فى الاعتبار حجم الاستثمارات العربية عموماً فى الخارج، خاصة فى الولايات المتحدة وأوروبا.
أما الأثر المباشر الثانى الأكثر عمقاً فهو ما يتعلق بالصناديق السيادية العربية، وعلي رأسها صندوق هيئة استثمار أبو ظبى أكبر صندوق حكومى فى العالم، والتى قدرت قيمة محافظها الاستثمارية فى نهاية 2007 بـ 52.1 تريليون دولار. ويحسب بنك سامبا السعودى قيمة الخسائر المتوقعة للصناديق السيادية العربية السبعة الأكبر فى عام 2008 بحوالى 190 مليار دولار، يري البنك أنها ستلغى تقريباً الزيادة فى عوائد النفط بفعل ارتفاع أسعاره خلال العام، والمقدرة بـ 198 مليار دولار[7]. وبينما يري البعض أن هذه الصناديق، التى تستثمر %40 من محافظها فى الأسهم، لديها مرونة أكثر من البنوك فى مواجهة الأزمة، بل ويري أن أمامها فرصة لاقتناص فرص استثمارية رخيصة فى الخارج مع تراجع أسعار الأصول، وهو الأمر الذى يراهن عليه الغرب لإنقاذ أسواقه، إلا أن حجم الخسائر يظل كبيراً، ومخاطر المزيد من الدخول فى استثمارات فى الأسواق المتقدمة تظل عالية مهما تراجعت أسعار الأصول لمستويات مغرية.
ويعد النفط وتراجع أسعاره بفعل الكساد العالمى وتناقص الطلب عليه عنصراً أساسياً سلبياً سواء فى القدرة الاستثمارية لهذه الصناديق أو فيما يخص ميزانيات الدول العربية النفطية، خاصة فى ظل مشاريع البنية الأساسية العملاقة التى أطلقت بالفعل والتى صار تمويلها صعباً للغاية بسبب أزمة الاعتماد العالمية وارتفاع تكلفة الاقتراض، وهو ما يهدد بعضها بالتوقف. حيث هبطت أسعار النفط بنسبة 66.1 فى المائة عن أعلي مستوي لها علي الإطلاق والبالغ 140.7 دولاراً للبرميل فى يوليو 2008. وقد خلق ذلك بالتالى تهديدات رئيسية للدول المُصدرة للنفط أى البلدان الأعضاء بمنظمة الأوبك ودول مجلس التعاون الخليجى حيث تعتمد معظم إيراداتها علي صادرات النفط الخام.
ولن يتوقف أثر تراجع فوائض النفط الخليجية علي الخليج بل سيمتد أيضاً للدول غير النفطية كمصر والدول العربية فى الشمال الأفريقى، بسبب أنها كانت تعتمد بشكل كبير علي اجتذاب هذه الفوائض فى صورة استثمارات مباشرة فى اقتصادياتها.
وبناءً علي هذه الصورة، توقعت وحدة الاستخبارات التابعة لمجلة « الإيكونوميست» البريطانية أن يتراجع معدل النمو الاقتصادى فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى 2009- 2010 خاصة فى مصر وشمال أفريقيا[8].
وتقول« الإيكونوميست» إن درجة الارتباط الأعلى لهذه الدول بأوربا سوف تعمق من تضررها فى ظل التراجع المتوقع فى الاستثمارات الأجنبية المباشرة والسياح القادمين من القارة العجوز.
وبينما يستحيل التنبؤ بالاتجاه الذى ستتحرك فيه الأسواق فى المرحلة القادمة، فإن كثيرين يرون أن الأسوأ ربما لم يأت بعد وهو ما قد يعنى تعميق خسائر المنطقة ومفاقمة الأضرار التى ستتعرض لها.
سقــوط نمــوذج
« يبدو أننى كنت مخطئا»، تلخص هذه الجملة التى قالها المحافظ السابق لمجلس الاحتياط الفدرالى الأمريكى « آلان جرينسبان » فى شهادته أمام الكونجرس الأمريكى فى أكتوبر الماضى الموقف برمته. جرينسبان أكد علي صدمته وصدمة زملاء له شاركوه الاعتقاد علي مدي أربعين عاماً بأن الأسواق تصحح نفسها تلقائياً قائلاً إن هناك خللاً فى نظام السوق.
وبالنسبة لمذهب اقتصادى متطرف فى تقديره لديناميكية السوق وضرورة انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادى كتوافق واشنطن، فإن التدخل المكثف للدولة، بطول وعرض الكرة الأرضية لدعم الشركات، وتحفيز الاقتصاد، هو ضربة قاتلة دفعت مجلة النيوزويك الأمريكية لإعلان وفاة هذا النموذج علي غلافها.
وفى العالم العربى، بدأت بوادر تدخل الدولة تظهر فى الأسابيع الماضية بتخفيض أسعار الفائدة وحزم الإنقاذ، وخطط الاستثمار فى البنية الأساسية لتحفيز الطلب. لكن وبينما تثير تداعيات سقوط هذا النموذج جدلاً هائلاً فى الولايات المتحدة، وفى أوروبا، حول البدائل وحول تكلفة التحول التى يتحملها أصحاب الوظائف ودافعو الضرائب، صارت صياغة البدائل، فى العالم وفى العالم العربى، مهمة لا يصح ولا ينبغى أن ينفرد بها أحد.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وفقاً لتقرير الاستثمار العالمى جلوبال، القيمة السوقية لمجلس التعاون الخليجى، الكويت، نوفمبر 2008.
انظر مزيداً من التفاصيل حول تطور الاقتصاد المالى فى اقتصاد توافق واشنطن فى: [2]
David Harey, A brief history of Neoliberalism, London, Oxford University Press, 2005.
[3] Robert Wade, Financial regime change, New Left Review, September October 2008.
Robert Shiller, The Subprime Solution, How today’s global financial crisis happened and what to do about it, New Jersey, Princeton University Press, 2008.
[4] Graham Turner, The Credit Crunch, Housing Bubbles, Globalisation and the Worldwide Economic Crisis, London, Pluto Press, 2008.
[5] الأرقام وفقاً لتقرير جلوبال حول القيمة السوقية لمجلس التعاون الخليجى، مرجع سابق.
[6] Eckart Woertz, Impact of the US Financial Crisis on GCC Countries, Gulf Research Center, October 2008
[7] صحيفة وول ستريت جورنال، 28 نوفمبر 2008.
[8] Economist Intelligence Unit Views Wire, Middle East Economy : EIU November Assumptions, 23 October 2008.
نشرت بمجلة شئون عربية عدد شتاء 2008