االفاشلون يواصلون مسيرتهم المظفرة
بقلم عزالدين مبارك*
استبشرنا خيرا بعد الثورة أن يسوسنا أهل الذكاء والفطنة والناجحون والعارفون بالأمور والمتمسكون بتحقيق أهداف الثورة فوقعنا في فخ السياسة الماكرة والدجل العقيم فامتلأت الكراسي بالفاشلين وأصحاب الولاءات وعديمي المعرفة والدراية حتى وصل حال البلاد إلى ما لا تحمد عقباه بحيث انتهى بنا المطاف إلى انسداد في الأفق وانحدار حاد نحو الهاوية من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
فالفشل الذريع قد صاحب الفترة الانتقالية وخاصة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 التي أفضت إلى حكومة غير متجانسة قرارها بيد النهضة الماسكة بكل خيوط اللعبة وما وجود الحزبين الآخرين المخترقين أساسا إلا لإضافة مسحة تجميلية وتسويقية لا غير والدليل على ذلك تفكك هذين الحزبين بسرعة وما بقاءهما في الصورة إلا لحفظ ماء الوجه ولهدف شخصي بحت.
كما أن المجلس الوطني التأسيسي الذي انبثق عن هذه الانتخابات التي جاءت في ظروف استثنائية غلب على حملتها البعد الإيديولوجي تتحكم في جميع قراراته حركة النهضة بحصولها على الأغلبية وكانت بالتالي تملي على الآخرين إرادتها كما تشاء وتريد ولا تترك للآخرين غير السفاسف ولملمة الجراح والصراخ والعويل.
وكان من الأجدى سلك طريق التوافق خاصة في كتابة الدستور وتمكين لجنة من الخبراء الدستوريين على ضوء الأهداف المعلنة للثورة وتماشيا مع الإرادة الشعبية ثم المرور إلى الاستفتاء لكن الأمور لم تسر على هذه الحال وسلكت طريقا آخر محفوفا بالمخاطر.
وفي نهاية المطاف وعندما وصلنا إلى المنعطف وفي ظل فشل ذريع على جميع الأصعدة وتحت غبار معركة الإرهاب تمسك كل طرف بما يؤمن أنه صك النجاة والعبور إلى بر الأمان في ظل استقطاب يغلب عليه الطابع الإيديولوجي والحزبي وليس المصلحة الوطنية الجامعة.
فالنهضة تتمسك بشرعية الانتخابات والصندوق حتى ولو لم تنجز شيئا يذكر وقد فشلت حكومتها في تحقيق أهداف الثورة المتمثلة في القضاء على الفقر والبطالة وتمكين المجتمع من الحرية والكرامة بل دشنا في عهدها انقساما حادا للمجتمع وصراعا إيديولوجيا مشجعا للعنف والاغتيالات والحقد والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.
أما المعارضة التي طغى على البعض منها طابع الانتهازية السياسية فكانت في بادئ الأمر متشتتة لتعدد الأطروحات والمذاهب وتعدد الزعامات ولم تحاول إلا أخيرا في لملمة جراحها بعد الهدايا التي تلقتها من النهضة فحاولت بلورة استراتيجية واضحة في ظل تغير الشرعية في مصر من يد الإخوان المسلمين إلى يد شرعية الشارع وهذا ما يتجه إليه الحراك السياسي أيضا في تونس.
وأغلب الظن أن الشرعية الشعبية ''الشارعية'' هي درس جديد من دروس ثورات الربيع العربي واختراع غير مسبوق في علم السياسة ستكون له تداعيات كثيرة وآثار غير منتظرة. فربما تنتهي الشرعية الصندوقية وتحل محلها شرعية الشارع ونكون بذلك قد ولجنا عالما جديدا من السياسة.
فشرعية الصندوق التي تفضي إلى الفشل بحكم أن المنتخبين لم يستطيعوا تحقيق ما تم الوعد به وهو عقد إلزام ونتيجة بين الناخب والمنتخب وخروج الناس للشارع مطالبة بالتغيير يعني أن الشرعية قد انتهت بصفة قاطعة ولا بد من الحصول عل شرعية أخرى. فالشرعية الانتخابية ليست صكا على بياض وليست تشريفا اعتباطيا بلا محاسبة وتقييم كما إنها ليست بدون نهاية ولذلك فالتمسك بتلابيبها الممزقة لا تعني غير الانقلاب على شرعية الشعب الذي من حقه أن يسحب تفويضه متى شاء وتلك هي الديمقراطية وغير ذلك يعني الاستبداد.
فحكم النهضة التي تسكنه كوابيس الماضي المرعبة لم يؤسس إلى تحقيق الأهداف الشعبية ولم يتمسك بمقومات الوحدة الوطنية ومنجزات المجتمع الحضارية والثقافية والاقتصادية بل أراد خلخلة أركان الدولة الصامدة منذ قرون على ضوء تجربته الخاصة ليتمكن من مفاصل الدولة بالتعيينات الفوقية وكأن الأمر ملكية خاصة متناسيا أن المخلوع لم تنفعه هذه الخزعبلات والترهات في الماضي القريب عندما قام الشعب بهبته في غفلة من التاريخ وعندما كان الكثير من أهل السلطة الآن في السجون قابعون ومستسلمون لقدرهم المحتوم أو في أصقاع الدنيا منفيون ومطاردون.
فطريقة حكم النهضة المتعالية بحكم حصولها على الأغلبية في الانتخابات وتشتت قوى المعارضة في حرب الزعامات وتركيز اهتمامها بالبعدين الإيديولوجي والحزبي وتغيير نمط عيش المجتمع دون الالتفات لتحقيق الأهداف الحياتية والمعيشية للمجتمع وكأنها تعمل لصالح حزبها فقط وبذلك لم نخرج من إيديولوجية حزب الدولة أو دولة الحزب وتلك مصيبة الدول الغير ديمقراطية والاستبدادية بامتياز.
كما أن حكومة النهضة لم تقم بالإصلاحات السياسية الضرورية التي نادت بها الجماهير الشعبية كالمحاسبة ومقاومة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية وانخرطت في تمشي سياسي غير واضح المعالم داخلي وخارجي لا يعطي الطمأنينة للشعب الذي اكتوى بنار غلاء المعيشة والفشل الاقتصادي وانتشار الأفكار التكفيرية المتشددة والتنظيمات العنيفة الخارجة عن القانون وعطلت التوافق داخل المجلس التأسيسي حتى حاد عن دوره وأصبح طريقة لربح الوقت والتلاعب بالخصوم السياسيين.
وكنتيجة لهذا الفشل وبعد التطورات الأخيرة تدخل بلادنا في مرحلة شد وجذب وصراع لا يعلم إلا الله وحده مآلها ونتيجتها النهائية خاصة إذا تشبث كل طرف بشرعيته النسبية ولم يتدخل الحكماء في الوقت المناسب لنزع فتيل الأزمة الراهنة لأن الشارع المنفلت من عقاله والغير مؤطر لا يمكن التنبؤ بأفعاله في قادم الأيام.
*كاتب ومحلل سياسي