الدعم وهدر الموارد
بقلم عزالدين مبارك
من خصائص اقتصاديات الدول النامية عموما هشاشة البناء وتداعي الهيكلة وانتشار
النشاطات الموازية والتهريب وتبعيتها للدول المتقدمة من النواحي الانتاجية والتكنولوجية.
فقد اختصت هذه الاقتصاديات الوليدة بعيد الاستقلال في منتصف القرن الماضي بالإنتاج
الزراعي والفلاحي واستخراج المواد الأولية ثم انتقلت إلى الصناعة التحويلية فالخدمات
دون أن تبني استراتيجيات خاصة بها تتماشى مع امكانياتها المادية والمالية في ذلك الوقت.
وتعددت التجارب من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد ليبرالي حتى وصل الأمر إلى اقتصاد
الفوضى بعد انتفاضة 2014 بحيث مرت على البلاد التونسية شتى صنوف الاختيارات
دون تحقيق التنمية الشاملة المنشودة وقد ظهر للعيان كذب الأرقام المزيفة بعد أن انزاح
نظام المراقبة على حرية الاعلام والدراسات النزيهة والمستقلة عن الإدارات الحكومية.
وقد كانت جل المخططات الاقتصادية مجرد لعبة ذهنية ترسم في المكاتب المكيفة بعيدا عن
واقع البلاد الحقيقي ولا ينظر في مدى انجاز المشاريع التي تتبناها ودراسة أسباب فشلها أو
التخلي عنها إلا بالقدر اليسير بحيث لم تكن هناك حوكمة اقتصادية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
وفي العهد الأخير دخلنا في معمعة اقتصاد الفساد المنظم والمهيكل بحيث مجموعات عائلية
مافيوزية تسيطر على دواليب الاقتصاد والدولة وتتحكم في المال العام والخاص وجميع
الموارد والمشاريع وبذلك أصبح اقتصادنا يخضع لمنطق اللصوصية والبلطجية ومفتوحا
على سيناريوهات كارثية أدت إلى شبه إفلاس وانعدام الثقة وفقر مدقع وبطالة زاحفة.
فالاقتصاد التونسي مريض من الناحية الهيكلية منذ الفترة التي تلت الاستقلال واستفحل
الأمر مع النظام السابق والحلول في ظروف قاسية مثل التي نعيشها الآن من تكالب على
السلطة وحمى الانتخابات والمزايدات الحزبية ليست متاحة وسهلة المنال في غياب رؤية
واضحة وشاملة وعقلانية.
كما أن الدولة التونسية منذ الاستقلال لم تكن لها استراتيجية اقتصادية حقيقية تمكنها من
رسم سياسات مالية طويلة المدى تمكنها من بناء اقتصاد متين يقطع مع التبعية ويخلق
الثروة والتنمية المستدامة بل تحت ضغط النخبة ودولة الاستعمار والمؤسسات العالمية
المانحة للقروض دخلت في سياسة توسعية لم يستفد منها إلا الموالون للسلطة بحيث تمكنوا
من بعث المشاريع والمؤسسات التي سريعا ما أفلست واندثرت دون أن تقع محاسبة أي
طرف وبقيت أغلبية الشعب على الهامش.
العامل الوحيد الذي كانت له بعض الإيجابيات هو السياسة التعليمية رغم أنه يعتبر هدفا
يخدم أصحاب النفوذ والمال الداخلي والخارجي بما أنه يوفر بأبخص الأثمان مقارنة بقيمة
تضحيات المواطنين والعائلات اليد العاملة الكفؤة والمتدربة لتحريك مشاريعهم الممولة
بأموال الديون الخارجية التي تكتوي بنارها الأجيال الحالية والقادمة.
وبما أن دولة سبعينات القرن الماضي قد ودعت الحقبة الاشتراكية على أنقاض أزمة
سياسية ومحاكمات هزلية ودخلت في شبه اقتصاد اقطاعي ليبرالي مشوه يتحكم فيه السوق
بآليات خفية وغير شفافة ومفتوح للرأسمال الأجنبي فقد اشتعلت الأسعار وأصبح المواطن
عديم الدخل شبه ميت وفي غرفة الانعاش.
ولإسكات الطبقات الكادحة والمحرومة من رغد العيش وقع المن عليها رغم أن ذلك يعد
نصيبا بسيطا من حقها الانساني في ثروة بلادها المغتصبة وقع بعث صندوق التعويض
لمساعدة الفقراء للحصول على لقمة العيش والأغنياء للتمتع برفاهية أكبر بما أنهم من أهم
الطبقات المستفيدة من الدعم.
والحقيقة أن الدعم لا يمكن اختزاله في المواد الغذائية والأساسية والمحروقات فقط بل لا بد
من توسيعه إلى الدعم المالي للمؤسسات كالنقل والخدمات ودور السياحة وغير ذلك.
كما أن التهرب الجبائي يعد دعما مقنعا للأشخاص والشركات بما أنه لا يقع استخلاصه من
طرف الدولة ويستفيد منه هؤلاء لتوسيع نشاطاتهم وتعظيم أرباحهم.
كما يعد هدر موارد الدولة في نشاطات وأعمال غير مفيدة ومبررة ككثرة المستشارين
والوظائف الوهمية رغم الصبغة القانونية التي تحلى بها وتمكين الموظفين السامين دون
غيرهم من السيارات الوظيفية الخاصة وبطاقات البنزين والمهمات للخارج والندوات
والتكوين الغير هادف.
وأغلب الظن أن الدعم الغذائي للفقراء له مبررات أخلاقية واقتصادية واجتماعية حاسمة
لأن ذلك يعد جزءا بسيطا من عائد الثروة وهو حق مكتسب مثله مثل منحة البطالة لأن
الفقر والبطالة هما من نتائج سياسات الدولة مهما كانت مواردها ضئيلة أو كبيرة وعليها
واجب التوزيع العادل للثروة وإصلاح ما نتج عن أخطائها من حيف وظلم.
فالفقر والبطالة ليسا قدرا مكتوبا على بعض الناس دون غيرهم بل هو نتيجة حتمية لسياسة
دولة الفساد والتهميش والمعاقبة بوسائل القهر والاستبداد والجوع والنفي في الوطن.