جذور الإرهاب
بقلم عزالدين مبارك
العوامل الدافعة للإرهاب متحركة كرمال الصحراء الحارقة وجذورها تاريخية ولها أبعاد داخلية وخارجية ومتدحرجة وعابرة للقارات تتلاعب بها المخابرات وتؤثر فيها الأزمات الوافدة والعلاقات الدولية وهي كالريح السموم تحمل في طياتها الموت والدمار والفناء.
فلم يكن الإرهاب بمعنى قهر إرادة الاخر والتحكم فيها وفق منظومة فكرية خارجة عن السياق والسائد وليد الساعة بل كان فعلا قديما جدا لكن بمسميات أخرى وحسب مفاهيم مغايرة. فكل فعل مخالف للجماعة أو القبيلة يعد مروقا عن العرف ولو كان يحمل فكرا مقبولا حسب المفاهيم المعاصرة كالمعارضة السلمية لرئيس القبيلة أو القدح في أهليته أو رفع العصا في وجهه.
فالمجتمعات البدائية القديمة كانت تحارب كل خارج عن طاعة الحاكم ولو بالقول والنية وترهب بالبطش والشدة وحد السيف الرعية التي لا حق لها في مناقشة القرارات السلطانية مما خلق على مر التاريخ كبتا اجتماعيا موروثا ومتأصلا في النفوس فلم تستوعب الدول الحديثة خاصة في بلاد الشرق المتغيرات الحديثة على مستوى حقوق الانسان وتوزيع الثروة والحكم الرشيد وبقيت موغلة في قهرها الممنهج للأفراد والتعدي على حقوقهم ولم تتغير أنماط الحكم إلا على مستوى الخطاب والشكل الخارجي.
فالبذرة الأولى الدافعة للإرهاب في بلاد الشرق بالخصوص هي ذات بعد تاريخي ومجتمعي بحيث لم تتخلص هذه الشعوب من قهرها وكبتها المزمن بل جعلته محركا لتاريخها مثلها مثل عصبية ابن خلدون. وقد تتلذذ هذه الشعوب برؤية الدماء وتزغرد فرحا بالموت والاستشهاد وتلبس السواد كعلامة للحزن الدائم الساكن في القلوب المكلومة وبهذا تعيد ذاكرة التاريخ الجنائزي للحضارة الشرقية وتعلن أن الموت هو الطريق الوحيد للوصول للسعادة الدائمة والخلاص من العذاب الدنيوي.
فالمجتمعات الشرقية بحكم التراكمات القهرية التي عاشتها على مر العصور في ظل الامبراطوريات المتعاقبة والحروب الطاحنة التي كانت الشعوب حطبا لها دون أن تحقق أي مكسب سوى الفقر والخصاصة والضياع والتشرد في البلدان الغربية ولدت نقمة دفينة على الحاكم المتسلط والأوطان المتخلفة والعشيرة الجاحدة.
فالبلدان الشرقية لم تغير من طريقة الحكم رغم أنها تعيش في محيط متغير وحديث ومزدهر من الناحية المادية وبقيت منغلقة على نفسها متشبثة بتلابيب العرف الموروث والقوانين السلطانية القاهرة للآخر وارتكزت على بنود الطاعة والولاء والعشيرة وتشبثت بالسلطة إلى آخر الرمق دون تحقيق أي انجاز يذكر سوى تفتيت المجتمعات وخلق النعرات وتبديد الثروات. وهكذا بعثت الدول الفاشلة على أنقاض الاستعمار البغيض الذي رحل كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية وليس بفعل الثورات كما يقال والدليل على ذلك أن الدول الاستعمارية مكنت ممثليها الأوفياء من السلطة حتى تحافظ على مصالحها. وهذه هي البذرة الثانية للإرهاب بحيث لم تحقق الدول الفاشلة ما بعد الاستعمارية والتي لم تتخلص مطلقا من تبعيتها الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية أي منجز حقيقي لشعوبها بل استحوذ الحكام فيها على الثروة وصرفوها على نزواتهم وشللهم فعم البؤس والفقر والخصاصة الجميع.
وقد تفشت نتيجة ذلك في المجتمعات الأمراض الأخلاقية والفكرية ومظاهر الجريمة خاصة بين الشباب العاطل عن العمل في بيئة بائسة ترى فيها المتناقضات المستعصية على الفهم والاستيعاب مما خلق أجيالا ضائعة وناقمة تبحث عن الخلاص ولو عن طريق هدم الذات أو الهروب إلى الأمام.
والإرهاب هو تعبير عن الذات الهاربة من الواقع بالتماهي مع الايديولوجيا لتحقيق أهداف نفسية كمتنفس عن كبت دفين وموروث ورد فعل عن القوة الكامنة لدى الشباب الذي لم يجد طريقا آخر ليفجر فيها طاقاته المبدعة بحيث لم تستوعبه المنظومة الفكرية السائدة ولم يتمكن من التأقلم معها لجمود في منهجها وتخلف في اطروحاتها.
كما أن الريع البترولي (البذرة الثالثة) كان وبالا على الدول العربية بحيث تكالبت الدول الغربية على جعله في خدمة مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية واستعملته في بسط نفوذها على الدول التي تريد التخلص من التبعية الاستعمارية ومقاومة الفكر القومي والمساهمة في تمويل حروبها في شتى بقاع العالم والتدخل في تغيير الحكام والأنظمة وشراء الأسلحة. وقد كانت خديعة حرب أفغانستان ومحاربة المد الشيوعي في ظل الحرب الباردة القشة التي قسمت ظهر البعير بحيث هبت الجموع بمباركة الأنظمة المتواطئة مع أمريكا من كل حدب وصوب وبتمويل خليجي سخي إلى أدغال تورا بورا بحثا عن نصرة الله هناك وترك إسرائيل توغل في دماء الفلسطينيين وهي في قلب الوطن العربي وعلى مرمى حجر.
وعندما انقشع غبار المعركة وطالب المجاهدون بغنيمتهم تحولت صديقتهم أمريكا والأنظمة العربية المباركة لفعلهم إلى وحش كاسر وحولتهم من خانة المجاهدين في سبيل الله إلى إرهابيين وجندت العالم ضدهم وكان العداء شديدا وماحقا ودخلنا بأيدينا الحرب العالمية ضد الإرهاب (البذرة الرابعة).
ولا بد من ذكر تداعيات سقوط الاتحاد السوفياتي وشهوة أمريكا الجامحة في تأديب الدول التي لم تبايعها وتكوين واقع عالمي جديد لبسط نفوذها والتمكن من موارد الطاقة وهكذا تخلصت من نظام صدام حسين الذي كان مقدمة ضرورية لتفتيت المنطقة وتقسيمهاا لأجزاء متناحرة وذلك بمساهمة أموال البترودولار والمال الخليجي ظنا منهم أن النار التي أحرقت بلدانا كثيرة لا تصل إليهم ما داموا تحت حماية ماما أمريكا (البذرة الخامسة).
وقد كانت مسرحية ما يسمى بالربيع العربي هي آخر المستجدات والاختراعات فتم إضعاف الدول التي كانت استبدادية قاهرة لكنها على الأقل منضبطة حتى أصبحت تعيش الفوضى العارمة والشاملة فنفخت فيها رياح الإرهاب الأسود العابر للقارات فأصبح مثله مثل الطعام والشراب كالشيء المعتاد. فانقسمت البلدان في خضم صراعات على الهوية وهي التواقة للحرية والعيش الكريم ودخلت شعوبها في حرب التكفير والعلمنة وعدنا الى نقطة الصفر نهدم المعبد على رؤوسنا في حفلة تنكرية كالمجانين. فغاب العقل وانتفضت الغرائز الحيوانية الى السطح معلنة عن بداية فترة من التشظي والانفلات والتلاشي.(البذرة السادسة)
وغول الإرهاب الخارج كالعفريت من قمقمه والمنفلت بمفعول سحر الايديولوجيا سوف يأتي على الأخضر واليابس بحيث تقوده عصبية جاهلية تؤججها سنوات الكبت والحرمان الطويلة وتغذيه الأحقاد الدفينة على مر العصور وتنفخ عليه المخابرات الدولية والعصابات العابرة للقارات والدول المارقة ليبقى الجمر وهاجا والجرح نازفا.