إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى خطوة على طريق الوعي |
|
| ميلاد الأديب الكبير يوسف إدريس | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| | | | د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| | | | د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: رد: ميلاد الأديب الكبير يوسف إدريس 19/5/2009, 3:45 pm | |
| تجريب يوسف إدريس بقلم الدكتور جابر عصفور الوجه الملازم لأصالة الكتابة عند يوسف إدريس هو التجريب الذي يمضي الكاتب في فضائه دون قيد أو شرط إلا قيد الحرص على أصالته, وشرط تجذير هويته الإبداعية التي هي منطلق تفرده.
يبدو في حالة يوسف إدريس - كما لو كان التجريب هو القانون الذي يلتزم به الكاتب, ولا يتخلى عنه, في كل مراحله المتعاقبة أو متغيراته الأفقية, ساعيا به - في كل مرة - إلى الوصول بالكتابة إلى أنضر وجه محتمل من الصياغة, وأعمق تأثير ممكن في القارئ, واصلا بين حيوية فعل التجديد في كل حالة والمساءلة المتجددة للذات والواقع والكتابة. ولذلك, لم يسجن يوسف إدريس وعيه أو كتابته في نمط إبداعي أو فكري واحد, ولم يستعبده مذهب أدبي أو فكري إلى الدرجة التي تنقلب بالإبداع إلى اتّباع, بل ظل, دائما - شأنه في ذلك شأن المبدعين الاستثنائيين - متأبيا على القوالب الثابتة للفكر, متمردا على التقاليد الثابتة للإبداع, مؤمنا بأن الإبداع هو الحركة المتحررة في الحياة والكتابة, وهو الوصل المستمر بين الكتابة والحياة في معنى التحرر, لكن بالمعنى الذي صاغته كلماته التي تقول: (الأنا الحقيقية تتحرر في الكتابة فحسب, وفي لحظة من لحظات الكتابة التي أحس فيها أنني نفسي فعلا. لذلك, لا أستطيع أن أكتب إلا حين ألغي العالم كله, وأنصهر في الأنا الكل, وبالطبع ليس سهلا الوصول إلى هذه الحالة. هذه ليست عزلة, إنها الاتصال الحقيقي والصادق بالحياة).
وإذا جاز لي تفسير كلمات يوسف إدريس في سياق كتابته, واصلا بين كل مجالات هذه الكتابة, فإن معنى الاتصال بالحياة هو الاتصال المستمر بجوهرها الخلاق الذي هو رغبة التحول الدائم من مبدأ الواقع إلى مبدأ الرغبة, وفرض مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع بما يثير طاقات التجدد ويحفزها على الإبداع المستمر في كل مجال, الإبداع الذي يناقض السكون, ويرفض الاستنامة إلى قاعدة, أو الاستكانة إلى مبدأ, أو الخضوع الدائم لزعيم أو عقيدة فكرية. ولذلك, كان نوع أبطال يوسف إدريس من المثقفين - في قصصه ومسرحه - نوع البطل الإشكالي الذي لا يكف عن الصدام مع العالم ومع نفسه على السواء, فهو بطل يخرج على القاعدة, ويتمرد على العرف, ولا يستكين إلى مذهب أو قائد, ولا يكف عن وضع كل شيء موضع المساءلة, وذلك إلى الدرجة التي جعل من أسئلته علامة على حضوره, وإشارة إلى أنه يتناول كل شيء - ابتداء من حضوره الذاتي - بوصفه وضعا في حالة صنع, وأفقا مفتوحا يظل في حاجة إلى الكشف.
وما يتصف به البطل (المثقف وغير المثقف) في كتابة يوسف إدريس تتصف به الكتابة التي آثرها, فهي كتابة لا تهدأ في البحث عن تقنيات جديدة, ولا تستكين إلى أي قوالب جاهزة,وترفض المسكوكات النقدية التي تختزلها في هذا الاتجاه الأدبي أو ذاك التيار الفكري. إنها كتابة هاجسها التحول الذي تمضي معه تعاقبيا في التنقل ما بين تقنيات قد تنتسب في كل مرحلة إلى تيار بعينه, وتمضي أفقيا أو آنيا في التبدل الذي ينفي انتسابها الضيق إلى حدود (التيار) أو (المذهب) الواحد في أي مرحلة من المراحل. صحيح أن كتابة يوسف إدريس بدأت واقعية, وظلت حريصة على ملامسة الواقع والغوص في تضاريسه, ولكن بما أبعدها عن معنى الواقعية الجامد, وانتقل بها ما بين تجليات ما بعد واقعية, تجليات تباعدت عمدا عن واقعية المذهب لتغوص في تفاصيل الواقع المعيش بما يحرره أو يثير رغبة الثورة عليه.
ضد الوعي الزائف ونتيجة ذلك صعوبة اختزال كتابة يوسف إدريس في مذهب أدبي أحادي البعد, تماما كما يصعب اختزال يوسف إدريس نفسه في انتماء فكري محدد, فكتابته كتابة يناسبها أن نصفها بأنها كتابة ضد الأيديولوجيا, أي ضد الوعي الزائف, والتصنيف السهل, والبعد الواحد, واليقين الذي لا يخامره الشك, وصلف الفكرة التي تقترن بتصلب الوعي. ولذلك, كانت خلافات يوسف إدريس (المثقف) مع أصدقائه الماركسيين بوجه خاص, أو اليساريين بوجه عام, كثيرة, صاغتها - في ذروة من ذرى المواقف الحياتية - رواية (البيضاء) التي كانت محاولة إبداعية لمساءلة معنى (الهوية) في الفن والفكر, وكذلك معنى الالتزام الإبداعي والسياسي. وكانت خلافات يوسف إدريس الكاتب مع النظام السياسي متجددة, حتى في لحظات التقارب الفكري, فهي خلافات مصدرها الصراع الحتمي بين مبدأ: ليس في الإمكان أبدع مما كان, والمبدأ النقيض الذي لا يرى لإمكانات التقدم أو التطور نهاية أو حدا, ويرفض الاستكانة إلى أي تبرير يفرض السكوت أو الثبات أو القيود على فكر الفرد أو حركة الطليعة الاجتماعية. وبالقدر نفسه, كان الصدام المستمر حتميا بين كتابة يوسف إدريس ورموز الأصولية الدينية التي أخذت تتزايد, ويتصاعد إيقاع خطابها القمعي وفعلها الإرهابي منذ السبعينيات الساداتية. وهو صدام صاغته المقالات كتابة مباشرة, كما صاغته الأعمال الإبداعية كتابة غير مباشرة, هي معادلات موضوعية وموازيات رمزية, ناوشت التكوينات الفكرية والآليات العملية للسلوك الإرهابي, حتى في المعتقلات, مؤكدة بأكثر من دلالة رفض التصلب الفكري والتعصب الاعتقادي, وإدانة خطاب القمع الذي ينتقل من الإرهاب المعنوي إلى الاستئصال المادي.
وتردني هذه النتيجة إلى الأصل الذي تولّدت عنه فيما يتصل بغائية فعل التجريب في كتابة يوسف إدريس, فهو فعل لا يبحث عن التغيير لمجرد الاستطراف, ولا تتبدل أحواله حسب الموضات, ولا تتغير به التقنيات على نحو مجاني أو عشوائي, وإنما على نحو مقصود وغاية مرتبطة بطبيعة رؤية العالم الكامنة وراء تغير الأساليب والتقنيات, والمتسمة بالتغير الذي يباعد بينها والثبات, والذي يجعل من علاقتها بأشكالها علاقة جدلية, يسهم فيها كل طرف في متغيرات قرينه, على مدى الامتداد الزمني لكل أنواع الكتابة إلى النهاية. ولو شئنا, من هذا المنظور, أن نصف كتابة يوسف إدريس منذ أن نشر قصته الأولى التي لفتت الأنظار إليه في جريدة المصري, فإن العنصر الثابت الدائم في هذه الكتابة هو عنصر التجريب المستمر. لقد بدأ بداية واقعية كما قلت, نحا فيها منحى تشيكوفيًا, غير بعيد عن التأثر بالكاتب الروسي أنطون تشيكوف الذي كان طبيبا مثله, ولكن تأثره لم ينته به إلى التقليد, وإنما إلى الموازاة التي تؤكد الإبداع لا الاتِّباع. ولذلك, سرعان ما انتقل إلى محاولة المزج بين المنحى التشيكوفي وصياغة الجمل القصيرة المتدافعة, وذلك في أسلوب أقرب إلى أسلوب هيمنجواي الكتابي, أو ما يوصف بأنه أسلوب جبل الثلج العائم الذي لا يبدو منه على سطح الماء إلا أصغر أجزائه, كالجمل التي تتدافع عارية من الزخرفة اللفظية أو المجازية, حاملة دلالات تتولد عنها دلالات كثيرة, تتزايد كلما أمعنا في تأملها. وانتقل يوسف إدريس من أسلوب جبل الثلج العائم إلى الكتابة الرمزية التي تتعدد فيها الدلالات, ويشف الرمز عن المرموز إليه على نحو لا يخلو من الالتباس, ولكنه الالتباس الذي لا يصل إلى درجة التعمية, وإنما إلى درجة الإفادة من مراحل الدوال المصاحبة لحركة الرمز على امتداد سياق السرد. وكما قاد اتساع الرؤيا إلى ضيق العبارة, في الكتابة الرمزية التي لا تخلو من تأمل إيحاءات (المرتبة المقعرة) أو فحيح أصوات (بيت من لحم), فإن هذه الكتابة انقلبت إلى نوع من التمثيل الكنائي, أو الأليجوريا التي يمكن أن تومئ إلى المعنى المحتبس, أو الدلالة المقموعة, أو الموضوع الذي لا يمكن التصريح به, وذلك على نحو ما فعلته اللغة القصصية المحملة بالرفض السياسي في أعمال من مثل (حمّال الكراسي) أو (العملية الكبرى) أو (الجمل) أو (أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور) وغيرها.
الغوص في طبقات الشعور وما بين المنحى التشيكوفي ومنحى التمثيل الكنائي, ظل الحرص على استبطان مشاعر الأبطال قائما, لا يختلف عن رغبة الكتابة العارمة في الغوص عميقا, داخل طبقات الشعور واللاشعور التي تنطوي عليها الحالات النفسية للشخصية. وبدل وصف الشخصيات من الخارج, والحكاية عنها بمفردات الراوي العارف بكل شيء, كان الميل الغالب هو إنطاق الشخصيات نفسها بما يبين عن أعماقها, أو الغوص في هذه الأعماق ووصفها على نحو دقيق لا يخلو من نزوع تحليلي لا يترك شاردة أو واردة إلا استوعبها كتابة. ولذلك ضاقت المساحة الزمانية المكانية للحدث, في القصة القصيرة, والرواية إلى حد كبير, واتسعت - مقابل ذلك - المساحة المخصصة للزمن الشعوري والتداعيات النفسية للمكان. واتجه السرد في القص اتجاها رأسيا أكثر منه أفقيا, اتجاها يغوص إلى أعماق الشخصية في لحظة الفعل الذي تمارسه في زمن ميقاتي محدود, كاشفا عن أزمانها الشعورية غير المحدودة, وعن دوافعها المركبة غير المنظورة, كما لو كانت أحوال الشخصية النفسية كيانات قابلة للتشريح الذي يبين عن كل شيء, ويسعى إلى تعرف أصل الفعل أو السلوك أو الموقف, في أناة وصبر, وبواسطة تحليل دقيق لتموجات المشاعر في كل تفاصيلها وتقلباتها وتعارضاتها وصراعاتها. والنتيجة هي السرد الذي يغوص رأسيا إلى أبعد نقطة في الشعور, متحركا ما بين نقطة بداية ونقطة نهاية محدودة وقصيرة في زمنها الميقاتي غير محدودة في زمنها الشعوري.
ويمكن لقارئ إدريس أن يسترجع المسافة الزمنية القصيرة التي يتحدد بحدودها فعل عميد الكلية, في قصة (حال تلبس) من مجموعة (لغة الآي آي) ابتداء من اللحظة التي رأى فيها طالبة لا تتعدى السابعة عشرة بأي حال, تجلس مسترخية, وتدخن بكل بساطة سيجارة تمتصها بمزاج,وانتهاء باللحظة التي قرر فيها العميد استدعاء الطالبة وعقابها, والمسافة الخارجية بين اللحظتين لا تجاوز الدقائق المعدودة, وقد لا تستغرق دقيقتين, ولكن المسافة الداخلية لرحلة الغوص في الطبقات الشعورية لعميد الكلية طويلة, تجاوز الأيام الى الشهور والأعوام, وتصل ما بين الطفل الذي ولد وتربى في سوهاج, والرجل الذي تثيره طريقة التدخين التي ينطوي وصفها على إيحاءات جنسية, والعميد الممزق فكريا بين الشرق والغرب, ورغبة التحرر وواقع الاستسلام إلى الجمود داخل المثقف العربي بوجه عام, وتصارع ذلك كله بما ينتهي بالعميد إلى قرار العقاب الذي يبدو فوريا, لكنه ناتج عن عشرات التفاصيل الشعورية التي نكتشفها ونحن نمضي بعيدا, وطويلا, مع حركة الغوص السردي رأسيا في عمق اللحظة الزمنية القصيرة. بل بالغة القصر, على مستوى السطح الخارجي لتعاقب الزمن الميقاتي.
| |
| | | د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: رد: ميلاد الأديب الكبير يوسف إدريس 19/5/2009, 3:48 pm | |
| تابع - تجريب يوسف إدريس بقلم الدكتور جابر عصفور
تحولات أفقية ورأسية
ولكن حتى هذه الخاصية المقترنة بالغوص الرأسي للسرد, مراوحة ما بين لغة الراوي العارف بكل شيء, أو لغة البطل المتكلم في نجوى الذات أو تداعيات الشعور, لا تظل ثابتة, أو باقية, وإنما تزاحمها في سياقات, وتزيحها في سياقات مقابلة, خاصيات سردية مغايرة, خاصيات لا تقترن بالغوص السردي رأسيا في طبقات الشعور, بل تغامر في نزوعها التجريبي بمايؤدي إلى ظهور تقنيات جديدة, تقنيات تستبدل بالتعيين التجريد, وبالتخصيص التعميم, والوصف الخارجي بالاستبطان الداخلي, ومن ثم الاستعارة الرمزية الموجزة بالكناية الواقعية المسهبة, وباللغة النثرية التي لا تخلو من العامية, اللغة الشعرية المكثفة. هكذا, يختلف سرد قصة (أرخص ليالي) الخمسينيات عن سرد (لغة الآي آي) في الستينيات, عن سرد (المرتبة المقعرة) في السبعينيات, أو سرد (العتب على النظر) في الثمانينيات. ولا تقع المغايرة على مستوى التعاقب في هذا السياق, كما لو كان الأمر أمر مغايرة لتعاقب تحولات مقترنة بمراحل زمنية متتابعة, وإنما تقع في داخل كل عقد زماني, أو كل مرحلة على حدة, فهي مغايرة أفقية ورأسية في آن. ودليل ذلك أن الكاتب الذي كتب قصة (نظرة) في الخمسينيات هو نفسه الذي كتب قصة (طبلية من السماء و(شيخوخة بدون جنون) في الخمسينيات نفسها. وهو ذاته الذي كتب (فوق حدود العقل) و(أكبر الكبائر) و(مسحوق الهمس) و(النداهة) و(حمال الكراسي) و(حلقات النحاس الناعمة) أو (دستورك يا سيدة) في الستينيات نفسها.وقس على ذلك (المرتبة المقعرة) و(حلاوة الروح و(على ورق سلوفان) و(بيت من لحم) في السبعينيات, أو (يموت الزمار) و(السيجار) و(العتب على النظر) أو(أمه) في الثمانينيات. والدرجة العالية من المغايرة الواقعة بين التقنيات في هذه الأمثلة تشبه التقلب اللافت ما بين الأساليب, خصوصا من حيث الدلالة على الحضور المستمر لمبدأ الفعل التجريبي في كتابة يوسف إدريس القصصية. تجريب في القصة والمسرح ويصعب التمييز في مجال التجريب بين ما فعله إدريس في مجال القصة القصيرة أو مجال المسرح, ففعل التجريب يبسط نفسه على المجالين معا, لا يتمايز في هذا عن ذاك, الأمر الذي يؤكد نزوعا أساسيا عند القاص الذي رفض تقبل أشكال القصة على نحو ما وجدها عليه, والكاتب المسرحي الذي تأبّى على الشكل التقليدي في المسرح واستهل شكلا جديدا, أنتج (الفرافير) و(المهزلة الأرضية) وغيرها من المسرحيات التي لا تزال تجذب إليها الانتباه بحرصها على معنى الاحتفالية والفرجة. و(الفرافير) بنية حوارية, مكتوبة على أساس اشتراك الجمهور والممثلين في إنتاج العمل المسرحي دون حواجز وهمية تفصل بين المشاهدين والمؤدين, وذلك إلى الحد الذي يسقط (الحائط الرابع) الذي يعزل الممثلين عن الجمهور, وينتقل بالجمهور من أحوال التلقي السلبي إلى أفعال التلقي الإيجابي الذي يقترن بالمشاركة الفعالة باعتبارهم وحدة واحدة. وإذا كان على الجمهور أن يسهم في العرض بالتعليق, داخل البنية الحوارية للعرض, على نحو ما يحدث في (السامر) الشعبي, فإن الممثل الذي يلعب دور (الفرفور) ينبغي ألا يندمج في الدور بحيث ينسى جمهوره, بل عليه أن يقسم وعيه بين الدور والموقف والانفعال من ناحية والجمهور من ناحية ثانية, ذلك لأن (الفرفور) لا يمثل وعيه الفردي حين يؤدي (المونولوج) الخاص به, أو ينطق الجمل المكتوبة له في النص. وإنما هو تمثيل لوعي غيره من النماذج المشابهة, وما يفعله أداءً هو اختبار هذا الوعي مع غيره الذين يشبهونه أو يختلفون عنه. وما يقال عن (الفرافير) بوجه خاص يقال عن المسرح كما يتصوره يوسف إدريس بوجه عام, وذلك من حيث صياغة أداء درامي لا يعتمد على مخاطبة الشعور الفردي للكائن وسط الجماعة, وإنما على مخاطبة الشعور الكلي للجماعة المنبعث من بين أفرادها. وذلك هو مصدر الفرق الذي يميز (الفرافير) حتى عن التقاليد الملحمية التي أسسها الكاتب الألماني برتولد بريخت في المسرح العالمي. ولا يعني ذلك أن يوسف إدريس لم يتأثر بتقنيات الكتابة المسرحية عند بريخت, فالثابت أنه تفاعل معها, وتأثر بالكتابات النظرية لبريخت عن الأورجان الجديد الذي تصوره للمسرح. خصائص الفرفور ويتطلب هذا الشكل المسرحي ضرورة وجود درجة عالية المرونة والحيوية والتلقائية عند الممثل, وذلك بما يعينه على الاستجابة الفورية لتقلب أحوال علاقته مع الجمهور, أو تقلب أحوال الجمهور في استجابتهم إليه, فيغدو مستعدا للتعديل الفوري للنص حسب الإشارات الواصلة إليه. هكذا, يتأنى الممثّل (الفرفوري) أو يسرع أو يتوقف, أو حتى يضيف كلمة أو أكثر إلى النص, مرتجلا من حركات الجسد ولغته ما يستجيب على الفور إلى متغيرات المشاهدين أو حتى تعليقاتهم وتدخلاتهم التي هي حقهم في الفعل الحواري للعرض. وإذ يؤكد يوسف إدريس أن لشعبنا طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء, واصلا بين ميراثه الشعبي وعملية تأصيله المسرح, فإنه يؤكد أن على الممثل أن يرى المواقف بعينه وعيون كل الجمهور المحتشد لمشاهدته على السواء, وذلك في أداء يهدف إلى أن يحدث تغييرا كبيرا من طريقة التمثيل نفسها, فلا يصبح الأداء خطابة رصينة مثل مونولوجات جورج أبيض أو يوسف وهبي المشهورة, أو همسًا متهافتا في هشاشته, وإنما جمل حوارية, يمكن أن تكون همسا له وقع الخطب الرنانة التي تتلقفها الأذن كأنها الهمس. وفرفور يوسف إدريس خفيف الدم. واحد من القلة القليلة الدالة في نموذجيتها ونمطيتها على أبطال يوسف إدريس من ناحية, وعلى الشخصية المصرية من ناحية ثانية, فهو شخصية لا يكف لسانها عن (سلخ) الأوضاع والآخرين والأصدقاء ونفسها وكل شيء, مزيج مركب من (أحمد المجلس البلدي) ومن (الشيخ علي) و(البرعي) و(محمد) و(أبو الهول) و(الجندي) في قصص يوسف إدريس القصيرة ورواياته. هذا المزيج الذي تتكون منه شخصية تنتزع الضحك من الآخرين أو البسمة, وتجبرهم على الإنصات إليها, يجتمع في إنسان عادي تماما, ولكنه يختلف عن أقرانه في أن له رأيا في كل شيء, وفي أنه يلح على أن يوصل رأيه, بواسطة السخرية أو التعقيب الماكر, أو النكتة التي تروض الجبابرة, أو الفهلوة التي تجد حلولا عجيبة للمواقف التي قد تبدو مستحيلة. ومهما ضحكنا أو ابتسمنا لسخرية هذا (الفرفور) الذي قابلنا بعض صفاته في قصص يوسف إدريس, قبل أن يقابلنا حضوره الكامل في المسرحية التي حملت اسمه, فإننا لا نستطيع أن ننسى الأثر الذي تحدثه كلماته في النفس, فهي كلمات تهدم وتبني النفوس, وتوخز الأرباب وتسقط عنها الأقنعة الكاذبة, وذلك في الوقت الذي تخلع عنا أردية المَلَق أو النفاق أو الخوف. وما أسرع أن يتحول هذا الفرفور إلى قناع مسرحي, ينطق من خلاله الكاتب الذي يسخر حتى من نفسه, وكأنه انعكاس للفرفور الذي يتبادل معه الصنع, ويحتج معه على الفساد الاجتماعي والسياسي, محاورا المشاهدين الذين هو منهم والذين هم إياه بأكثر من معنى, صارخا فيهم بعباراته الكاشفة, قبيل إغلاق الستار: (شوفو لنا حل, حل يا ناس, حل يا هوه.. لازم فيه حل.. لا بد فيه حل.. مش عشاني أنا.. عشانكم أنتم). وهي عبارات تكشف عن الصوت المختفي وراء قناع (الفرفور) والذي اختفى وراء قناع آخر في (المخططين) ليصرخ في كل من حوله من المشاهدين, مؤكدا وجه اختلاف حتى في دائرة مشابهته, قائلا: (أنا كافر بخطوطكم وأبيضكم وأسودكم, أنا العالم بتاعي, العالم اللي بيناديني وبحلم بيه عالم تاني خالص. أنا لا يمكن أن أخدع نفسي, وأضحك عليها. لا يمكن أخدع الناس اللي برا دول وأكدب عليهم). وتلك عبارات دالة على مغزاها السياسي والاجتماعي في الوقت نفسه. وتحدد نوعية قائلها أو كاتبها, خصوصا من حيث هوية كتابته التي لا يمكن أن تخدع الناس أو تكذب عليهم, بل تبشرهم بعالم آخر يُجاوز عالمهم المنحدر, وتدفعهم إليه دفعا يصل إلى درجة التحريض. وحين تؤكد هذه العبارات حضورها التصوري والتقني, في تجاوب الموقف والأداة, فإنها تؤكد أن تغيير حياة الناس وتثويرها لا يمكن أن يتم إلا بتغيير علاقات إنتاج الفن الذي يخاطبهم وتثويرها. ومن هذا المنظور, كان تأصيل الكتابة الجديدة في القصة والمسرح, والبحث الدائم عن هوية متميزة لها, سواء في علاقتها بواقعها الذي تنقض تخلفه أو علاقتها بالآخر الذي ترفض تقليده أو اتِّباعه. قالبنا المسرحي وكما كانت قصص يوسف إدريس بداية لعهد جديد من الكتابة, ترك علاماته في الأجيال التي جاءت بعده, وبرزت هذه العلامات ابتداء من الستينيات, متناثرة في كتابات أبناء الجيل الذي تمثَّل كتابة يوسف إدريس وأعاد إنتاج تقنياتها في أشكال عديدة تومئ إلى أصلها, مؤكدة دين كتاب الستينيات للآفاق التي رادها يوسف إدريس, والأساليب التي ابتدعها, والتقاليد الموجبة التي أسسها, فإن مسرحياته كان لها الأثر نفسه, كما كان للبيانات النظرية التي كتبها, والتي سبقت مسرحياته أو واكبتها أثر على الأجيال اللاحقة بل على الجيل السابق عليه. ولذلك, كان تأصيل يوسف إدريس لفن المسرح, إذا شئنا التخصيص, افتتاحا لبداية جديدة في تأصيل المسرح العربي كله. ودليل ذلك أنه بعد ظهور مقالاته في مجلة (الكاتب) بعنوان (نحو مسرح مصري) بأعوام قليلة, أصدر توفيق الحكيم كتابه (قالبنا المسرحي) عام 1967 ليصل بالأطروحة التي بدأها يوسف إدريس إلى مداها الطبيعي, ويطرح على نفسه السؤال: هل يمكن أن نخرج عن نطاق القالب العالمي أو نستحدث لنا قالبا وشكلا مسرحيا مستخرجا من داخل أرضنا وباطن تراثنا? ويؤكد الحكيم أن الأمر ممكن بالعودة إلى التراث, وتطوير الوظيفة التي كان السابقون يقدمون بها الحكواتي والمقلداتي. وإذا كان يوسف إدريس قد دعا إلى الإفادة من مسرح السامر الشعبي فإن الحكيم يدعو إلى تجاوز مسرح السامر إلى ما هو أوسع منه, ولكن الأكثر أهمية عند الحكيم أن يكون القالب المسرحي العربي قابلا لأن يكون وعاء يحتوي غيره. يقصد إلى أن الشرط الأساسي للقالب العربي هو أن يستطيع الأوربيون, بدورهم, هم وغيرهم من مؤلفي العالم, أن يصبوا في هذا القالب أفكارهم وموضوعاتهم, شريطة المحافظة على أساس فلسفة هذا القالب التي تختلف عن فلسفة القالب الأوربي, وهي أنه يقوم على فكرة (التقليد) وليس على فكرة (التمثيل) و(التقليد) هو الأداء (الفرفوري) الذي يقوم به (الحكواتي) من وجهة نظر توفيق الحكيم. أما (التمثيل) فهو الأداء الذي يقوم على المحاكاة في أصولها الأرسطية وقواعدها التي تجعل من العمل الدرامي موازاة مستقلة للواقع المنفصل عنها, والذي تسعى هي إلى التباعد عنه لمعرفته عبر حائط وهمي يفصلها عن جمهوره. وبعد الحكيم بعام واحد, مضى على الراعي بأطروحة يوسف إدريس إلى أفق مغاير في دراسته لدور (الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري). وكان ذلك في كتاب الهلال الذي صدر عام 1968, حيث يشير الراعي إلى المحاولات المواكبة, والموازية, التي حملت الدعوة نفسها في الوطن العربي كله. وكان صدور كتاب الراعي علامة على تحقق الهدف من التأصيل الذي صاغه يوسف إدريس, واختبره تجريبيا في مسرحه, فدفع الآخرين إلى الحوار مع تأصيله النظري وتأصيله التجريبي, والبدء منه إلى ما يمكن أن يفضي إليه من نتائج موازية | |
| | | د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| | | | د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: رد: ميلاد الأديب الكبير يوسف إدريس 19/5/2009, 3:55 pm | |
| يوسف إدريس.. عاشق المال والنجومية الذي كتب للسادات.. كتبه جهاد فاضل في المعلومات التي كشفت اخيرا عن الروائي والقاص المصري الكبير الراحل الدكتور يوسف ادريس، ان عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس ادارة جريدة 'الجمهورية' (في حينه) أنور السادات أعجب به ككاتب الى درجة انه عهد اليه بكتابة عموده اليومي الذي كان يشكل افتتاحية 'الجمهورية' موقعا باسم السادات ومكتوبا بكليشيه بخط يده.. وقد ظل يوسف ادريس يعمل مع السادات في 'الجمهورية' حتى اصطحبه معه الى 'المؤتمر الاسلامي' الذي كان السادات يشرف عليه ايضا، ليتفرغ لتأليف ثلاثة كتب حملت اسم السادات كمؤلف، واعتبرها يوسف ادريس مهمة وطنية عليا. في تلك الفترة توثقت علاقة ادريس بالسادات. وكان يتردد عليه بانتظام في منزله بالهرم. وايامها طلبت احدى دور النشر البريطانية من السادات ان يضع كتابا عن 'القصة الداخلية' لحرب السويس، فأوكل هذه المهمة ليوسف ادريس ايضا، فألف هذا الاخير الكتاب ثم تمت ترجمته الى اللغة الإنكليزية في مكتب شهدي عطية الشافعي احد قادة الشيوعيين. كما ألف يوسف ادريس للسادات كتاب 'معنى الاتحاد القومي' سنة 1958 الذي قامت فكرته على التضامن بين الطبقات والفئات وعلى ما سمي يومها الاشتراكية الديموقراطية التعاونية.
وقد كان كل ذلك مستغربا للوهلة الاولى من كاتب يساري، بل شيوعي عضو في منظمة 'حدتو' المتطرفة السرية، طالما عرف قبل هذه 'الألفة' القوية مع عضو مجلس قيادة الثورة انور السادات، بانه سجن قبل ذلك مباشرة على يد النظام الناصري، وبانه كان من ألد اعداء هذا النظام. فهو عضو بارز في 'حدتو'، كما هو في مجموعة الكتاب اليساريين الواعدين يومها. ويبدو ان ما جعل يوسف ادريس ينتقل على هذا النحو من اليسار الى اليمين له عدة اسباب منها عشقه للنجومية وجشعه للمال والضوء. فبعد ان قرر اتخاذ الكتابة حرفة، وتبين له انه لن يكون سوى طبيب عادي إذا ما قرر امتهان الطب، علم السادات بأمره، فرتب له وظيفة بلا عمل فعلي في وزارة الارشاد القومي، ثم عينه مساعدا له في 'المؤتمر الاسلامي' بعد تركه جريدة الجمهورية.
ويروي الفريد فرج ان يوسف ادريس جاء يوما لزيارته في جريدة الجمهورية، فكان الفريد فرج يشترك مع احمد رشدي صالح في ادارة القسم الثقافي بالجريدة، فطلبا من رئيس التحرير (وكان يومها الشاعر كامل الشناوي) استكتاب يوسف ادريس قصة شهرية بالجريدة مقابل اجر قدره 25 جنيها، وهو مبلغ مهم يومها وسعد يوسف ادريس بالتكليف وبالاجر، وقال في حماسة: 'لو انني استطيع ان اتفرغ للادب واترك وظيفة طبيب صحة الدرب الاحمر'! والواقع ان من يدرس سيرة يوسف ادريس يدهش لهذا التناقض الحاد الذي حكم ليس بداياته الادبية والذاتية وحسب، بل حياته كلها، فبعد مرحلة الالتزام اليساري الاولى التي لم تدم طويلا، اخذ يبحث عن المال والشهرة غير آنف في طلبهما من اي جهة من الجهات، سواء مصرية او غير مصرية، ففي مصر رأينا انه كان يساريا او شيوعيا، ومعاديا لثورة 23 يوليو ولدرجة دخوله السجن ثمنا لمواقفه السلبية منها، ثم رأيناه بعد ذلك يعمل كاتبا مأجورا لدى انور السادات يكتب له المقالات ويؤلف الكتب وينقله السادات معه من هذا المنصب الذي يتبوأه الى ذاك، ثم يخاصم السادات بعد ذلك، ويلجأ الى القذافي مستعطيا مرتزقا، وكذلك الى صدام حسين ينال منه الجوائز، ثم يتركهما بعد ذلك هاجيا متنكرا لما منحاه اياه من مال وغيره تبعا للمزاج العام السلبي يومها من الاثنين.
ومن عرف يوسف ادريس في مرحلته الثانية وهي مرحلة التنكر لليسار وانفصاله التام عنها، بل وعدائه لها، يحار في البداية في تفسيره لكل ما كان، فاذا تعمق في دراسة الاسباب والظروف لم يجد سوى عشق يوسف للنجومية والمال، فمنظمة 'حدتو' قادته الى السجن و'اليسار' كله لم يؤمن له على مدار علاقته به، ما امنته له قصة قصيرة ينشرها كل شهر في جريدة كبرى من جرائد الثورة وهاهي ظروف التعاون الجديدة مع رجال ثورة يوليو ترفعه الى الواجهة وتجعل منه نجما من نجومها ومن نجوم الادب في مصر، فهل يترك كل ذلك ليتحول الى مجرد عضو في 'حدتو' او الى كاتب يساري ينتقل من سجن الى آخر؟ ويبدو ان عشقه للحياة، وللحياة الرغدة البورجوازية، جعله يدفن، والى الأبد، كل تلك الكليشيهات الايديولوجية الجامدة التي حفظها زمن 'حدتو'. ولم يخطئ أدوار الخراط عندما كتب مرة 'ظل يوسف ادريس يهب على حياتنا الثقافية والأدبية والاجتماعية طيلة اربعة عقود كما تهب العواصف، أو زوابع الخماسين أحيانا.. تدفعه وتحفزه دون توقف عرامة عضوية ونفسية معا، وشجاعة الاقتحام، وشهوة احتلال الصدارة، والاستئثار بموقع فريد تحت الاضواء، وحرارة الاقبال على العب من الحياة عبا نهما'.
وتسلم محمود أمين العالم الخيط من ادوار الخراط، فقال ان يوسف ادريس جعل من ممارسة حياته نفسها، وبشكل ارادي واع جسور، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، مجالا حميما للتجريب والغوص والمعاناة والمصادمة بهدف اكتشاف جوهر الطبائع والدلالات والقيم، والامكانات والأشواق الخافية في اغوار النفوس وفي تشابك العلاقات والاوضاع الاجتماعية والإنسانية عامة.. الغوص والالتحام والمصادقة كانت بعض مناهجه في المعرفة. ولم يكن الأمر يتم افتعالا وتصنعا، بل كان ينبع تلقائيا برغم ارادته له ووعيه به. ويضيف محمود العالم: في لقاء قديم معه بين كوكبة من الاصدقاء، كنا نحتفل بمناسبة تتعلق به. وقف كل واحد منا يتحدث عن يوسف ادريس. واذكر اني قلت له: انك يا يوسف تذكرني دائما 'بفاوست' الذي يدفعه حبه للمعرفة والامتزاج بها الى مغامرات يمكن ان تتجاوز كل حدود ممكنة أو مألوفة، الا انك لا تفقد ذاتك ابدا في هذه المغامرات، وانما تخرج من كل مغامرة معرفية ـ مهما طالت ومهما كانت طبيعتها ـ بكنوز من الخبرة التي تغذي بها ابداعك الأدبي.. ويقول محمود أمين العالم ان شطحاته الشخصية كانت مصدرا يستقي منه الهامه الفني، وكان يقدم حياته قربانا لشيطان الابداع، لكنه ما كان يفقد ابدا وعيه الفكري والتزامه الوطني والاجتماعي، أو يبتذل موهبته الفنية.
ومع انه كان 'رجل' السادات، كما رأينا، الا ان السادات انقلب عليه في مرحلة لاحقة، وعلى التحديد عام 1973. انقلب السادات عليه وعلى حوالي مائة كاتب فصلوا من اعمالهم في بداية عام ،1973 لكن يوسف ادريس اعتبر نفسه المستهدف الوحيد، وظلت تطارده عقدة الاضطهاد، وقد ازداد مع الوقت احباطا واسرف في البحث عن مقومات التوازن بين داخله وخارجه، وبين الوجه والأقنعة بينه وبين الدولة، وبينه وبين المجتمع، وبينه وبين نفسه، وقد استنزفه البحث عن التوازن المفقود، سواء بالامراض التي تكثفت مطاردتهاله، او في محاولات التخفيف من الالم. ومع الوقت توسعت خصوماته المجانية مع تيارات سياسية لم يستهدف اصلا الاساءة اليها، ومن ثم كان المشهد في بعض الاوقات عبثيا.. حصار من جميع الاتجاهات، وحرب على كل الجبهات، وكأنه ضد الجميع، وكأن الجميع ضده! وفي اوقات اخرى، كان يبدو على العكس وكأنه مع الجميع.. وفي اوقات ثالثة كان لا يدري ما اذا كان ضد او مع وكأنه يخفي نفسه عن الجميع خوفا او استرضاء. لم يفهم احد لماذا اصبح عضوا في حزب الوفد في احدى اللحظات، ولماذا استقال فجأة من الوفد.. لماذا ايد الخطوات السياسية للرئيس السادات ثم عاد وسحب هذا التأييد في كتابه 'البحث عن السادات'!
وكانت حروبه احيانا شبه يومية. فالشيخ متولي الشعراوي يتهمه في دينه. واشتمل الموقف غضبا على الكاتب الذي اصبح دمه مهدرا، فلم يعد ثمة مفر من الاعتذار والتراجع علنا على صفحات 'الاهرام'! واتهمه وزير الاعلام محمد عبدالحميد رضوان بالاغماء الفعلي تحت وطأة المخدر الذيدأب على تناوله. ولم يكن امام يوسف ادريس من ملاذ سوى القضاء الذي حكم لصالحه ضد الوزير! وحاكمه المجلس الاعلى للصحافة على كتابه 'البحث عن السادات' وعلى انتقاداته اللاذعة لحرب اكتوبر 1973 وفيها ما يمس القوات المسلحة. واقام الدنيا واقعدها عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل معتبرا انه الاجدر للفوز بها، وانه لو فاز بها لاستخدمها اداة نضالية ضد الاستعمار والامبريالية واسرائيل.. وذكر صراحة ان نجيب محفوظ فاز بالجائزة بسبب دعوته علنا للصلح مع اسرائيل! ولانه انقطع انقطاعا تاما عن كتابة القصة والرواية في سنواته الاخيرة، فقد اعتبر كثيرون ان ذلك شكل دليلا على نضوب ابداعه الادبي، خاصة وانه انصرف الى كتابة مقالاته الاستفزازية في 'الاهرام' على مدى عشرين عاما، دون ان يصدر له سوى مجموعة قصصية واحدة اسمها 'العتب على النظر' اعتبرها الباحثون نوعا من 'كناسة الدكان' على حد تعبير يحيى حقي، او تجميعا متأخرا لما كان قد كتبه في مراحل سابقة ولم ينشره من قبل. على ان الكثيرين يرون ان اكثر ما بقي من يوسف هو قصصه القصيرة قبل اي شيء آخر. فقد كان الفارس الاول للقصة القصيرة، وربما عبر تاريخ القصة القصيرة المصرية كله. ولان قصصه القصيرة كانت تشغل وضعا محوريا في نتاجه، فان هناك عددا من مسرحياته، منها 'جمهورية فرحات'، و'المهزلة الارضية' و'الجنس الثالث' كانت قصصا قصيرة في الاساس. كما انه كان يقول ان كثيرا مما عرف من إنتاجه على انه روايات، ليس بروايات، وانما قصص قصيرة طويلة | |
| | | د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: رد: ميلاد الأديب الكبير يوسف إدريس 21/5/2009, 11:56 pm | |
| يوسف إدريس .. أين فى الرمضاءِ ظلٌ من ظلالك بقلم: محمد المخزنجي عرفت أنه من سرير المستشفى فى لندن طلب تسجيلات أغانى عبدالوهاب. وكانت تلك بشارة رائعة، فاستيقاظ هذا الجزء من المخ الجميل بعد الغيبوبة الطويلة، يعنى أن الميلاد الجديد محتمل جدا، وقريب، فكما فى هرم الاحتياجات البشرية المنسوب لماسلو، حيث الفن والأدب والثقافة هى قمة الهرم، المخ أيضا يتوِّج وظائفه بهذه القمة المرهفة. فطلب يوسف إدريس لأغانى عبدالوهاب، كان يعنى أن الوعى صعد إلى القمة، وأن شفاءه اكتمل، أو اقترب كثيرا من الاكتمال. أنعشنى هذا الخبر، فطرت لأتزوج فى سورية، وكان هو متحمسا لهذا الزواج الذى حدثته عنه قبل مرضه، وظل يومها يحدثنى كثيرا عن سورية وأهلها، وأحبابه فيها. والمفارقة الغريبة أنه فى الليلة التى تعثر فيها فى حرف السجادة وارتطم رأسه النبيل الجميل بزجاج النافذة السميك، وحدث نزيف المخ، كان على موعد للسفر إلى سورية، لهذا كانت سورية تتابع أنباء مرضه بقلق كبير، وحب، وأكثر كثيرا من مجرد الدعاء.
*** بعد خمسة عشر عاما من زواجى، وإنجابى للولدين اللذين رأيا النور والتقطا أول أنفاسهما فى سورية، لم أكن ذهبت إلى بلودان، مصيف عبدالوهاب الشهير، برغم كل الحكايات الساحرة عن مناخها. كان ذلك ترفا بالغا بالنسبة لواحد مثلى، يعتبر أن قضاءه وقتا فى شرفة شقة بسيطة فى حى هادئ فى مدينة سورية، تحيط به عدة أشجار برتقال وليمون حلو، وتتنقل بين الأفاريز بضع يمامات تعشش فى المكان وتألف وجوده، وسرب حمام يحلق فى سماء العصارى كأنما من أجله، مع كوب الشاى بالنعناع ورقة النسائم، كان ذلك منتهى الإرَب من أجل الأدب. لكننى انسحرت ببلودان التى قضيت فيها يومين فى عز أغسطس، ذلك المناخ الفردوسى فى تراس فندق بلودان الكبير المطل على الجبل والوادى، ووجدت نفسى أهتف فى نفسى: «يابن الإيه يا عبدالوهاب»، وإذا بى أرى طيف عبدالوهاب، فى عز أغسطس أيضا، يرتدى بدلة كاملة تناسب لسعة البرد الخفيفة العذبة فى نسيم بلودان، ولم أشعر بنفسى إلا وأنا أتساحب لأصعد وراءه الدرج الخشبى، المفروش ببساط أحمر، يصعد إلى الطابق الثانى، إلى الجناح المخصص له، والذى لايزال يحمل اسمه، لكننى اكتفيت من الفضول بأن أرى الطيف يتجه إلى الشرفة ثم يشف، ويتحول إلى نغم ساحر، يرف فوق الوادى الأخضر، ويشاغل وردية الجبل، وزرقة السماء الصافية القريبة. وكنت وانا أهبط درج الجناح أكرر : «يابن الإيه يا عبدالوهاب». فقد تكشفت لى حقيقة المقولة المتواترة عن أن فنه كان أول أولوياته، وقضاؤه الصيف فى بلودان دليل ساطع على ذلك، فلم يكن مستعدا لتبديد لحظة من ضغط القيظ القاهرى على ذاته المبدعة، قبل أن تتطور أجهزة التكييف، ولعله بوسوسته الصحية كان لا يحب هذه الأجهزة، ويفضل عليها نسيم بلودان المُكيَّف ربانيا. كانت إمكانات عبدالوهاب تسمح له بشَغل هذا الجناح الجميل فى فندق بلودان الكبير طوال الصيف، وجعلنى هذا أتحسر على الكُتّاب الذين لم يمتلك أيهم ترف مثل هذا الاختيار، ولا حتى نجيب محفوظ بعد نوبل. وبينما كنت أصغى، عبر سماعات هاتفى النقال، لأغنية نادرة لعبدالوهاب فى تراس بلودان الكبير تقول: «هذه الدنيا هجير كلها / أين فى الرمضاء ظل من ظلالك»، شعرت بوخزة فى القلب إذ افتقدت يوسف إدريس، فيوم طلب أغنيات عبدالوهاب، ظننت أنها بشارة بكامل الشفاء وسلامة العودة، ولم أفطن إلى أنها كانت إشارة إلى تسامى الروح، والتفاتة ما قبل الوداع. *** سألت يوسف إدريس يوما عما يفعله فى الأهرام، لماذا لايتفرغ لإبداعه؟ وأخبرنى أنه ليس مطلوبا منه إلا أن يعطى الأهرام ما يريد أن ينشره مما يكتب. لم أفهم عمق هذا المعنى على الفور، لكننى بعد كدح السنين والاغتراب، ورضا الله عنى بصون كرامتى من اللجوء لما يسمى منح التفرغ من وزارة الثقافة بشروطها المتسلطةالمهينة، أدركت أن مجلس الحكماء الذى كان يشغل الطابق السادس فى الأهرام، كان أرقى مؤسسة تُقدم أرقى شروط التفرغ لبعض من أرقى مبدعى مصر، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، توفيق الحكيم، وغيرهم. وكانت تلك إحدى لمحات البصيرة فى عبقرية محمد حسنين هيكل، والتى تعكس إدراكا عميقا لفهم المبدعين والإبداع، وتشى ببعد نظر عملى ثاقب، فبهذه الصياغة المتحضرة لتفرغ المبدعين، صان هيكل كرامة هؤلاء الكبار، براتب محترم وضمان صحى ومكاتب لائقة وسكرتارية، وحصل فى المقابل على تميز ثقافى غير قابل للمنافسه لجريدته التى انفردت بنشر تألقات هؤلاء الكبار على صفحات ملحق الجمعة، الذى كان حدثا ثقافيا عربيا جامعا لامعا، ومنارة فكرية. ملحق الجمعة الذى كان، والذى لن يكون أبدا.. بما هو الآن كائن! *** 19 مايو، ذكرى ميلاد يوسف إدريس، كنت حريصا أن أقول له «كل سنة وانت طيب»، وكان يفرح كطفل بأن يسمعها من أحبابه. طفل كبير جميل طيب. هو بالفعل طيب، أطيب مما يتصور كثيرون. ويكفى أن نستعيد نداءه: «تعالوا نتثقف ياناس»، ونصغى لصيحة تحذيره من «فقر الفكر وفكر الفقر»، ونراجع كشفه لبشاعة «الذين يأكلون لحم أمهم». لندرك أنه كان رائيا مُلهَما يحبه الله، فشمله مبكرا برحمة من ظله، وأنقذه من رمضاء ما نكابده الآن ! نشرت بجريدة الشروق عدد 21 مايو 2009 | |
| | | | ميلاد الأديب الكبير يوسف إدريس | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|