د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: مؤرخ الفلسفة يوسف كرم 4/8/2009, 12:31 pm | |
| مؤرخ الفلسفة يوسف كرم بقلم: الدكتور عاطف العراقي إذا كان مؤرخنا المصري يوسف كرم والذي ولد في الثامن من سبتمبر عام1886, وتوفي في الثامن والعشرين من مايو عام1959, قد ترك لنا آثارا فكرية هائلة ليس في مجال الفلسفة وحدها, بل في مجال الفكر العربي, والفكر الغربي الأوروبي, فمن واجب العالم العربي عامة, ومصر علي وجه الخصوص, الاحتفال بذكري مرور نصف قرن علي وفاته, وحتي لا يقال اننا جيل بلا أساتذة. لقد كتب آلاف الصفحات من نار ونور, وترك موسوعة ضخمة في تاريخ الفلسفة ابتداء من ظهورها في بلاد اليونان, وانتهاء بالفلسفة الحديثة والمعاصرة. لقد أدركت أهمية الرجل منذ أن تم تكليفي بالاشراف علي مجلد تذكاري ضخم صدر منذ سنوات بعيدة عن المجلس الأعلي للثقافة وفي مئات الصفحات, وساعدني في هذا العمل أستاذي الأب جورج قنواتي, وأطلعني علي الخطابات النادرة بينه وبين يوسف كرم, والتي تهتم بإثارة العديد من القضايا الفلسفية والفكرية, وقد تم نشر بعضها بالكتاب التذكاري المشار إليه, أما البعض الآخر فمازال محفوظا بأعظم مكتبة بالشرق الأوسط, مكتبة دير الآباء, الدومينكان بالقاهرة, والتي تسمي حاليا مكتبة الأب جورج قنواتي. كانت حياة يوسف كرم مثالا للكفاح بأجلي معانيه. ولد بطنطا عن أبوين مسيحيين جاءا من لبنان أصلا واتخذا مصر وطنا لهما, وسافر بعد فترة إلي فرنسا لاستكمال دراسته بالجامعة الكاثوليكية والسربون الذي حصل منها علي دبلوم للدراسات العليا. ولم يكن مشغولا بعد عودته إلا بالقراءة والكتابة. يقرأ في عزلة وصمت. لقد كان هادئا كالموت, صامتا كالقبر. وظل فترة طويلة تزيد علي الثلاثين عاما يشتغل بالتدريس في كلية الآداب بالجامعة المصرية أولا, ثم بكلية الآداب ـ جامعة الاسكندرية. ترك لنا يوسف كرم ثروة فكرية هائلة. كتب تاريخ الفلسفة في ثلاث مجلدات ضخمة, الفلسفة اليونانية, والفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط, والفلسفة الحديثة, وترك العديد من الكتب والدراسات والمقالات والبحوث باللغتين العربية والفرنسية. إن عالم مصر والذي نشر المعرفة في كل مكان, وملأ بقاع الأرض علما. انه المفكر الذي يعمل في صمت وحتي اللحظات الأخيرة من وفاته, تماما كصديقه العزيز, أستاذي الأب قنواني والذي يعد سفير مصر الفكري في أرجاء العالم شرقا وغربا, وإن كان أكثرهم لا يعلمون.قلنا إن يوسف كرم كان موسوعة فكرية, قل أن نجد لها مثيلا. ولا أشك في أن أهم عامل من العوامل التي ساعدت يوسف كرم علي أن يقدم لنا آلاف الصفحات, اختياره للغربة ولم يشغل نفسه بمعوقات دنيوية كالزواج والأولاد.بالإضافة إلي ما ذكرناه من كتب, نجد له المعجم الفلسفي, والعقل والوجود, والطبيعة وما بعد الطبيعة, ومفهوم الفلسفة المسيحية, والمدنية الفاضلة عند الفارابي, والقلق الانساني في الفكر اليوناني, ومشكلة الشر, وحملة الغزالي علي الفلاسفة, وفكرة الفلسفة عند القديس توما الأكويني, والمذهب التوماوي ومذهب ديكارت, ودروس في تاريخ الفلسفة بالاشتراك مع د. ابراهيم مدكور.والاتجاه الفلسفي عند يوسف كرم يمثل نوعا من التوماوية الجديدة, وإذا كان قد استفاد في بلورة اتجاهه من بعض المذاهب الفلسفية التي سبقته, وخاصة القديس توما الأكويني, إلا أننا نجد عنده العديد من الاضافات الجوهرية والتي تجعله جديرا بالدخول في تاريخ الفكر الفلسفي المصري المعاصر. ويكفي أن نقول إن كتابات يوسف كرم تمثل الانفتاح علي كل التيارات الفكرية, لقد حارب ظلام العدم بنور الوجود. عبر يوسف كرم من خلال كتاباته سواء في كتبه أو في دراساته العربية والفرنسية الرائعة, عما يمكن أن نسميه بالمذهب العقلاني المعتدل, وانتصر للاتجاه الروحي ودافع عن العناية الإلهية. لقد انتصر للرب في أعماقه وطوال حياته وقدم لنا دروسا في التواضع وإنكار الذات وهدوء النفس المطمئنة. ويشاء القدر وأنا أستعد للسفر لزيارته بطنطا, أن تصعد روحه إلي بارئها في هدوء وصمت. ومن يقرأ الخطابات, والتي يعد كل خطاب منها وثيقة فلسفية عظمي والتي قمت بنشر بعضها في الكتاب التذكاري المشار إليه, يدرك أن مفكرنا قد وضع بصماته الواضحة والبارزة علي خريطة فكرنا العربي. ومن يحاول التقليل من مجهوداته, فوقته ضائع عبثا. وإذا كنا نعاني اليوم من جفاف فكري, فإن التخلص من هذا الجفاف لا يكون عن طريق محلول معالجة الجفاف, ولكن عن طريق التأمل بعمق في أفكار مفكرينا الرواد, ومن بينهم يوسف كرم والذي يعد قمة فكرية كبري من واجبنا بعد أن أحب مصر عن طريق كتاباته وأفكاره, أن نبادله حبا بحب, وعطاء بعطاء.لم يكن مفكرنا يكل ولا يمل. ولم يقتصر علي التأليف, بل نجد مجهودات كبيرة من جانب معلمنا يوسف كرم, في مجال الترجمة. لقد ترجم ثلاثة دروس في ديكارت وهي محاضرات ألقاها بمصر الكسندر كوارية ونفسية الأحكام التقويمية وهي محاضرات ألقاها العلامة المشهور أندريه لالاند بالجامعة المصرية( جامعة القاهرة) وغيرهما من الكتب والمحاضرات والتي ترجمها يوسف كرم, بل نجد يوسف كرم يعرض لنا عرضا نقديا العديد من الكتب المهمة علي صفحات العديد من المجلات, ومن بينها مجلة الكتاب التي كانت تصدر بمصر. أما عن أسلوب الرجل في كتاباته, فهو أقرب إلي أسلوب العقاد منه إلي طه حسين وكان لا يكتب إلا بعد القراءة المستمرة لكل فكرة يريد أن يكتب عنها. كافح ـ كما قلنا ـ كفاحا مستمرا في سبيل اعلاء الفكر الفلسفي الإنساني, وكان ـ كما ذكر الأب قنواتي في كلمة تأبين ليوسف كرم ـ قابلا مسبقا بدافع من حب عميق ما قدره الله تعالي له, كان مستسلما في تواضع إلي الارادة الالهية.كان يدرك أن أخطر شيء, إنما هو الكلمة المطبوعة, ولعل مما يدلنا علي ذلك, ما قاله الدكتور عثمان أمين عن كتاب يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط: إن هذا الكتاب لم يكتب علي عجل, ولكن مؤلفه اهتم به, كما يهتم الفنان الذي يحب مهنته بتشكيل قطعة فنية. إن هذا الكتاب الذي قام بتأليفه يوسف كرم جاء ثمرة طيبة لعمل متقن وبحث طالت مدته. إنه يدل بوضوح علي تفكير اكتمل نضجه في جو من الهدوء والسكون.. وتلك هي الشروط التي يشترطها العمل المتقن والسعي وراء ادراك الكمال ما استطاع إليه سبيلا. وتلك هي صفات العلماء الحقيقيين الذين يقضون السنين في بحث موضوعاتهم غير عابئين بتحقيق شهرة أو كسب مال( مجلة ميديو بدير الدومينكان) وإذا كنت أختلف مع مفكرنا يوسف كرم حول القليل من آرائه, فإن هذا الاختلاف من طبيعة الفلسفة والتفلسف. وأرجو في مناسبة مرور نصف قرن علي وفاته, وفاة رائدنا يوسف كرم, الاحتفال بذكراه دواما وفي كل مكان. إنها دعوة من جانبي أرجو أن تجد صداها في نفوس وعقول المهتمين بالفكر الإنساني في كل زمان وكل مكان. لقد مات الرجل, ولكنني علي يقين أن أفكاره ستظل حية أبد الدهر. نشرت بجريدة الأهرام عدد 4/8/2009 | |
|