د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: وظيفة الدولة ودورها في ظل اقتصاد السوق 9/3/2009, 2:34 pm | |
| وظيفة الدولة ودورها في ظل اقتصاد السوق د. عماد مؤيد
توحي الكثير من التبدلات على مستوى المشهد الاقتصادي العراقي والتي بات المواطن يتلمسها يومياً و يشعر انها نتاج قوانين جديدة تبدو غريبة عليه كونها تعطي الانطباع أن ثمة تغييراً كبيراً طرأ على المعادلة التي تحكم علاقة الدولة بالمواطن طالما أن هذا التغيير من حيث المصدر مستوحى من ارث اقتصادي وافد يراد به اعادة هيكلة الكثير من العلاقات الاقتصادية الداخلية السابقة. توحي هذه التبدلات بوجود طيف فكري تتنازعه تجاذبات متعارضة متعلق بكيفية تقديم مفهوم جديد يستوعب دور الدولة في المجتمع في ظل التغيير السياسي القائم على أساس تبني نموذج الدولة الليبرالية بدلاً من نموذج الدولة الاشتراكية وما يعكسه ذلك من تبني طروحات مؤسسات النقد والمال الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين لعلاقة ذلك بسياقات الحدود الواجب احترامها بين القطاع العام والخاص، ولا شك أن حدود هذا الطيف الفكري تتعدى أروقة البرلمان باعتباره مصدر التشريع الأول لهكذا قوانين ليأخذ مكانته باعتباره نوازع تغيير كلية تتداخل فيها الالتزامات المحلية مع الشروط الدولية، بحيث نجد أن مشهد (دور الدولة) يتأرجح ما بين احداث تغيير يركز بشكل ضروري على أن المواطن ينبغي أن لا ينظر الى الدولة على أنها المعيل له وأن الاخيرة ليس بمقدورها التفريط به، وما بين تبني خطوات مرحلية تمهد لواقع الخصخصة كعملية اقتصادية والتي يراد تطبيقها في العراق أسوة بباقي الدول ذات الاقتصاد الحر غير الموجه وما يستلزمه ذلك من الاقدام على فك الارتباطات السابقة والتخلي عن التعهدات التي قطعتها الدولة ازاء المواطن عندما قدمت نفسها كنموذج اشتراكي. ومن المؤكد أن الحدود التي تفصل المجتمع السياسي عن المجتمع الاقتصادي في العراق لم تزل قائمة في كثير من الجوانب بمعنى أن التغيير على مستوى هياكل الحكم وممارسة السلطة لم يواكبها بالسرعة ذاتها تغيير في هيكلية الاقتصاد العراقي وبما يعطي الانطباع أن الليبرالية كفكر وممارسة والتي ألقت بظلالها على السياسة قد امتدت لتشمل الاقتصاد الوطني برعايتها لأن الكثير من الوظائف الاقتصادية التي اضطلعت بها الدولة الاشتراكية لم تزل تمارس في اطار الدولة الحالية، ونحن في هذا لا ندعو الى أن تسرع الدولة في (لبرلة) وظائفها بقدر ما ندعو الى التحسب في اجراء عملية التحول الاقتصادي، فمما لا شك فيه أن المناخ الفكري الاقتصادي السائد يقدم البراهين بين الحين والاخر على أن دور الدولة في المرحلة المقبلة سيبتعد عن الاضطلاع بمهام التنظيم الاقتصادي تاركاً للافراد واليات السوق مهمة ذلك، ووفق هذه الرؤية فانه ليس من المستبعد أن تعمد الدولة الى التخلص من الكثير من التنظيمات التي تثقل كاهلها والتي كانت تديرها بنفسها، ويعني هذا من ضمن ما يعنيه أن تقليص دور القطاع الحكومي سيكون من أولى المهام الواجبة التنفيذ لان الدول التي تعتمد آليات السوق تتوافر على قطاع عام ضيق بل ان الكثير من الوظائف التي تعد من اختصاصات الدولة قد تمت احالتها في الدول الليبرالية الى القطاع الخاص بما في ذلك شبكات التأمين الاجتماعي، وهنا سيكون ثمة سؤال مشروع سيطرح وهو: ما هي الحلة الجديدة التي ستلبسها الدولة العراقية فيما يخص دورها في المجتمع وعلاقتها بالمواطن الفرد؟. وقبل أن نتطرق للاجابة علي هذا السؤال نود أن نشير الي أن هناك اختلافاً في وجهات النظر فيما يخص دور الدولة داخل الدول المتقدمة نفسها، فالاميركيون على اختلاف كبير مع نظرائهم الاوروبيين في هذا السياق، فعلى سبيل المثال يقول (غاري بيكر) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد - وهو أستاذ في جامعة شيكاغو - " أن العديد من المثقفين في الولايات المتحدة وآسيا يعتقدون بأن سياسات الرفاهية الاجتماعية الاوروبية يجب أن تكون معتمدة للعمل في بلدانهم الخاصة، لكن تلك السياسات، التي يتم تمويلها بالضرائب العالية والتفويضات المكلفة بخصوص العمل، تعد وبشكل رئيسي هي المسؤولة عن الزيادة الهائلة في البطالة الاوروبية أثناء عقد الثمانينيات، وهذا المرضِ الاوروبي ينبغي أن لا يصبح نموذجا للامم الاخرى "، أما (روبرت ريتش) وزير العمل في حكومة الرئيس السابق (بيل كلنتون) فيقول " حتى الآن، نجد ان المملكة المتحدة وأوروبا الغربية تتأملان كيفية احداث تكيف أكثر وفق النموذج الاميركي، والهدف من ذلك هو الغاء بعض المظاهر الاقتصادية التي يمكن ملاحظتها، مثل عدم المساواة الاقتصادية التي تواصل التوسع، كما أن الهوة بين الدرجات على السلم الاقتصادي أكبر الآن من جيل مضى، وهذا التوسع في عدم المساواة يؤدي الى الضيقِ والبؤس لاولئك الذين يركدون في القاع ويسبب القلقِ لاولئك الموجودين في المنتصف، وكل هذا يمكن أَن يقوض الاستقرار أو يقوض السلطة الاخلاقية للامة "، وعلى الرغم من هذه الاشارات المقدمة من قبل خبراء ومسؤولين يصرون على أن النموذج الاوروبي ما زال وفق الطراز القديم المتمثل باعلاء دور الدولة مع الاستمرار في تقديم نفسها كضامن اجتماعي وهو ما يعدونه السبب في حدوث اختلال اقتصادي داخل المجتمع، الا أن الحقيقة المركزية هي أن السياسات الاجتماعية الاوروبية المدعومة بالنمو الاقتصادي القوي، ساهمت على العموم في جعل أوروبا مكاناً لطيفاً للعيش فيه خلال نصف القرن الماضي على حد تعبير (Maddison) فوفق المنظور التأريخي نجد أن النمو الاقتصادي كان عاليا جداً في الخمسينيات وفي الستينيات والفترة اللاحقة من التسعينيات وهي فترة ما زالت تقارن ايجابياً بالتجارب السابقة في أكثر البلدان الصناعية، وخلال تلك الفترة تبلورت أسس أو أعمدة السياسة الاجتماعية الاوروبية وهي: راتب تقاعدي، أنظمة التعليم والصحة المجانية، معونات البطالة، التأهيل للعمل، مع تقديم التأهيل للفقراء والمعاقين ونظم ضرائب مبرمجة بصورة جيدة من أجل تمويل هذه السياسة الاجتماعية، وعلى الرغم من سياسات العولمة وتحرير الاقتصاد الوطني مع اطلاق عنان الخصخصة التي بدأت أوروبياً أول الامر من بريطانيا ومن ثم انتقلت الى باقي الدول منذ نهاية الثماينيات من القرن العشرين، الا ان الدولة (الراعية) لا تزال موجودة في أوروبا والكثير من المصالح الاقتصادية التي تم تأميمها في وقت مضى ما تزال تحت رعاية الحكومة والقطاع العام، وهو ما جعل النموذج الاوروبي في ادارة المجتمع من خلال شبكات الحماية الاجتماعية نموذجاً جديراً بالدراسة، ولكن ما يجب الاشارة اليه ان ما تقدم أعلاه لا يعني وجود تجانس نوعي بين الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي، اذ يجب أن نشدد بأن أنظمة الحماية الاجتماعية للاتحاد الاوروبي ليست متشابهة، وطبقاً لـ(Rhodes) هناك على الاقل أربعة نماذج يمكن تمييزها وهي: (النموذج الاسكندنافي) ويتضمن درجة عالية من الشمولية والمؤسساتية، بمعنى أن الدولة لها دور كبير في شبكات الضمان الاجتماعي ضد البطالة وتامين العمل، والثاني هو (النموذج البسماركي) (Bismarckian) ويشير الى قرارات مبنية على أساس سوق العمل مع وجود حي لترتيبات التأمين الاجتماعية، والثالث هو (النموذج الانجلوسكسوني - التحرري) الذي يقوم على تدابير اجتماعية مبنية علي تموينات بنسب ثابتة، والرابع هو (النموذج الجنوبي) الذي يشير الي حماية مقدمة للعمال المنتظمين حصرا، مع افتقاد لشبكة الامان العـامة اضافة الى أن هذا النمـوذج يركز علي دور العائلة في اعـادة التوزيع. ونحب أن نشير في هذا الموضع الى تقرير أعدته المفوضية الاوروبية العام (2000) كان العنوان الرئيسي له هو لماذا دور دولة بات مطلوباً مع تسارع وتيرة العولمة الاقتصادية العالمية؟ ، والسبب يكمن في حقيقة ان العولمة بما تزخر به من اعلاء النشاط الاقتصادي الفردي الحر دون قيود أو شروط يمكن بل من المؤكد أن يتسبب بأزمات اقتصادية مثل ما حدث في جنوب شرق آسيا العام 1997، اذ أن الازمة نتجت عن مضاربات مالية قام بها الافراد المالكون لرؤوس الاموال بعيدا عن رقابة الدولة، وهذا الامر يترتب عليه أيضا حدوث فوارق اقتصادية كبرى تصل الى حد التهميش لكل القطاعات غير الضرورية التي يتم التخلي عنها بمن فيهم أفرادها، لهذا فان احد الانجازات الاعظم لدولة الرفاه الاجتماعي هو دورها في تخفيض حدوث الفاقة، وذلك بمنع الافراد والعوائل مِن الهبوط الى أقل من مستوى الدخل الادنى، والترويج للتكامل الاجتماعي، وذلك بجعل السلع متوفرة لكل مواطن بصرف النظر عن المنزلة الاقتصادية أو الاجتماعية، فعلى سبيل المثال لو أردنا أن نقيم انجازات نظام الحماية الاجتماعي الاوروبي، نجد انه لامر ممتع مقارنة أوروبا مع أميركا الشمالية، التي اتبعت نظرة مختلفة تماماً، فنظام الحماية الاجتماعية الاكثر تقدما سمح لاوروبا بمقاتلة الفاقة والتمييز على نحو فعال أكثر بكثير من الولايات المتحدة، فعلى مستوى تفاوت الدخل، أن المجموعات التي تعاني من خطر الفاقة (بضمن ذلك عوائل كبيرة وعوائل وحيدة الاصل أي بدون أطفال) كانت نسبتها في الولايات المتحدة أعلى بكثير من البلدان الاوروبية، كذلك أن فاقة الطفل كانت على مستوى عال جداً أيضاً في الولايات المتحدة، أي حوالي طفل أميركي واحد من كل خمسة يعاني من سوء الفاقةِ، وهذه النسبة المئوية أعلى جداً من تلك المسجلة في البلدان الاوروبية. ومن ضمن المؤشرات الاخرى، الي جانب حدوث الفاقة، هناك أيضاً نقطة تتعلق بمشاكل التكامل الاجتماعي، ففي الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي كل المواطنين تقريباً لهم الحق في تأمين صحي، بينما في الولايات المتحدة حوالي (15 بالمئة) ممن هم تحت عمر (65) سنة ليس لهم تغطية تأمين صحي، وهو ما يعني أن الافراد المتضمنين في هذه المجموعة يعيشون في حالة رعاية صحية غير ثابتة بل انها تتسلم رعاية صحية منخفضة. ان الحقيقة التي يمكن الاشارة اليها من خلال كل هذا ان مستوى الاهتمام الاوروبي بمواطنيها بلغ درجة عالية من الرقي وصل الى حد أن تطوير أنظمة النقل العامة في أكثر البلدان الصناعية لم يكن بحد ذاته متعلقا بالمعركة ضد الفاقة والفقر من خلال توفير وسائل نقل رخيصة، بل ان الهدف العام كان توفير الامن ضد أخطار النقل وحوادث الطرق، بل حتى على مستوى التامين تم اعتماد أنظمة حماية تأخذ بنظر الاعتبار مصالح من يسمونهم (غير المحظوظين) ممن يولدون في كنف عوائل فقيرة، فاذا كان القدر هو الذي يقرر امكانية انك ولدت في عائلة غنية أو ولدت في عائلة فقيرة فان نظام الحماية الاجتماعية يؤمن لدرجة معينة قدراً مِنْ المساواةِ تعمل على تقليص هذه الفوارق. من كل هذا يمكن القول ان دور الدولة وخصوصا في المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية ما زال مطلوباً بل وحيوياً، وحتى خلال مراحل تطبيق عملية الخصخصة والتحرير الاقتصادي من غير الممكن توقع غياب كامل للدولة في تنظيم النشاطات الاقتصادية لان هذا سيتسبب باختلالات اقتصادية تكون الممهد لظاهرة عدم الاستقرار السياسي، وبقدر تعلق الأمر بالعراق نجد أن الكثير من الملاحظات التي ينبغي ابدائها هنا، منها أن القطاع الخاص في العراق ما زال ضعيفاً وغير واضح المعالم، وأن مستوى الفقر وتدني الدخل في العراق لم يزل عالياً بالمقارنة مع الموارد المالية التي يمتلكها، فتقارير الأمم المتحدة تشير الى وجود أمية مرتفعة وما يقرب من (40) بالمائة يعيشون تحت مستوى خط الفقر فضلاً عن ارتفاع مستويات الفساد الاداري المبدد لثروات البلد والذي أفضى الى تراجع حاد في مستوى الخدمات العامة المقدمة للمواطن، وهنا تكون العودة مرة أخرى الى السؤال بشأن ما هو الأجدر باتباعه: التحول الكلي نحو اقتصاد السوق أم الابقاء على دور فاعل للدولة في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ولا شك أن الجواب يفترض ان توسع الدولة من أنشطتها الاقتصادية التي تسمح لها بالحد من وطأة الظروف التي تحيط بالمواطن لا سيما وأن هذا التوسع مؤشر جيد على تراجع في مستويات البطالة ودليل على وجود خدمات حكومية، ولكن هذا القرار المتمثل باعتماد نموذج الرأسمالية الاجتماعية أو رأسمالية الدولة القادر على ادارة المجتمع بشكل متوازن يتطلب أيضا جهازاً حكومياً فاعلاً وليس مترهلاً وخصوصاً على مستوى النماذج الفدرالية في الادارة والحكم، لأن الكثير من الوحدات الادارية التي باتت تمثل حكومات محلية تفتقر الى هذه الامكانات، وهذه الحقيقة تحيلنا الى التفكير في مدى امكانية نجاح تجربة الحكم المحلي في حال تم تطبيق قانون الأقاليم في ظل الافتقار الى هذه الامكانات، فالقرار السياسي المتمثل بتوسيع مديات عمل الدولة اجتماعياً واقتصادياً من أجل بناء علاقة واقعية بين المواطن والحكومة المحلية يمكن استثمارها لصالح عملية التنمية لن تبقى له أية قيمة معنوية وعملية مع وجود الجهل الاداري بكيفية ادارة الموارد الضخمة، وبهذا نعود الى بداية الأمر من أن اعادة هيكلة الدولة يتطلب اعادة بناء الجهاز الاداري المترهل الذي بات عبئاً ثقيلاً على مشاريع التنمية وليس اعادة بناء وظيفة الدولة وحرمان المواطنين من رعاية يستحقونها.
| |
|