الدولة الحارسة!
بقلم: د. أحمد يوسف أحمد
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
عندما كنا طلبة فى أولى سنوات دراستنا الجامعية كان موضوع نظريات وظائف الدولة من أول الموضوعات التى صادفتنا فى دراسة مبادئ العلوم السياسية، وكنت بحكم رغبتى فى التخصص فى علم السياسة مقبلا على هذه النوعية من الموضوعات بصفة خاصة، وقرأت فى هذا الموضوع كثيرا عن نظريات عديدة فى هذا الصدد كانت أهمها دون جدال نظريتين هما النظرية الفردية والنظرية الاشتراكية.
وكان المناخ السياسى العالمى يشهد فى ذلك الوقت (منتصف ستينيات القرن العشرين) مدا اشتراكيا، أو لنقل على الأقل إن النظام الاشتراكى مثَّل حينذاك قطبا يعتد به فى الصراع العالمى، وكان هذا المد قد ترك بصماته دون شك على توجهات ثورة يوليو 1952 فى مصر والتى كانت خياراتها الاجتماعية واضحة منذ لحظة قيامها، كما تبدى فى قانون الإصلاح الزراعى الذى صدر قبل مرور شهرين على قيام الثورة، ثم تبلورت هذه التوجهات فى إطار نكهة اشتراكية واضحة منذ مطلع ستينيات القرن العشرين كما ظهر من قرارات يوليو الاشتراكية التى صدرت فى 1961. وكنت مع أصدقائى الذين شاركونى التخصص نفسه ــ خاصة وقد كان معظمنا ينتمى إلى الطبقة المتوسطة بمعناها الدقيق ــ ننظر بكثير من الاستغراب للنظرية الفردية فى وظائف الدولة، التى تتحول هذه الأخيرة بموجبها إلى مجرد «دولة حارسة» لا تتجاوز مهمتها تأمين حدود الوطن ضد أى عدوان خارجى، وحماية حياة الأفراد وممتلكاتهم، والفصل فى المنازعات فيما بينهم إلى غير ذلك من المهام ذات الطابع المحايد اجتماعيا، وذلك فى مقابل النظرية الاشتراكية أو الاجتماعية فى وظائف الدولة التى تكاد هذه الدولة فى ظلها أن تلازم الإنسان منذ ميلاده وحتى مماته، فتغدو مسئولة عن توفير غذائه ومسكنه، والعناية بصحته وتعليمه، وتوظيفه ورعايته بعد أن يحال إلى التقاعد، إلى غير ذلك من المهام المتصلة بكل ما يلزم الفرد فى حياته اليومية، وهو التوجه الذى كانت الدولة فى مصر تأخذ به فى تلك الأيام. ثم جرت مياه كثيرة فى نهر التطور السياسى فى مصر بعد عبدالناصر، وبدأت توجهات جديدة للدولة تتبلور بحيث اقتربت بها تدريجا ولكن على نحو أكيد من المذهب الليبرالى الفردى فى جميع مناحى الحياة ــ باستثناء الحياة السياسية ــ بدءا بالاقتصاد بصفة خاصة، وكان ما كان من انفتاح فخصخصة أثارا من الجدل ما يعرفه كل متابع للشأن المصرى، وانعكس هذا بطبيعة الحال على وظيفة الدولة المصرية، فبدأت تتخفف شيئا فشيئا من أعباء مسئولياتها الاجتماعية، وتلقى بأثقال تلك المسئوليات بالتدريج على كاهل الأفراد، وحتى تلك الأثقال التى لم تجرؤ على التخلص منها ــ لاعتبارات تتعلق بالحفاظ على الاستقرار السياسى ــ فى مجالات كالتعليم والصحة على سبيل المثال تم تفريغ مسئوليات الدولة فى هذا الصدد من محتواها الاجتماعى الحقيقى، فلم يعد التعليم المجانى مجانيا تحت وطأة إلحاح الحاجة إلى الدروس الخصوصية من جانب، وبروز مؤسسات التعليم الخاص واضطلاعها بدور مهم فى العملية التعليمية من جانب آخر، والالتفاف تحت مسميات مختلفة على فكرة مجانية التعليم فى المؤسسات التابعة للدولة من جهة ثالثة، وأصبح المريض مطالبا كى يتمتع بالخدمة الصحية «المجانية» بأن يحمل معه دواءه ومستلزماته الطبية وبعضا من أكياس الدم إن اقتضى الأمر إن وجد له مكانا أصلا فى إحدى مؤسسات العلاج المجانية التابعة للدولة. لم يقف الأمر بعد ذلك عند هذا الحد بل وصلت الدولة المصرية إلى مرحلة من التدهور فى كفاءة أجهزتها المختلفة بحيث أصبح وفاؤها بالوظائف التقليدية حتى فى ظل نظرية «الدولة الحارسة» موضع شك، وباستثناء الكفاءة فى حماية نظام الحكم أصبحت المهام المنتظرة من «الدولة الحارسة» مثار تساؤلات حقيقية. وإذا اكتفينا بالسنوات الأخيرة، فسوف نجد أن حق المواطن فى الحياة أصبح مهددا تهديدا حقيقيا بعد حوادث مثل غرق العبارة الشهيرة، التى ظل ركابها الذين تجاوزوا الألف يصارعون الموت ساعات طويلة كانت تكفى بالتأكيد لأن يخف لإنقاذهم أقل أجهزة الإنقاذ كفاءة، ناهيك عن أن المسئولين الحقيقيين عن الحادث قد غادروا البلاد بعد وقوع الكارثة دون أن يجدوا من يستوقفهم ولو بلطف إلى أن يتم تحديد موقفهم القانونى، ثم تم لاحقا تكييف تهمتهم من الناحية القانونية بحيث أفلت الجناة من العقاب الرادع، وعندما صحح القضاء العادل هذا الوضع بقيت أحكامه دون تنفيذ. كذلك هددت حوادث المرور المروعة حق المواطن فى الحياة، فأصبح المواطن المنضبط يجد نفسه ضحية لتهور وفوضى وإهمال وتسيب بلا حدود لا يحتاج إيقافه إلا إحكام الرقابة على الطرق عامة والسريعة منها خاصة، وهُدِدَ الحق فى الحياة أيضا من حوادث غير مسبوقة كسقوط أطنان من الصخور على المواطنين الآمنين فى مساكنهم، وتعثر جهود إنقاذهم لأيام طويلة كئيبة، وانتهاء الكارثة بإبقاء عدد غير معلوم من الضحايا تحت الركام. كذلك لم تعد الأموال المودعة فى المصارف المختلفة آمنة من محاولات النهب فى مواجهة مافيا المصارف التى تغدق القروض دون ضمانات حقيقية لأسباب مفهومة على فئة بعينها من رجال الأعمال سرعان ما تغادر البلاد إلى حيث لا يمكن إجبارها على العودة، دون أن تفى بالتزاماتها تجاه المصارف التى أقرضتها بطبيعة الحال. ولم يعد المواطن العادى يأمن على مدخراته البسيطة بعد تكرار سوابق شركات النصب والاحتيال المعروفة باسم شركات توظيف الأموال وما يشبهها والتى لم تكن الدولة تنتبه إليها فى كل مرة إلا بعد وقوع الكارثة. كما أن المواطن لم يعد يأمن على ممتلكاته بعد أن انتشر مغتصبو الأراضى على سبيل المثال، وحتى عندما كان القضاء يفصل بنزاهة فى نزاع ما فإن حكمه كثيرا ما كان لا يجد طريقه للتنفيذ سواء بتواطؤ أجهزة تابعة للدولة أو بعجزها، أو بسبب اللجوء إلى منطق البلطجة فى حماية المغتصبين لأنفسهم. بل إن الأحداث كثيرا ما تكشفت عن أن «الدولة الحارسة» أصبحت غير قادرة على حماية نفسها فى مواجهة هؤلاء المغتصبين بعد أن طالت جرائمهم الأراضى المملوكة للدولة ذاتها، فوضعوا أيديهم عليها فى غيبة من رقابة أو حماية فعالتين. وأخيرا وليس آخرا فإن «الدولة الحارسة» وقفت عاجزة عن حماية صحة المواطن، مع أننا نذكر للأمانة كيف كانت جهودها فعالة منذ سنوات غير بعيدة عن اللحظة الراهنة فى مجالات كالحملة الوطنية ضد شلل الأطفال على سبيل المثال، أما الآن فقد وقفت أجهزة الدولة عاجزة أمام تفشى مرض كأنفلونزا الطيور، مع أن معدلات انتشاره كانت وما زالت تسمح بوضع الخطط السليمة لمواجهته، والعمل على تنفيذ هذه الخطط بأقصى درجة من الفاعلية، لكن هذا لأمر ما لم يحدث، وباتت مصر صاحبة مكانة عالمية فى حالات الإصابة بالمرض والوفيات التى تحدث بسببها. والآن تواجه «الدولة الحارسة» تحديا جديدا هو أنفلونزا الخنازير التى مازال من الممكن حتى الآن أن تتحول إلى وباء عالمى قاتل. ومن الناحية النظرية فإن شروط المواجهة السليمة من قبل الدولة متوفرة، فهناك فترة إنذار كافية انقضت منذ أعلن عن أول إصابات بهذا المرض فى المكسيك وحتى الآن، أى أن عنصر المفاجأة غير موجود، كذلك تم عقد اجتماعات على أعلى المستويات لوضع خطط المواجهة، وسارعت الدولة فى هذا الإطار إلى اتخاذ قرار ذبح الخنازير الذى انتقده البعض داخل مصر وخارجها فيما تحمس آخرون لتنفيذه باعتباره الضمانة الأولى ضد انتشار المرض، لكن المهم فى هذا كله هو أن ثمة وقتا قد توفر للتفكير فى المواجهة، وأن «الدولة الحارسة» قد استنفرت حتى الآن جميع أجهزتها، وما زال الأمل كبيرا فى انحسار الخطر، لكن حسن التدبير يقتضى التحسب للسيناريو الآخر وهو امتداد المرض إلى جنوب الكرة الأرضية، وإذا حدث هذا ــ لا قدر الله ــ فسوف يمثل اختبارا حقيقيا وصعبا «للدولة الحارسة» بعد أن سجلت فى السنوات الأخيرة إخفاقات لافتة منها للأسف ما يتصل بمجال الصحة، ولذلك فإن إنفلونزا الخنازير تمثل خطرا وفرصة فى الوقت نفسه. خطر داهم إذا ما تمت مواجهته بمستوى الأداء نفسه الذى ميز تصدى «الدولة الحارسة» لمهام أخرى، وفرصة ثمينة إذا ما نفضت هذه الدولة عن نفسها غبار انعدام الكفاءة وغياب الفاعلية.
نشرت بجريدة الشروق عدد 6 مايو 2009