د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: السوق في مواجهه الدوله! 4/7/2009, 1:44 am | |
| السوق في مواجهه الدولة! بقلم : السيد يسين الازمه الماليه العالميه التي بدات في الولايات المتحده وما لبثت دوائر اثارها السلبيه ان امتدت الي اوروبا واسيا والعالم العربي, تثير عديدا من النقاشات النظريه التي لايمكن لها ان تغيب في ظل تدخل الدوله الصارخ في الولايات المتحده الامريكيه واوروبا لانقاذ النظام الاقتصادي الراسمالي. وذلك لسبب بسيط وان كان بالغ الاهميه, هو ان العولمه الراسماليه التي دعت الي كف يد الدوله نهائيا عن التدخل في الاقتصاد, واطلاق حريه السوق الي غير ما نهايه, وتشكيل السوق الاقتصاديه الكونيه التي تزيل الحواجز والحدود بين الدول, هي بذاتها تعد خاتمه وان كانت موقته كما ظهر موخرا للجدل الطويل الذي دار طوال القرن العشرين بين الراسماليه والماركسيه.
هذا الجدل اتخذ اشكالا متعدده فلسفيه واجتماعيه واقتصاديه وسياسيه غير ان محوره الرئيسي كان هو السوق في مواجهه الدوله, بعباره اخري منذ ان ظهرت السوق كاليه اساسيه للتبادل التجاري مع بدايه ظهور الراسماليه الاوروبيه كما ابرز ذلك كارل بولاني في كتابه الكلاسيكي التحول العظيم والجدل لم يتوقف حول دور الدوله في الاقتصاد, وهل ينبغي تقييده بالكامل او جزئيا في سبيل حريه السوق المطلقه, ام ينبغي علي العكس تدعيمه, وفي الصور المتطرفه للدول الاشتراكيه, هيمنه دور الدوله علي الاقتصاد, حتي يصبح اقتصادا مخططا, يقيد حريه السوق الي درجه كبيره. غير ان الجدل لم تحسمه قوه الحجج الفلسفيه لدي كل فريق, ولكن الذي حسمه هو التاريخ! وذلك لانه عقب الثوره البلشيفيه في روسيا عام1917 برزت قوه عظمي هي الاتحاد السوفيتي الذي تبني الماركسيه كنظريه وطبقها بطريقه خاصه للغايه, جعلها نموذجا لتطبيقات مشابهه في اقطار شتي من العالم, غير انه بالرغم من تعدديه التطبيق فقد بقي الجوهر واحدا, السلطه المطلقه للدوله في اداره الاقتصاد, والحركه البالغه الضيق للسوق. عبر مسيره شاقه ومتعثره امتدت اكثر من سبعين عاما انهار الاتحاد السوفيتي, وسقطت بالتالي بالمعني التاريخي للكلمه ابرز تجربه للاقتصاد المخطط الذي اطلق العنان للدوله, واعتقل السوق في الوقت نفسه! بعد هذا الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي, برزت تنبوات متفائله عن مستقبل الراسماليه باعتبارها هي التي سترث الارض وما عليها بعد ان اختفت الشيوعيه, وانتهي التاريخ, اذا ما استخدمنا عباره فوكاياما الشهيره. وبدات العولمه الراسماليه رحله صعود بارزه بعد غياب الخصم التاريخي, تحت شعار الليبراليه الجديده, ودعوتها للالغاء النهائي والمطلق لدور الدوله في الاقتصاد, ورفع شعار حريه السوق المطلقه, باعتباره جوهر العمليه التاريخيه التي يمر بها العالم في الوقت الراهن. ونحن قد تابعنا بدقه منذ عام1990 في دراساتنا وكتبنا المنشوره الصراع المرير الذي دار بين انصار العولمه وخصومها, تماما مثلما تتبعنا من قبل المرحله النهائيه في الجدل بين انصار الماركسيه ودعاه الراسماليه وخصوصا بمناسبه صدور اهم كتاب جدلي في الموضوع وهو الذي الفه عالم الاجتماع الامريكي المعروف بيتر برجر ونشره عام1987 بعنوان مثير هو الثوره الراسماليه: خمسون مبدا حول الرخاء والمساواه والحريه والذي نشرته دار وايلد هود هاوس. غير ان التاريخ كما اشرنا هو الذي حسم الجدل بعد ان بسطت العولمه الراسماليه رواقها علي الكون باسره, بالرغم من بروز بعض الاصوات المعارضه من اليسار, بل ومن بين بعض الليبراليين الذين يتمتعون بالحس التاريخي وبالموضوعيه, التي دفعت بهم منذ وقت مبكر حقا الي ان يلتفتوا الي المخاطر الكبري في ايديولوجيه العولمه, والتي تتمثل اساسا في الالغاء الكامل لدور الدوله والحريه الطلقه للسوق, وفي مقدمه هولاء المفكرين استاذ الاقتصاد الامريكي داني رودريك. وكنت قد دعيت لالقاء محاضره في مركز بحوث الشرق الاوسط بجامعه هارفارد منذ سنوات طويله; عن الصراع العربي الاسرائيلي, وهناك اكتشفت كتابا مهما لداني رودريك عنوانه اللافت هل ذهبت العولمه بعيدا في طريقها؟ نشر هذا الكتاب معهد الاقتصاديات العالميه في واشنطن بتاريخ مارس1997 وحين طالعت الكتاب نحيته جانبا لاحساسي ان العولمه كانت في وقت نشر الكتاب في بداياتها, ومن هنا احسست وكان داني رودريك يتعجل الحكم علي ظاهره العصر وهي العولمه, قبل ان تسفر عن ملامح وجهها الحقيقي! غير انه بعد الانهيار المالي المدوي للاقتصاد الامريكي المعولم ادركت ان داني رودريك كان علي حق في نقده المبكر, وانني اخطات في تقييم محاولته الجسور في التحليل الموضوعي للعولمه., تصحيحا لخطئي في تقييم رودريك قررت ان ازوره مره اخري بمعني العوده لقراءه كتابه, وبدات بشبكه الانترنت, ففوجئت بان له موقعا خاصا, وانه نشر في هذا الموقع تعليقا مهما عن الانهيار بعنوان من الذي قتل وول ستريت؟ وذلك باسلوب نقدي ساخر بتاريخ12 اكتوبر2008. وقد استعرض فيه الاسباب المحتمله لكارثه الانهيار, واعترف صراحه بانه من الصعب بمكان تحديد السبب الرئيسي لما حدث بل انه وصل الي حد القول انه حتي بعد مرور زمن كاف علي ما حدث ربما لن نصل ابدا الي التكييف الحقيقي لهذا الحدث الجلل, وهل كان نوعا من الانتحار يقصد الاقتصادي بالطبع ام كان جريمه, وقد يكون موتا عارضا, ام لعله حاله نادره من حالات الفشل الاقتصادي الشامل؟ ويختتم تساولاته الحائزه بقوله: ربما لن نعرف ابد السر الحقيقي فيما حدث ان هذه التساولات الحائره التي صاغها رودريك بعد الانهيار تتجاهل في الواقع تحليله النقدي العميق لسلبيات العولمه, والتي سجلها في كتابه الذي اشرنا اليه من قبل. وقد قرر بوضوح في مقدمه الكتاب ان تطورات العولمه البازغه برز فيها عنصر اساسي هو ان تحقيق التكامل الدولي في مجال الاسواق فيما يتعلق بالسلع والخدمات ورءوس الاموال, قد دفع بالمجتمعات المختلفه دفعا لتغيير ممارساتها التقليديه. ولذلك قامت صراعات عنيفه بين مجموعات كبيره من السكان والدول التي تبنت العولمه, ويضرب لذلك امثله متعدده من فرنسا واليابان وكوريا الجنوبيه, خصوصا بصدد التاثيرات السلبيه لسياسات العولمه علي التشغيل والبطاله. وقد حاول رودريك ان يحدد اسباب التوتر في مختلف المجتمعات كرد فعل للعولمه في ضوء السبب الرئيسي وهو ان العولمه بسياساتها المطبقه الان تودي الي التفكك الاجتماعي, وتزيد الفجوه بين من يملكون والذين لايملكون, وترفع معدلات البطاله, وتزيد من انتشار دوائر الفقر, وتهميش فئات واسعه من العماله غير الماهره, بل واقصاء دول ناميه من دوره التبادل المنتج, بحكم هشاشه اقتصادها وعدم قدرتها علي الصمود في مجال التنافس العالمي. وقد ركز رودريك علي ثلاثه مصادر للتوتر بين السوق الكونيه والاستقرار الاجتماعي. والسبب الاول في نظره ان الغاء القيود علي التجاره والاستثمار من شانه ان يعمق عدم المساواه بين الجماعات التي تستطيع عبور الحدود الدوليه سواء مباشره او بطريقه غير مباشره عن طريق نقل الشركات الدوليه نشاط مصانعها بالكامل او جزئيا الي البلاد الناميه حيث العماله الرخيصه, وهي العمليه التي يطلق عليهاoutsourcing, والجماعات الاخري في البلاد الناميه التي لاتستطيع ان تطبق الطريقه نفسها في الانتقال عبر الحدود. الجماعات الاولي تتكون من ملاك رءوس الاموال, والعمال المهره, وعديد من المهنيين الذين يستطيعون الانتقال بسهوله بحكم ما يمتلكونه من رءوس اموال ومهارات من بلد الي اخر, بل ومن قاره الي اخري حيث تبدو فرص الاستثمار واعده, في حين ان الجماعات الاخري التي تتشكل من المديرين من المستوي المتوسط والعمال غير المهره, ليس عليهم طلب خارج بلادهم, ومن هنا فحركتهم مقيده. ومعني ذلك ان العولمه بحكم الياتها تستطيع ان تستغني عن جزء من العماله من اهل البلاد وتحل محلهم عماله مستورده عاليه المستوي, ولذلك ما فيه من اثار سلبيه علي العماله المحليه. بعباره اخري بدلا من ان تلجا الدوله او الشركات المحليه الي وضع استراتيجيه شامله لتطوير وتدريب القوي البشريه, تلجا الي السهل وهو استيراد عماله اجنبيه مدربه, وذلك شبيه تماما باستسهال الدول والحكومات لحل تسليم المفتاح, بمعني استيراد المصنع بالكامل مع الفنيين الاجانب, بدلا من بذل المجهود الايجابي في مجال توطين التكنولوجيا, كما تفعل الصين الان, وكما فعلت ماليزيا من قبل. والسبب الثاني من اسباب التوتر الذي تحدثه العولمه, في راي داني رودريك, هو انها تحدث صراعات بين الامم تدور حول المعايير المحليه والموسسات الاجتماعيه التي تعبر عنها. وذلك لان تكنولوجيا صناعه السلع اصبحت مقننه وموحده عالميا, مما جعل الامم التي تمتلك انساقا مختلفه, من المعايير والقيم والموسسات والتفضيلات الجماعيه, تتنافس في السوق العالميه للحصول علي السلع المشابهه. غير ان التنافس العالمي يودي في الواقع الي ظلم بين, لان التبادل يتم بين دول متفاوته تفاوتا ضخما في مستوي نموها وفي قدراتها الاقتصاديه ومستوي مبادراتها التكنولوجيه, ومعني ذلك انه ليس تنافسا حقيقيا ولكنه معركه غير متكافئه بين الاقوياء والضعفاء! وبالتالي ليس هناك انصاف في هذه العمليه مما يفقدها في الواقع شرعيتها المزعومه, ولعل هذا هو سر الصراع العنيف بين الدول الناميه والدول المتقدمه داخل منظمه التجاره العالميه, حيث تحاول الدول الناميه تعديل الشروط المجحفه في كثير من ميادين التبادل التي فرضتها عليها الدول المسيطره اقتصاديا. ومصدر التوتر الثالث بين العولمه والاستقرار الاجتماعي انها جعلت مهمه الدول في توفير الضمانات الاجتماعيه للمواطنين بالغه الصعوبه, وذلك لان ايديولوجيه العولمه المتطرفه التي تتمثل في الغاء دور الدوله الانتاجي تماما تجنح ايضا الي الغاء دورها الاجتماعي, وتضغط لالغاء الدعم بل ولالغاء عديد من التشريعات الاجتماعيه التي صيغت منذ عقود لضمان الحد الادني من الحياه الكريمه للمواطنين الفقراء ومتوسطي الدخل. ان تطرف العولمه الراسماليه في هذا الاتجاه كما يقرر بشجاعه داني رودريك سيدعو الجماهير الي معارضتها والمطالبه بعوده الدوله للقيام بوظائفها الانتاجيه حتي ولو بلغت حد التاميم, والي وظائفها الاجتماعيه التقليديه, وقد يحدث هذا في زمن غير بعيد! كتب رودريك هذه النبوءه عام1997 ولم يكن يدري ان الانهيار الراسمالي الكبير سيحدث عام2008 وستضطر الدول الراسماليه وفي مقدمتها الولايات المتحده الامريكيه الي ضخ الاف ملايين الدولارات لانقاذ الشركات والبنوك الراسماليه التي تهاوت, بل الي تاميم بعض البنوك! وهكذا انقلبت الراسماليه علي اهم مبدا من مبادئها التقليديه, وهو كف يد الدوله عن التدخل في الاقتصاد! نشرت بجريدة الأهرام، عدد 23/10/2008 | |
|