د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: التيار النقدي في الفلسفة الإسلامية 28/1/2009, 2:24 pm | |
| التيار النقدي في الفلسفة الإسلامية بقلم: د. محمود حمدي زقزوق
يذهب أوبرمان, وهو أحد الباحثين النمساويين الذين توفروا علي دراسة فكر أبي حامد الغزالي, إلي القول بأن الغزالي يعد كانت الفلسفة الإسلامية, وذلك في دراسته المستفيضة عن الغزالي التي نشرت عام1921 تحت عنوان الذاتية الفلسفية والدينية للغزالي, ويقصد أوبرمان بذلك أنه إذا كان الفيلسوف الألماني الشهير كانت هو مؤسس التيار النقدي في الفلسفة الأوروبية في العصر الحديث, فإن الغزالي هو مؤسس التيار النقدي في الفلسفة الإسلامية.
ولقد كان الغزالي, الذي توفي أوائل العقد الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي, صاحب عقلية متوقدة, ومتمردة فكريا علي كل التيارات الفكرية التي كانت سائدة آنذاك, وقد اتخذ في نقده لها جميعا منهجا مغايرا لمناهج عصره, وهو الشك المنهجي, وهو ذات المنهج الذي اتخذه أيضا أبو الفلسفة الحديثة ديكارت بعد الغزالي بأكثر من خمسة قرون, والفرق بين الفيلسوفين في هذا الصدد هو أن الغزالي قد عرض هذا المنهج في صفحات قليلة, في حين أن ديكارت قد أفرد لذلك كتابه المعروف التأملات في الفلسفة الأولي, وقد فصلنا القول في هذا الموضوع في دراسة لنا منشورة بالألمانية والعربية. وقد احتفي باحثون غربيون كثيرون بفكر الغزالي, ودرسوه من جوانب عديدة, وقدروه حق قدره بوصفه مفكرا علي درجة عالية من الفكر الديني والفلسفي علي السواء, ولكن الباحثين العرب كان لهم رأي آخر, فالغالبية من هؤلاء الباحثين أخرجوا الغزالي من دائرة الفلاسفة وحملوه مسئولية انهيار الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي, واتهموه بأنه كان السبب في التراجع الحضاري الذي شهدته الأمة الإسلامية, ولا تزال تعيشه حتي اليوم.
وحقيقة الأمر أن هذه نظرة سطحية تعتمد علي قراءات غير صحيحة لأفكار الغزالي, ولكن شائعة انهيار الحضارة الإسلامية بسبب فكر الغزالي انتشرت في أوساط الباحثين العرب, وانتقلت من جيل إلي آخر دون فحص أو تمحيص, وأصبحت تتردد في كتابات الكثيرين علي أنها من المسلمات.
إن من المعروف أن الغزالي قد ألف كتابا بعنوان تهافت الفلاسفة تناول فيه بالنقد أفكار الفلاسفة السابقين عليه, خاصة الفارابي وابن سينا, والنقد الفلسفي أمر مطلوب, ولا توجد مسلمات أو تابوهات في الفكر الفلسفي لا يجوز الاقتراب منها. فالفكر الفلسفي فكر متطور وليس فكرا جامدا, والبناء الفلسفي بناء تشترك فيه الأجيال جيلا بعد جيل, والكلمة الأخيرة في الفلسفة لم يقلها جيل بعينه, ولن تكون حكرا علي جيل من الأجيال, أو أمة من الأمم.
ولم يكن الغزالي بدعا في نقده لفلسفة السابقين عليه, فتاريخ الفلسفة يبين لنا أن كثيرين من أقطاب الفلسفة كانوا ناقدين لفلسفات الفلاسفة السابقين عليهم, ومن بين أمثلة كثيرة نخص بالذكر أبو الفلسفة الحديثة ديكارت, وأعظم فلاسفة العصر الحديث في أوروبا الفيلسوف الألماني كانت, وقد فتح هذا النقد الباب أمام ثراء فلسفي, ومناقشات مثمرة كان لها أثرها البالغ في تحريك الفكر الفلسفي وتطويره في أوروبا.
وكان يمكن أن يكون الحال كذلك في الفكر الفلسفي الإسلامي, وقد حدث بالفعل أن جاء ابن رشد, الذي ولد بعد وفاة الغزالي بخمسة عشر عاما, وألف كتابا ينقض فيه آراء الغزالي في كتاب له بعنوان تهافت التهافت, وبذلك انفتح الباب أمام مناقشات فلسفية جادة, وإن اتسمت أحيانا بالحدة, وإذا كانت هذه المناقشات قد توقفت ولم يكتب لها الاستمرار كما حدث في الفكر الغربي, فهل يمكن تحميل الغزالي مسئولية هذا التوقف, ومسئولية انهيار الحضارة الإسلامية؟ أليس ذلك يعد تبسيطا غير علمي لمشكلة حضارية معقدة لها أسباب عديدة؟ لقد رفض الغزالي التقليد بمختلف صوره, وأفسح المجال للعقل, مؤكدا دوره في كل شئون الفكر, بما في ذلك الفكر الديني, وذهب إلي القول بأن النصوص الدينية إذا تعارضت مع العقل فإنه يتحتم تأويلها حتي تتفق مع العقل, وفي ذلك يقول: فإن لنا معيارا في التأويل, وهو أن ما دل نظر العقل ودليله علي بطلان ظاهره علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك.
وفي رفضه للتقليد وتعويله علي العقل يقول: فاعلم يا أخي أنك متي كنت ذاهبا إلي تعرف الحق بالرجال من غير أن تتكل علي بصيرتك فقد ضل سعيك, فإن العالم من الرجال إنما هو كالشمس أو كالسراج يعطي الضوء, ثم انظر ببصرك فإن كنت أعمي فما يغني عنك السراج والشمس, فمن عول علي التقليد هلك هلاكا مطلقا. وقد عاب الغزالي علي فريق من المتصوفة رفضهم للعقل والمعقول, مبينا لهم أن الدين لا يعرف إلا عن طريق العقل, وأن رفضهم للعقل يوقعهم في التناقض, فالعقل عند الغزالي أنموذج من نور الله, كما يصفه في موضع آخر بأنه: الفطرة الغريزية, والنور الأصلي الذي به يدرك الإنسان حقائق الأشياء.
والغزالي في تصوفه لم يتخل أبدا عن تأكيد دور العقل الذي أعطي له الحق في الحكم علي التجارب الصوفية, رافضا منها ما يتعارض مع مقررات العقل, وفي تقديره للعقل ومبادئه نراه يهتم اهتماما فائقا بالمنطق بوصفه علم المبادئ العقلية, وقد ألف فيه عدة مؤلفات منها: معيار العلم, ومحك النظر, والقسطاس المستقيم, بالإضافة إلي المقدمة المستفيضة التي كتبها في بداية كتابه المستصفي من علم الأصول, مؤكدا أن المنطق يعد مقدمة ضرورية لكل العلوم, ولنتأمل ما يقوله الغزالي في نهاية كتابه ميزان العمل, وهو كتاب في التصوف والأخلاق, حيث يقول: وإذا لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطلب( أي للبحث) فناهيك به نفعا, فالشكوك هي الموصلة إلي الحق, فمن لم يشك لم ينظر, ومن لم ينظر لم يبصر, ومن لم يبصر يبقي في العمي والضلال. ومن بين الموضوعات التي تناولها الغزالي بالنقد موضوع العلاقة السببية التي ردها إلي مجرد اقتران زمني, معتبرا استمرار العادة بها مرة بعد أخري يرسخ في أذهاننا جريانها علي وفق العادة الماضية ترسخا لا تنفك عنه,
وقد شرح الغزالي وجهة نظره بالتفصيل في كتابه تهافت الفلاسفة, وفي نقد ابن رشد للغزالي في هذا الصدد اتهم بأنه بذلك قد هدم العلم, وليس هناك بأس من أن ينقد ابن رشد الغزالي ويعارضه, ويتبني وجهة نظر مضادة, فهذا أمر ليس غريبا علي الفلسفة والفلاسفة, ولكن الأمر الغريب أن يتخذ بعض الباحثين العرب من هذا النقد الرشدي ذريعة لاتهام الغزالي بالعداء للعلم, وتحميله مسئولية تخلف المسلمين علميا حتي اليوم.
وفي المقابل يقول العالم الفرنسي رينان: إن هيوم (وهو فيلسوف إنجليزي توفي عام1776) لم يقل في نقد مبدأ العلية أكثر مما قاله الغزالي, ومع ذلك لم يتهم أحد هيوم بمثل ما اتهم به الغزالي, بل إن الفيلسوف العظيم كانت قال عن نقد هيوم لمبدأ السببية إنه كان السبب في إيقاظه من سباته الاعتقادي, ومن بين الذين أنصفوا الغزالي في الحكم علي رأيه في السببية المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه عن ابن رشد حيث يقول: إن رأي الغزالي في السببية هو رأي يوافقه عليه العلم الحديث الذي يكتفي بوصف الظواهر ولا يدعي استقصاء عللها... وليس من شأنه أن يعطل العقل عن البحث كما فهم بعض الجاهلين بقدره وأقدارهم.
إن من الظلم البين أن نحمل مفكرا واحدا مسئولية انهيار حضارة بأكملها إلا إذا كانت هذه الحضارة مثل بيت العنكبوت إذا هبت عليه عاصفة هدمته وجعلته نهبا للرياح, والحضارة الإسلامية لم تكن كذلك أبدا, ويحسب للغزالي أنه أول من اتخذ الشك المنهجي طريقا للتوصل إلي الحقائق, وأن هذا المنهج هو ذات المنهج الذي استحق به ديكارت لقب أبي الفلسفة الحديثة, كما يحسب للغزالي أنه مؤسس التيار النقدي في الفلسفة الإسلامية بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه في الرأي.
وأعتقد أنه قد آن الأوان لأن نعيد النظر في حكمنا علي هذا الفيلسوف اعتمادا علي إنتاجه الغزير, وليس علي كتاب تهافت الفلاسفة فقط, ومن ناحية أخري فإن علينا أن ننظر إلي الجوانب الإيجابية في أفكار فلاسفتنا ومفكرينا ونعرضها لأجيالنا الجديدة لتستفيد منها, وتفيد بها الحياة, بدلا من أن نهيل عليهم التراب منكرين ما قدموه من عطاء فكري لا يزال جديرا بالحياة والتأثير الإيجابي في مسار الفكر الفلسفي الإسلامي لتجديد حيويته, واستعادة نضارته من أجل خير الأمة وتقدمها وازدهارها.نشرت بجريدة الأهرام عدد 28/1/2009 | |
|