الدكتور طلال عبد المعطي مصطفى - أستاذ علم الاجتماع - جامعة دمشق
تعكس إشكالية »الموضوعية«، في العلوم الاجتماعية خلافاً جوهرياً بين اتجاهين في البحث الاجتماعي، أحدهما يرى ضرورة التباعد بينه وبين الأيديولوجيا لأن في تدخلها إزاحة أو استبعاداً للموضوعية، وإجلالاً للذاتية، ومن ثم يفقد البحث أهم أركانه العلمية، ويتخذ هذا الاتجاه النموذج التجريبي في العلوم الطبيعية المثال الذي ينبغي أن يحتذى في البحث الاجتماعي، أما الاتجاه الآخر فإنه يرفض التوجه التجريبي في بحث الظاهرة الاجتماعية لما تنطوي عليه من خصوصيات معينة نابعة من طبيعتها، وما المنهجية التي ينبغي أن يتبناها البحث الاجتماعي؟
والكلام عن الموضوعية في البحث الاجتماعي يفضي إلى طرح مشكلة تبعية الباحث الاجتماعي أو الاستقلالية إزاء سلطة الدولة السياسية وإزاء مركز الإنتاج السوسيولوجي العالمي، ونحن لا نهدف بهذا الكلام إلى طمس جهود بعض الباحثين وحرصهم على استقلاليتهم، ولا حق المشتغلين بالبحث الاجتماعي في ممارسة البحث انطلاقاً من مواقع مختلفة، ولكن إلى تقرير حقيقة أن الإنتاج المنشور يتم وفق منظوراتها.
وفيما يتعلق بقضية التبعية النظرية للمركز الغربي، أدى التطبيق الآلي للنماذج النظرية والمفاهيم التي صيغت داخل حقل المعرفة السوسيولوجية الغربية -على واقع مختلف ومميز- إلى وضع الباحث في خدمة مشروع تحديث لا ينطلق من الحاجات الحقيقية للمجتمع، ولا يضع في الحسبان قضاياه الخاصة وإمكانية ومدى تقبله.
وغياب الموضوعية يفرض نفسه أحياناً مراحل البحث منذ تحديث الباحث إشكالية البحث ووضع الفروض، وعلى مستوى اختيار عينة البحث إن كان يقوم ببحث ميداني، وأيضاً على مستوى تحليل البيانات والمعلومات المجمعة، فالتحيز المنافي للموضوعية هو ذلك الناتج عن فعل إرادي يقوم به الباحث بقصد تشويه الحقيقة ابتغاء مصلحة خاصة أو تلبية لمصلحة خاصة، أو سعياً وراء الطريق السهل في البحث.
وإذا كان النوع الأول من غياب الموضوعية يعود إلى الباحث نفسه كعمل إرادي يقوم به الباحث للابتعاد عن الحقيقة فإن هناك نوعاً آخر من غياب الموضوعية يعود إلى طبيعة علم الاجتماع، إذ يرى العديد من الباحثين أن هذا العلم متحيز بطبيعته، وأن الأيديولوجيا محايثة لمقولات هذا العلم وتعميماته. والباحث الاجتماعي حتى إن استطاع أن يتحرر من الموقف الشخصي المسبق للباحث فإنه لا يستطيع أن يتحرر من الأيديولوجيا أي التزامه بالقيم الكلية والشمولية للمجتمع الذي ينتمي إليه، فهذه الأخيرة ليست عملاً إرادياً للباحث بل تعبر عن بنية عقلية فكرية يكون الباحث منساقاً بقوة لسيطرتها على تفكيره وسلوكه وتأتي تفسيراته للظاهرة المدروسة -موضوع البحث- لاشعورياً متأثرة بها.
هذا النوع من التحيز هو الذي يضع علم الاجتماع في حالة تنازع بين الخصوصية والعالمية، والدعوة إلى إنتاج النظريات الاجتماعية الخاصة، انطلاقاً من الخصوصية الاجتماعية لكل مجتمع.
هذه الأسئلة الإشكالية تطرح علينا نحن العاملين في البحث الاجتماعي، أن نقدم المزيد من الأفكار التي تعمق ثقافة الفكر النقدي في البحث الاجتماعي. وفيما يلي أهم القضايا التي نجدها مُلحة في الوقت الحاضر:
1- إن المنهجية النقدية في علم الاجتماع تدين بالفضل في ظهورها إلى ما يعرف بمدرسة »فرانكفورت« التي ظهرت في أواخر عشرينيات القرن الماضي، من خلال أعمال بعض المفكرين والباحثين الذين كانوا يعملون في معهد البحوث الاجتماعية. غير أن ثمار نشاطها الأكاديمي الحقيقي لم يبدأ في الظهور إلا على أيدي كبار روادها من أمثال (بولوك ن ولوفيتنال وكارل وينفوجل، وغيرهم كثير). وكما هو معروف في الوسط العلمي فإن هذه المدرسة تقوم على العديد من المنطلقات الفكرية كإطار عمل لها، منها أن أفكار البشر هي نتاج المجتمع الذين يعيشون فيه، ومن ثم لا يمكن عزلها عن السياق الاجتماعي، الذي تعمل من خلاله، ولا يمكن تفسيرها إلا في هذا السياق. وأنه من الضروري النظر إلى المعرفة نظرة نقدية كاشفة عن القوى المتحكمة فيها، والفئات التي يُتاح لها الحصول عليها، وتلك المحرومة منها بفعل القوى والفئات المهيمنة المسيطرة.
2- من هذا المنطلق تأتي أهمية الوظيفة التنويرية للبحث الاجتماعي، من ضرورة وجود غاية غاية عليا لكل جهد بحثي تتمثل في انحياز نتائجه للحق والعدل والحرية.
3- ضرورة الإلمام بالمرتكزات الفكرية والنقدية والمبادئ والمفاهيم والآليات التحليلية التي يستند إليها هذا الفكر والتي تشكل في مجملها خصائصه الأساسية التي ينبغي ترجمتها إلى الواقع الفعلي في ميدان البحث الاجتماعي. وتتلخص هذه الخصائص في الآتي:
التفاعلية من خلال معايشة الباحث موضوع بحثه، معايشة تجعله يفصح عن انحيازاته الفكرية بشكل مباشر دون مواربة، فالظواهر الإنسانية والمجتمعية تتضمن بالضرورة تلوينات تنحاز لرؤية دون أخرى، وتعكس وعياً بعناصر الظاهرة موضوع البحث، ومن ثم لا يمكن أن نتعامل معها كتعاملنا مع الظواهر الطبيعية بخصائصها المادية وشروطها الإجرائية.
4- المراجعة المستمرة للمنطلقات الفكرية، فالمنهج النقي، شأن كل منهج بحثي، يعتمد على المنطلقات موجهة لتحليلاته وتفسيراته، ولكنها تظل دوماً موضوعاً للمراجعة.
5- التوجه نحو فهم التنوع البشري والثقافي، واحترام هذا التنوع، وبالتالي احترام الخصوصيات الحضارية والثقافية وتبني منطلقات وآليات التحليل والتفسير تتلاءم وخصوصيات كل مجتمع.
6- إن المنهج النقدي يفرض تتبع جذور الظاهرة وسبر أغوارها، ومتابعة في أعمق الأعماق التي تمتد إليها، للوقوف على زمان وماكن ولادتها، وكيف نمت وتطورت والظروف التي ساعدت على هذا النمو، واستخلاص معانيها ودلالاتها، والسياقات المرتبطة بهذه المعاني والدلالات.
7- ضرورة إفصاح الباحث النقدي عن منطلقاته وتفضيلاته وقناعاته الفكرية كإجراء ضروري لتحقيق الموضوعية بمفهومها الإيجابي.
8- الأخذ بمفهوم »العوامل المتعددة« في تفسير الظاهرة الاجتماعية، فهي من التعقيد بحيث لا يمكن إرجاعها إلى عامل أو سبب واحد.