الفتنة الكبرى تحت رماد التاريخ
بقلم عزالدين مبارك
التاريخ صيرورة من الزمن والأحداث والمصادفات العجيبة أحيانا وهو عزيز المذهب وفي باطنه نظر وتحقيق وليس مجرد سرد للأخبار كما يقول العلامة ابن خلدون ولا يلتفت إلى الوراء إلا استهزاء بما يصيبنا من غباء وعمى وقلة البصيرة. فالعرب بصفة عامة لا يقرؤون تاريخهم بتمعن ولا يأخذون العبرة منه ونظرتهم جد قصيرة لا تتجاوز أطراف الجلباب. فعندما يتكلمون عن الحاضر يراوغون ويستنبطون الحيل ويتهربون من المسؤولية باستقراء بعض الأحداث التاريخية ويسقطونها إسقاطا فجا على الواقع ومثل ذلك مثل الاستشهاد بالآيات القرآنية وهي التي أنزلها الله على نبيه محمد في ظروف وملابسات معلومة.
وإذا قرأنا تاريخنا القديم أو الحديث بتجرد وعقلانية وتعمق الباحثين عن الحقيقة فلا يمكن إلا أن نعترف بأنه تاريخ مليء بالفتن والجروح والدماء وذلك كنتيجة لصراعات مذهبية وعقائدية من ناحية أولى والتكالب على السلطة والثروة من ناحية ثانية. كما أننا مررنا بفترات قليلة كان فيها السلطان عادلا تمكنا خلالها من بناء حضارة وسدنا العالم غربا وشرقا وقدمنا انتاجا علميا ومعرفيا للإنسانية.
وبما أن التاريخ هو فعل إنساني جمعي تتوحد فيه الأفكار والهمم للإنجاز والتطور فقد أثرت الفتن الكثيرة التي أصابت المجتمع والصراعات التي اندلعت بين الأقوام والعشائر والأمراء والسلاطين في توحيد الإرادة وصنع التاريخ باستمرار. فالذي لا يتقدم يتأخر ولا يجد لنفسه مكانا في عالم متغير ولا يرحم المغفلين والمتقاعسين والنائمين ولا يجازي غير المغامرين والتواقين للتجديد والاختراع.
فالمسرح التاريخي بعد الفتوحات المسنودة بالإرث الديني كان مهيأ لحضارة عظيمة من كل النواحي المادية والمعرفية لكن لتستمر طويلا ولا تتلاشى وتزاحم بجدية وفاعلية الأمم الناشئة الأخرى عليها أن تواكب الحداثة وتطور من أساليب الحكم والسياسة والعلوم.
ومع الأسف الشديد ففي ذلك الوقت كانت الزعامات والقيادات الدينية والعسكرية والأمراء والسلاطين تحكم من خلال ''قوانين'' او فتاوي أو أوامر شبه عرفية يغلب عليها الطابع الشخصي والمزاجي وغابت كل آليات الشورى وأخذ رأي الرعية التي كانت مغيبة تماما عن منظومة أخذ القرارات والمبادرات.
فالمجتمع كان في شبه غيبوبة تامة تأتيه الأوامر السلطانية فيطيعها دون تردد خوفا من البطش وبئس المصير والجميع في خدمة القصر كالحشم والعجم والجواري فلم تكن للرعية استقلالية مادية أو معنوية لتغيير الواقع البائس رغم ما نعرفه من ثراء فاحش للأمراء في ذلك الوقت.
وقد انغمس السلاطين نتيجة ما تحقق من فتوحات وغنائم في اللهو والطرب والعبث والفساد وأحاطوا أنفسهم بهالة من القدسية بمباركة الشيوخ والوعاظ والشعراء ثم انعزلوا عن الرعية والعالم الخارجي في قصور تحاكي البيزنطيين والفرس عظمة وهكذا تحولنا من صنع التاريخ إلى صنع الفساد والفتن والانحطاط.
فالرعية المغلوبة على أمرها والمكبلة بالقوانين القهرية الجائرة والفتاوي ذات البعد الديني والتي تكرس طاعة الأمراء والسلاطين حتى وإن جاروا وتجبروا وأفسدوا لم يكن متاحا لها تغيير هذا الوضع الذي أدى إلى الفتن والصراعات وقد سالت الدماء أنهارا وقطعت الرؤوس وعلقت على الأشجار وسبيت النساء.
وهكذا مرت العقود والأزمنة بسلسلة من الصراعات البيزنطية بين دويلات وطوائف ونحل حتى ضاعت البوصلة التاريخية من أيدي الجميع وقد أضعنا وقتا ثمينا في الركض وراء الحسان وعد الدريهمات وتشييد القصور والنبش في القبور لعل الفاتحين يعودون من جديد لضخ دماء جديدة في العروق الهرمة.
وبما أن التاريخ ماكر بطبعه ولا يعود إلى الوراء إلا من خلال العبر والمعاني والرموز فقد بقينا نجتر أحداث التاريخ وقد أصبحت رمادا منسيا مما يدلل على قلة حيلتنا وخيبتنا الوجدانية واعترافنا الضمني الخجول بمرارة الهزيمة التاريخة المذلة ونكابر دائما ونحن عراة حفاة متخلفون وبائسون وفي الحضيض قابعون.
فهذه صحراء التاريخ بيننا فحبات الرمل وحدها لا تصنع الكثبان دون الرياح كما أن السراب لا يطفئ الظمأ والخطاف لا يصنع الربيع والدجل والسفسطة لا تولد المعرفة والحقيقة.
وقد يعيد التاريخ نفسه لكن بتفاصيل أخرى فها هي الفتنة الكبرى على أنقاض ورماد الديكتاتوريات الآفلة والربيع المستوردة زهوره وياسمينه من الخارج تعود من جديد لتحرق الأخضر واليابس وتعيدنا إلى حقبة ما قبل التاريخ.