أصل التفاوت الجهوي : لعنة التاريخ والجغرافيا
بقلم عزالدين مبارك
لم يكن التفاوت الجهوي من الناحية الاقتصادية والتنموية والسياسية في البلاد الواحدة نتيجة للصدفة والخوارق بل هو نتيجة عدة معطيات موضوعية يمكن رصدها وتحليلها ومنها البعد التاريخي والجغرافي بحيث تراكمت الثروة المادية والمعنوية هنا وهناك على حساب مناطق أخرى مثلما يحدث على المستوى العالمي حسب نظرية المركز والهامش للمفكر العربي سمير أمين.
فالبلاد التونسية على سبيل المثال مرت بمراحل تاريخية معينة كانت بدايتها طغيان الفكر القبلي والعشائري كنمط سياسي لحماية الأفراد والتمكن من الثروة التي كانت فلاحية بالأساس ومحورها الأرض والماء والكلأ والدواب ولهذا كانت الأرياف في ذلك العصر مزدهرة من الناحية الاقتصادية والثقافية والفكرية ثم جاء عصر التجارة التبادلية والحرف شبه المصنعة يدويا والهجرات الداخلية والخارجية إلى حين جاء الغزو العثماني الذي سكن الحواضر القريبة من البحر وبذلك ازدهرت المدن الشاطئية بفضل التجارة والصناعة الحرفية وبعض الصناعات التحويلية البدائية وكان ذلك على حساب الأرياف وبلاد الداخل التي أصبحت في خدمة مصالح الباي وحاشيته المتغولة.
فبداية من هذه المرحلة العثمانية تم تفقير المناطق الريفية وجعلها تابعة للأعيان بالمدن البحرية بالأساس فعم الفقر والتهميش والبؤس القرى التي كانت تحت رحمة نزوات الباي الذي يوظف على كاهل الفلاحين والرعاة البسطاء المكوس والجبايات القاصمة للظهر فتعددت الاحتجاجات والثورات والقلاقل في هذه الربوع المهمشة بعد أن كانت تعيش في هدوء وسكينة ومتقدمة من الناحية الاقتصادية على المدن الساحلية.
وقد قامت الثورة الصناعية في الغرب وانتشر اقتصاد انتاج السلع بصفة غير مسبوقة فتحولت المدن الساحلية إلى معامل عملاقة وورش بحكم قربها من الموانئ والطرق البحرية فتحولت اليد العاملة من الرعي والزرع في الأرياف إلى عمال بالصناعة والتجارة والخدمات بحيث تم افقار الريف من أدوات انتاجه وقد زادت السياسة التعليمية في تسريع هذا التحول بحيث اعتمدت على تلقين الناشئة العلوم النظرية على حساب الدروس التطبيقية وخاصة الحرفية والمتعلقة بالفلاحة والبيئة المحلية الريفية بالأساس.
وقد كانت الفترة الاستعمارية من أشد الفترات قسوة وتهميشا على المناطق الريفية بحيث وقع نهب خيرات هذه المناطق من فسفاط وماء ومواد أولية وجعلها في خدمة المشروع الاستعماري وربطها باقتصاد المركز فتحولت الأرياف إلى خراب بعد هجرة جل شباب هذه المناطق بصفة قهرية إلى المدن الساحلية للعمل في ظروف شاقة ومهينة وبأبخس الأجور مما نتج عن ذلك العديد من التوترات التي أتت بالنقابات الشغلية وكان ذلك بداية مشروع الاستقلال. فتهميش الأرياف في الحقيقة هو الذي ساهم مساهمة فعالة في ولادة الثورة على المستعمر والدليل على ذلك أن أغلب المناضلين كانوا من تلك الأماكن ومع الأسف الشديد ينسى أغلب الساسة هذه المعطيات التاريخية والجغرافية.
فالتحولات الاقتصادية والجيوسياسية بمنطق التاريخ همشت الأرياف بحكم اختصاصها الجغرافي الأولي في الزراعة والرعي وقد تحولت المدن الساحلية بحكم إقامة السلطة بها حيث الأعيان وقوة القرار والميزة التنافسية الصناعية وهو القطاع الغالب في دنيا الأعمال في هذا العصر إلى مكان جالب لكل القوى الباحثة عن الثروة على حساب المناطق الداخلية التي تم تفقيرها اقتصاديا بتحويل الثروات التي حباها الله بها إلى المناطق الساحلية أو الخارج كالماء والنفط والفسفاط وإفراغها من قواها العاملة وشبابها ليتحول للعمل في الصناعة والتجارة والبناء بأجور زهيدة وفي ظروف مهينة والتي على ملك الأعيان والأجانب.
وقد كانت فترة ما بعد الاستقلال تحمل في البداية بشائر سد الفجوة بين المناطق الداخلية والمناطق الساحلية بحيث وقع الاهتمام بالتعليم والصحة والفلاحة لكن سريعا ما وقع التخلي عن هذا التمشي الاشتراكي في سبعينات القرن الماضي وتم اعتناق بصفة مشوهة اقتصاد السوق وعقيدة الربح والانحياز لأرباب الأعمال على حساب الطبقة الشغيلة مما عمق الفجوة بين الفقراء والأثرياء وهمش المناطق الريفية بصفة عميقة فتحولت البلاد إلى فوهة بركان فعمت الفوضى ثم هدأت الأمور ما يقارب الربع قرن تحت وطأة الديكتاتورية التي أرجعت الغليان الاجتماعي تحت السطح.
وبما أن النموذج الاقتصادي لم يتغير قيد أنملة وهو تفقير الجهات الداخلية الريفية وتهميشها بصفة مطردة وممنهجة لصالح الطبقات المتنفذة والتي استحوذت على الثروة عن طريق الفساد ومساندة الديكتاتورية والسلطة الحاكمة فعادت دورة الغضب والاحتجاج إلى فعلها من جديد لعل الرياح هذه المرة تكون لصالحها فينصفها التاريخ بعد أن تنكر لها باتفاقه مع جحود الجغرافيا لكن هيهات لأن الماسكين بناصية القوة والحيلة مازالوا متربصين ولن يقبلوا مطلقا النزول من عرش الأسياد ليتحولوا خدما وكعامة الناس.
فالتهميش الجهوي هو تقسيم طبقي بامتياز له جذور تاريخية واقتصادية وجغرافية وهو محور الاقتصاد الليبرالي الرأسمالي المعاصر ومرتبط بالقوى المسيطرة على العالم ودور الدول الضعيفة هو المحافظة على هذا التوازن والحصول على المساندة والقروض والإعانات أو مواجهة العاصفة وإن السياسة التي تديرها حكوماتنا بكل أطيافها وألوانها لا تستطيع الخروج عن هذه القاعدة المرسومة مسبقا حتى وإن أرادت ذلك وأن كل الكلام المباح حول معالجة التفاوت الجهوي لا يتجاوز قط التلاعب بالعقول وبيع الأوهام.