الصناديق الاجتماعية على حافة الإفلاس
بقلم عزالدين مبارك
تعتبر الصناديق الاجتماعية عماد السياسة الاجتماعية للدولة التونسية بما تقدمه من خدمات أساسية كالتغطية الصحية وجرايات التقاعد وغيرها للملايين من الناس وتساهم بذلك في تطوير وتدعيم التنمية البشرية والمحافظة على العنصر البشري للقيام بدوره اقتصاديا واجتماعيا بصفة فاعلة ودائمة.
وقد مرت الصناديق الاجتماعية في السنوات الماضية وبداية من ثمانينات القرن الماضي بصعوبات مالية ونذكر بالخصوص صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية المكلف بتغطية أعوان القطاع العمومي وذلك إثر تقلص وتيرة الانتدابات بهذا القطاع ووصول عدد كبير من المنخرطين لسن التقاعد.
ومنذ ذلك الحين اتبعت الدولة سياسة معالجة العجز بالرفع من مستوى المساهمات المسلطة على عاتق الأجراء والمشغلين بصفة دورية وخاصة بمناسبة الزيادات في الأجور.
وفي السنوات الأخيرة تفاقم عجز الصناديق الاجتماعية بصفة مخيفة وخطرة وهي الآن على حافة الإفلاس والعجز مما يهدد مواصلتها الإيفاء بالتزاماتها و يضع السياسة الاجتماعية برمتها محل تساؤل ووضع النقاط على الحروف.
والغريب أن الخبراء والمحللين في هذا الميدان تنبهوا للأمر منذ تسعينات القرن الماضي وأفاضوا في ذلك وقدموا الحلول والسيناريوهات لكن الحكومات المتعاقبة لم تتخذ القرارات الصائبة في حينها ولم تقم بالإجراءات المناسبة قبل استفحال العجز وتركت الحبل على الغارب واكتفت بحلول مؤقتة معتمدة بالأساس على المراجعة الدورية في قيمة المساهمات لخلق توازن هش وغير مستقر.
وأغلب المسؤولين بهذا القطاع يرجع العجز للديمغرافيا أي لإرادة خارجة عن نطاقهم وبالتالي ليس بمقدورهم التحكم في صيرورته للتفصي من المسؤولية وعدم الخوض في الأسباب الحقيقية والتي أدت لهذه الوضعية الكارثية.
فمن الناحية الديمغرافية لا يمكن اعتبار مجتمعنا التونسي بالهرم لأن ما يقارب 10 في المائة فقط من الأفراد سنهم يفوق 60 سنة ثم إن البطالة هي في حدود 17 في المائة وهذا يعني أن هناك ما يقارب المليون عاطل عن العمل مما يعني أن عدد الذين يرغبون في العمل كبير جدا والعائق بينهم وبين تحولهم إلى منخرطين فعليين بالصناديق الاجتماعية هو عدم استيعابهم بسوق الشغل المرتبط أساسا بالسياسة الاقتصادية والتنمية والحوكمة.
وهذا ما يؤكد أن عمق المشكلة يعود أساسا لسببين هامين فقط وهما:
1. الأسباب الهيكلية: الانطلاقة الخاطئة والمتعثرة
كانت البدايات متعثرة في غياب تصور شامل للسياسة الاجتماعية في تونس بحيث وقع الاهتمام بفئات محددة دون غيرها كالموظفين الإداريين وخدمات معينة لا تشمل كل المخاطر في غياب كلي للتوقعات المستقبلية والدراسات العلمية.
فالصناديق الاجتماعية بدأت العمل بصفة فعلية ومهيكلة في ستينات القرن الماضي بتأسيس صندوق الضمان الاجتماعي تم بعد ما يقارب 15 سنة تم بعث صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية غلى أنقاض صندوقي التقاعد والحيطة. أما صندوق التأمين على المرض فلم ير النور إلا متأخرا في العشرية الأولى من بدايات الألفية الثالثة بعد أن تخلى الصندوقان المذكوران سابقا عن التغطية الصحية لفائدة هذا الأخير.
وكانت هذه الصناديق مرتبطة ارتباطا عضويا بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي ترسمها الدولة في مخططاتها المختلفة بحيث لم تكن لها توجهات مستقلة تمكنها من تطبيق خطط تتماشى مع توازناتها المالية ضمن منطق الفاعلية في التصرف وتحقيق مصالح المنخرطين والمشغلين والأجيال القادمة وديمومة الصناديق الاجتماعية.
ولم يتغير الأمر إلى حد اليوم بحيث الرؤساء المديرون العامون للصناديق الاجتماعية يتم تعيينهم لتنفيذ سياسة الدولة ويتصرفون حسب ما تمليه عليهم بيروقراطية وزارة الإشراف دون الأخذ بعين الاعتبار برأي الهياكل الموجودة والتي غالبا من مهامها تزكية القرارات المتخذة مسبقا وحضورها الصوري غايته الابتزاز والحصول على منافع شخصية في ظل غياب إرادة نقدية حقيقية وتمثيل فعلي لجموع المنخرطين المغيبين.
وهكذا تحول هؤلاء إلى مجرد مديرين عامين من ناحية التصرف وصنع القرارات مع التمتع بالامتيازات المخولة لهذا المنصب الرفيع دون تحمل المسؤولية بما إن إرادتهم مغلولة وصلاحياتهم محدودة وهكذا لم تقع محاسبتهم وإن أخطأوا وأفسدوا إلا في صورة الشطط البين ويكون ذلك عن طريق الخلع المفاجئ دون القيام بإجراءات التتبع.
فالغياب الكلي لتقييم العمل الذي يقوم به هؤلاء طيلة سنوات عديدة يؤدي حتما إلى غياب النجاعة الاقتصادية والتجاوزات والمظالم والفساد وما رأيناه بعد الثورة من احتجاجات واضطرابات في العديد من الدواوين والصناديق والمؤسسات العمومية لخير دليل على ذلك في ظل تمتع العمال والموظفين بقدر كاف من الحرية التي كانت غائبة ومعطلة في الماضي.
فلقد تم استعمال الموارد المالية للصناديق الاجتماعية والتي كانت في البداية متوفرة بكمية كبيرة لارتفاع في المداخيل وشبه انعدام للمصاريف في المساهمة في تدعيم ومساندة السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة كتدعيم هياكل وزارة الصحة وبناء المساكن الاجتماعية وتمويل بعض المؤسسات العمومية التي تمر بضائقة مالية والتوظيفات المالية في مشاريع ذات مردودية منخفضة.
والتحول الخطير الذي أثر تأثيرا كبيرا على توازنات الصناديق الاجتماعية تمثل في إتباع سياسة التوسع في الخدمات الممنوحة بداية من ثمانينات القرن الماضي دون اعتبار نسبة المخاطر المرتبطة بالتطور الاقتصادي والعمالة ومستوى التأجير. فقد كانت المقاربة المتبعة ذات اتجاه وحيد وهي تطوير الخدمات وتمويلها بزيادة نسبة المساهمات التي وصلت إلى حدودها القصوى وباتت لها تداعيات سلبية على العمالة والاستهلاك والادخار.
كما بدأ منذ ذلك الحين العجز يكبر ويتراكم شيئا فشيئا رغم التعديلات المتكررة متحولا إلى معضلة هيكلية ودائمة في غياب الحلول الناجعة والجذرية وربما تكون مؤلمة وقاسية في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية حاليا.
2. الأسباب الاقتصادية والسياسية:الحوكمة الغائبة واللارشيدة
تأرجحت السياسة الاقتصادية في تونس بين التخطيط ومركزية الدولة بقيادة قطاع عام مهيكل حول المؤسسات العمومية وبين اقتصاد حر يمثله قطاع مستقل لا يستطيع مواجهة التحديات بمفرده ودون مساعدة الدولة فالتعويضات والدعم الذي كان موجها للمؤسسات العمومية العاجزة لكي تقوم بالمحافظة على التشغيل ولو بمردودية منخفضة ذهب إلى جيوب رأسماليين جدد بدون ضمانات كافية وذلك رضوخا لوصاية صندوق النقد الدولي والمؤسسات المانحة للقروض.
وبذلك انتقل الاقتصاد التونسي من اقتصاد الرعاية إلى اقتصاد السوق بما في ذلك من مخاطر اجتماعية واقتصادية كالبطالة الزاحفة والفقر وظهور الفساد في ظل نمو بوتيرة سريعة للقطاع المهمش والموازي.
وهكذا أصبح القطاع العمومي المهيكل ضعيفا بعد بيع اغلب المؤسسات وانتشر العمل المستقل الحر دون الخضوع للمراقبة والشفافية والحوكمة الرشيدة فتقلصت نسبة الانتداب مع التحكم الاعتباطي في تطور الأجور مما خلق ضغوطات كبيرة على توازنات صندوق التقاعد في ظل مستوى من الخدمات جد مرتفع وغير متناسب مع مستوى المساهمات.
أما القطاع الخاص فنسبة كبيرة من نشاطه لا تخضع لرقابة الدولة بانتشار النشاط الهامشي والتهرب الضريبي والتمنع من التصريح الحقيقي بالعمالة و مستوى الأجور الفعلي لصندوق الضمان الاجتماعي.
إذا النموذج الاقتصادي والاجتماعي المتبع والذي أخذ منعرجا حاسما بداية من 1986 بإتباع سياسة اقتصادية متحررة والتخلي التدريجي عن القطاع العمومي لصالح القطاع الخاص في نطاق تطبيق البرنامج التعديلي الهيكلي رضوخا لتوصيات المنظمات الدولية و إتباع سياسة توسعية في مستوى الخدمات الاجتماعية الممنوحة هما من أهم أسباب انخرام التوازنات المالية للصناديق الاجتماعية لأنهما أثرا سلبا على المداخيل.
ويمكن أن نضيف زيادة على ذلك انتشار الفساد بتطور الاقتصاد المهمش بتوسع القطاع الخاص على حساب القطاع العام الذي قام بدور محوري وخاصة من ناحة خلق فرص العمل والانتاج. كما غابت الشفافية وعمليات المراقبة لتفشي ظاهرة الرشوة وضعف هيبة الدولة وسلطان القانون وغياب المحاسبة والكفاءة.
ومن أسباب العجز نذكر طريقة التصرف في الموارد المتاحة والتي لم تخضع للشروط الموضوعية المتبعة في منظومة الحوكمة الرشيدة والتصرف في نطاق الشفافية بحيث غابت قواعد حسن التصرف لغياب الكفاءاة لأن اختيار المسؤولين كان يخضع بالأساس على عنصر الولاء الحزبي والمحسوبية.
الحلول الممكنة
فالحل في غياب تحمل الدولة للعجز بإقرار أن مستوى الخدمات المتبع هو في مستوى الرفاهية الاجتماعية المتوافق عليها هو التعديل الآلي لمستوى الخدمات والمساهمات لتحقيق توازن دائم بين المصاريف والمداخيل كما يقول المثل العامي''قد كساك مد رجليك''.
أما الحل الموضوعي والذي اتبعته أغلبية الدول هو تأجيل حلول الكارثة إلى أعوام قادمة بالرفع من سن التقاعد تماشيا مع التحسن المطرد في مستوى أمل الحياة عند الولادة. وهذا الحل رغم وجاهته يعتبر تأجيلا للمشكل وتهربا من تحمل المسؤولية وعدم مواجهة الواقع وترك السفينة تغرق رويدا رويدا بما تحمل بعد تخلي الربان عن القيادة.
ويعتبر الحل الطبيعي المعتمد على التطور الاقتصادي هو الأمثل بحيث تتزايد نسبة الانتدابات وترتفع الأجور وتنخفض البطالة نتيجة تعدد المشاريع المنتجة والمستعملة للعمالة فتتصاعد أعداد المنخرطين بالصناديق الاجتماعية فترتفع قيمة المساهمات كنتيجة مباشرة لذلك.
وقبل الشروع في أي عملية إصلاح لنظام الضمان الاجتماعي الذي يجب النظر إليه كوحدة متكاملة رغم تنوع الأدوار والهياكل والخدمات لا بد من تحديد الأطراف المتسببة في العجز ونسبة مسؤولية كل طرف في ذلك وما هي نسبة الفساد في ذلك وسوء تصرف القيادات التي أشرفت وتداولت على تسيير هذه الهياكل. فلا يمكن التغاضي عن هذا الأمر وتحميل عبء العجز للمنخرطين بالترفيع من المساهمات أو التقليص من مستوى الخدمات دون محاسبة المخطئين ومسيئي التصرف والفاسدين.كما أن تحميل العجز للديمغرافيا يعد تبسيطا للأمر وهروبا من تحمل المسؤولية ونفيا متعسفا للأسباب الأخرى وخاصة الحوكمة اللارشيدة.