لا ديمقراطية في ظل نظام دولة الحزب الواحد
بقلم عزالدين مبارك*
في الجمهورية السابقة كانت تونس دولة الحزب الواحد بامتياز بحيث هناك تداخل وظيفي وهيكلي بين دواليب الدولة ومسؤوليها وامكانياتها المادية والمعنوية وبين الحزب الذي هيمن لفترة طويلة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد كان من الصعب على المحللين السياسيين والمتابعين للشأن العام الجواب على السؤال الجوهري، هل الحزب في خدمة الدولة أم الدولة في خدمة الحزب؟ كما إن دستور 1959 أعطى لرئيس الدولة صلاحيات امبراطورية وسلطات واسعة وهو الرئيس لكل الهياكل صغيرها وكبيرها وامتياز بن علي في ذلك أنه لم يطبع صورته عل نقودنا الورقية ربما تعففا أوخوفا من المقارنة أو محاولة منه لتجنب التطاول عندما لا تستقيم الأمور وكذلك لم يفسح المجال لنحت اسمه على الحيطان والشوارع.
والرئيس ربما يقترح بعض الأشياء لكنه في الغالب يصغي لعباقرة التشويش السياسي والوشاية ومبدعي تكريس الزعامة والتقديس والتأليه وذلك تزلفا وتقربا للبقاء في بحبوحة السلطة والتنعم بطيبها وقد وصل بهم الأمر للانقلاب على قناعاتهم الراسخة وغيروا جلودهم بل وكفروا حتى بأولياء نعمهم واحترفوا الكذب والدجل والنفاق.
وحلل بورقيبة على مضض في ثمانينات القرن الماضي بعث أحزاب بعد أن ظهر بعض الأفراد المعارضين والذين ضاقوا ذرعا بطاحونة الشيء المعتاد أو ملوا من كراسي الحزب الحاكم فكونوا صالونات نخبوية لا تسمن ولا تغني من جوع. وكانت النية هي استيعاب وتدجين الشباب المتحمس للنضال أو للإلهاء بعض المارقين عن الحزب نفسه.
وقد كانت للأزمة الاقتصادية الطاحنة في ذلك الوقت وانسداد الأفق أمام الشباب التلمذي والطالبي والعمالي والتحجر السياسي بعد المبايعة الشهيرة لبورقيبة بالبقاء في السلطة الدائمة مدى الحياة دور في صعود المد الإسلامي وتجذره وقد انخرط في صفوفه المهمشون والفقراء بالخصوص بعد أن اعتنقت الدولة في السبعينات من القرن الماضي سياسة السوق وتخلت عن دولة الرعاية في ظل بنية اقتصادية هشة وتابعة للرأسمال الأجنبي.
ومن الناحية السياسية لم يغير بن علي شيئا بل منح لبعض الكيانات أو التيارات أو قل القيادات أحزابا نخبوية ديكوريةتتمعش من المال العام دون سياسة مستقلة وبرنامج واضحة، لها دور المساند للقصر والمعارض في حدود الملاطفة والتربيت الخفيف والتكامل مع الحزب الحاكم.
فالديمقراطية لم يكن لها مكان في بلادنا منذ أصبحنا جمهورية بالاسم فقط وهي ملكية بالواقع والمعنى العربي وليست ملكية دستورية كما هو موجود في بريطانيا العظمى مثلا ولهذا فهذه النبتة بصعب زرعها في بيئة غير مهيأة لذلك ويتطلب الأمر أجيالا وتضحيات كبيرة.
فلا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية حقيقية ومازال الجوع والفقر والأمية والبطالة متفشون في البلاد ومثقفوها انتهازيون وسياسيوها يعبدون الكراسي والمناصب ويدورون في فلك الولاءات والمحاصصة الحزبية الضيقة ولم يقع التفريق والفصل بين الدولة والأحزاب ولم يقع التأكيد على حرية التعبير بصفة قطعية وحاسمة.
كما لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل النزوع نحو هيمنة الحزب الواحد على مقدرات الدولة واستعمالها في تأبيد حكمه وتغيير أبسط كوادر الهياكل الإدارية والمسؤولين على المؤسسات وتعويض الكفاءات الموجودة بأصحاب الولاءات وذلك لبسط نفوذ مطلق على دواليب الدولة والتربع على كرسي السلطة المطلقة فنتجه حتما إلى وأد الديمقراطية الناشئة في المهد وانتاج واقع جديد لا يقطع مع الماضي القريب بل يستنسخه استنساخا فجا.
فدولة الحزب الواحد المهيمن على الحياة السياسية والنافي للآخرين دولة غير ديمقراطية لأنها تقصي كل من يختلف معها ولا تبالي بالمجتمع المدني وأطروحاته وهي دولة متعالية عن المجتمع لأنها قادرة عل حشد المريدين والموالين بحكم تحوزها على الثروة والسلطة القاهرة. فدولة الديمقراطية هي دولة المواطنة بامتياز.
وتحكم الحزب في الدولة التي هي ملك للجميع يجعل منها كالبقرة الحلوب تدر لبنا على البعض وحصرما على البعض الآخر فيتحول ضعاف النفس وأصحاب المصالح إلى مناشدين وداعمين وينزع المهمشون والمحبطون إلى خلق الفتن والقلاقل وقد تم احتقارهم ونبذهم وإذلالهم.
فاستقلالية أجهزة الدولة عن الأحزاب وتجاذباتها هي بالتأكيد حجر الزاوية لبناء الديمقراطية زد على ذلك التداول السلمي على السلطة في نطاق حرية التعبير واستقلال جهاز القضاء، فللأحزاب هياكلها ورجالها ومشاريعها وللدولة كيانها المتأصل الثابت ومهمتها الأساسية حماية المواطن وخدمته ورعايته في كنف القانون والعدالة والمساواة بين الجميع.
*كاتب