ياسين بودهان ـ الجديدة ـ الجزائر
يرى الأديب الجزائري عمر أزراج بأن ‘‘ أفكار و نظريات أقطاب ما بعد البنيوية ، و ما بعد الحداثوية ، تناقش غالبا بمعزل عن نظرية الأدب ، و بعيدا عن العملية النقدية ، و المطلوب هو التفكير في ذلك ’’ .
و حسب عمر أزراج فان ” فكر ما بعد البنيوية ” أحدث في الغرب تغيرا راديكاليا ، في نظرية الثقافة بشكل عام ، و في نظرية الأدب على نحو ملفت للنظر ” ، و يعتبر أن بدايات هذا التغيير كانت في مجال الفلسفة ، قبل أن تمتد إلى حقول معرفية أخرى ، في مجالات العلوم الإنسانية و المعمار ، و يعتبر جاك دريدا و ميشال فوكو و جاك لاكان حسب نظر أزراج من بين أهم الأسماء اللامعة التي لعبت دورا رياديا في الفكر المعاصر ، فالمناقشات التي كانت ساحتها فرنسا توسعت فيما بعد لتشمل دول أخرى من القارة الأوروبية ، لتعم بعد ذلك الفضاء الغربي ، و من بعد يتلقفها مثقفون و مفكرون ونقاد من مختلف أنحاء المعمورة ، لكن بنسب مختلفة من الوعي و الاستيعاب و التوظيف للنظريات التي تشكلت و تبلورت على أيدي الأسماء المذكورة سابقا ، و من بين هذه المناقشات ، برزت مناقشة جد مهمة لجاك دريدا ، التي أدارها مع وضد ظاهراتية الفيلسوف الألماني ادموند هوسرل .
و يرى عمر ازراج أن هناك نقاط اختلاف في فكر الرجلين فهوسرل أكد أن مشروعه الفلسفي يسعى إلى تحويل الفلسفة إلى علم ، كانت انطلاقته قد أكدت على ضرورة البدء من الوعي بالعالم ، لذلك سميت فلسفته بالظاهراتية ، لأنها ” تتعامل مع الظواهر و الأشياء التي تظهر كصور ” ( 1 ) في العقل الواعي ، بعد انجاز هذا فان الخطوة الثانية تتمثل في ” استخلاص ما هو أكثر محضا من التجربة أثناء حدوثها في الوعي ” ( 2 ) بواسطة عملية يدعوها بالتقطير .
العــــودة إلى الأشيـــــاء
و يؤكد عمر أزراج أن هوسرل دعا إلى العودة إلى الأشياء ذاتها ، و تعليق كل ما قيل عنها في السابق ، و قال أيضا أي هوسرل بقصدية الوعي ، أي أن الوعي هو وعي بشيء ما ، و يوضح مايكل راين بأن ” تحديد مصطلح التعالي يحتل مركز أساسي في فلسفة هوسرل ، و يعني به ما يبقى خارج التجربة اليومية “( 3 ) ، و يحاجج أيضا ” إذا استخدمت قوى التجريد لديك لتتجاوز أو لتخطو خارج تدفق التجربة ، فانك تحصل أو تصل إلى عالم المعرفة المتعالي ، حيث يوجد الشيء الذي تريد أن تدركه بذهنك في شكل مثالي محض ” ، و عن طريق هذه العملية يعتقد هوسرل بإمكانية الحصول على الحقيقة التي يمكن أن تسمى بالكلية أو المطلقة ( 4 ) ، و على النقيض تماما يرى الفيلسوف دريدا بان إنهاء الصلات بالعالم ، غير ممكن ، وهو ما يذهب إليه هوسرل .
و في ذلك يقول دريدا حسب ما نقله أزراج ” إن الأمر ليس هكذا لأن المكان المتعالي خارج الزمان و الفضاء حيث تبدو المعرفة الكلية ممكنة ، هو نفسه مجرد مكان أو أكثر من مكان وسط أمكنة أخرى و لحظة أو أكثر من الوعي الذي تلقى عليه الظل لحظات أخرى ” ، و لذلك حسب دريدا فانه ” لا يمكن و لا تستطيع أبدا أن تخرج خارج الزمان أو الفضاء ” ، وعليه يقول عمر ازراج أن هذا التناقض بين هوسرل ودريدا ، يمكن ترجمته إلى نظرية الأدب ، لكن كيف يمكننا ذلك ؟ يتساءل أزراج ، لكنه يجيب بعد ذلك قائلا ” هذا الموضوع معقد ، و يحتاج إلى دراسة منفصلة و خاصة ، و ذلك لا يكون إلا بالقول أنه من المستحيل القبض على المعنى المطلق في النص الإبداعي ، لأن حدوث ذلك ـ حسب أزراج ـ يعني أن النص نفسه قد انتهى و لم يعد يوحي بشيء ما يمكن أن يكتشف أو يغري بالبحث عنه في المستقبل ، و إذا حدث و إن تم وضع اليد على الحقيقة النهائية في النص الإبداعي ، فان ذلك يكون متزامنا مع موت ذلك النص ، و من هنا يقول ازراج تكون نظرية الاختلاف عند جاك دريدا لحظة فكرية مبهمة ، إن ” إبداعية النص تفترض بالضرورة سلسلة غير نهائية من الاختلافات حول الحقيقة التي يحاول أن يقترب النص من ظلالها .
و حسب ما جاء في كتاب مايكل راين حول” النظرية الأدبية ، مقدمة عملية ” فان فكرة الاختلاف ” يعني بان النص يؤجل شيئا ما و لا يقوله مباشرة ، إن هذا الشيء المؤجل هو الذي يميز الإبداع عن التقارير المكتوبة حول قضية ما ، سواء كان تقريرا بوليسيا ، او كانت محضر جلسة في المحكمة ” و هنا يقول أزراج أن راين يعتبر دريدا قام بقلب فكرة هوسرل ” إذا كان هوسرل قد زعم بان التدفق يمكن أن يحول إلى حقيقة مثالية على نحو مطلق و التي توجد في فضاء ذهني محض ، فان دريدا بالمقابل قال بان كل الحقائق المطلقة و كل الحالات الذهنية المحضة المفترضة هي مجرد جزء من التدفق أي تدفق التجربة الواعية في الزمان التاريخي و الفضاء الفيزيائي الواقعي ” .
و عليه يرى أزراج أن ” تشكل التجربة الإبداعية هو المطلوب و ليس الجري وراء تحديد سمات أو هوية الحقيقة التي يبحث عنها دون طائل في هذا أو ذاك النص ، و في هذا السياق فان المبدأ الذي يجعل اللغة تعمل حسب الصياغة النظرية لدى سوسير هو مبدأ الاختلاف ، و ذلك حسب استنتاج راين ” إن الاختلاف بين الأصوات تسمح للكلمات أن تكون مختلفة عن بعضها البعض ” ( 5 ) ، و يلخص القضية بقوله بان ” هوية الكلمة طارئة بدلا من كونها ثابتة و مطلقة ” .
وبناء على هذه المناقشة يرى عمر أزراج انه يمكن للمرء أن ” يقترح ضرورة التخلي عن فكرة الهوية الفردية ، أو الجماعية أو الحضارية ، التي تقول بأنها مثبتة و متطابقة مع نفسها و لا تطالها ” الهجنة “ ، أو تكون دائما في حالة عدم التشكل والتبدل .
و يرى أزراج أن معظم مفكري تيار ما بعد البنيوية و نقاد تيار ما بعد الحداثة ، يعترضون على هوسرل ، معتبرين أن فكرة هذا الأخير لا يمكن أن تثبت الشيء ، أو فكرة في إدراكنا الواعي ، أو أن نستخلص منها هي أكثر صعوبة من أن ننجز إذا كان الموضوع ” الشيء ” في أذهاننا هو علاقة اختلاف مما هو هوية ” , و يوافق ازراج هذا الرأي لأنع يعتبر انه من الصعوبة بمكان أن نثبت علاقات الاختلاف التي هي في سيرورة و صيرورة دائمتين .
لكنه يرى بالمقابل أن الجزء الأخير من الاعتراض غير صحيح ، لأن تثبيت الهوية أمر صعب أيضا ، لأنها في حركة دائمة ، و هي طارئة وليست مستمرة ، و عليه فان ” الجانب اللاواعي من الهوية لا يمنح لنا نفسه دفعة واحدة ، أو على نحو كامل و مغلق الدائرة ، بل إن بعض عناصر هذا اللاوعي يبقى سرا ، يأخذه الشخص معه حين يموت دون الإفصاح عنه أبدا ” .
سقــــوط السرديـــــــات
يقول عمر أزراج أن ” الدارس و الناقد لمايكل راين ، الذي يعتبر فكر جاك دريدا ملهما ل ” ما بعد البنيويين ” ، لم يسبر بعمق كعادة أغلبية مؤرخي فلسفة التفكيكية ، ونقاد و مؤرخي ما بعد البنيوية ، في طبعتها الفرنسية جانبا مهما من المؤثرات التاريخية و الاجتماعية و النفسية ، و التي لعبت دورا محوريا في ولادة و نشأة و تطور فكر دريدا و فوكو و ليوتار ، و غيرهم من فلاسفة و مفكري فرنسا ” .
و يقصد بذلك أزراج بهذا الجانب الصدام العنيف الحاصل في ساحة الحرب الجزائرية و الفرنسية ، لأنه من غير المعقول يضيف ” أن يدرس فكر هؤلاء المدعو بما بعد البنيوي ، و ما بحد الحداثي ، دون تحليل هذا البعد التاريخي الحاسم ، و يعترف هؤلاء بأن نقدهم للميتافيزيقا الفكرية و الفلسفية و الإيديولوجية الفرنسية الغربية كان جزئيا ، و على نحو مهم بسبب سقوط السرديات الكبرى ، بدأ من الماركسية الفرنسية مرورا بمبادئ الثورة الفرنسية و عصر التنوير الأوروبي ، وانتهاء بالديمقراطية و شعاراتها بعد اختبارها على المجتمع الجزائري المستعمر .
وحسب أزراج فان الفيلسوف دريدا صرح أكثر من مرة بأن تجربته في الجزائر المستعمرة قد نقلها إلى الفلسفة ، كما أن فوكو قالها بصوت واضح في كتابه ” ملاحظات حول ماركس ” بان تخليه عن الماركسية التي يعرف بها الحزب الشيوعي الفرنسي يعود إلى تناقضها مع مبدأ و تحرر و استقلال الجزائر ، و إلى تجربته التونسية أيضا ، أما فلسفة فرنسوا ليوتار التي أبرز عن حدتها ما بعد البنيوية و ما بعد الحداثية في كتابه الشهير ” الشرط ما بعد الحداثي ” فليست هي فقط أيضا نتاجا محضا و صرفا لتجربته الفكرية و الفلسفية في جذرها الفرنسي الغربي ، بل جزئيا و ربما في كثير من الحالات تدين كثيرا لصلته العضوية بحركة التحرر الوطني الجزائري ، و لنقده المواقف الرسمية لماركسية الحزب الشيوعي الفرنسي المتخاذلة تجاه قضية التحرر الجزائري ، من جهة ، ولنقده القوي لإهمال هذا النمط من الماركسية التقليدية للبعد الوطني الجزائري ، بحجة انتظار تحرر الطبقة العاملة العالمية ووصولها إلى الحكم ، لتكون الجزائر فيما بعد جزء من الدولة الشيوعية العالمية ضمن الإطار الفرنسي ، و ليس كعنصر مستقل في حد ذاته ، ووفقا لمبدأ تقرير المصير الذاتي الإيديولوجي ، و في الأخير يقول أزراج أن دراسته لكتابات ليوتار مكنته من الاستنتاج بأنها متبادلة التأثير ، إن لم تكن الأولى مؤسسة لمفاهيم و مواقف الأولى .
المراجع :
المقتطفات و الشواهد من 1 إلى 5 من كتاب مايكل راين ” النظرية الأدبية ، مقدمة عملية ” الصادر باللغة الانجليزية عن منشورات بلاك ويل سنة 2007 ، ص 62 ـ 70 .