02/03/2011
التقاه: بشير مفتي
الباحث الجزائري محمد شوقي الزين: الفلسفة الناجحة هي التي تحسن ترجمة التفكير الي تدبير
الجزائر ـ القدس العربي : يعتبر الباحث محمد شوقي الزين من أهم الباحثين الجزائريين الجدد في حقل الفلسفة الغربية والعربية الاسلامية، أنجز مؤخرا أطروحة دكتوراه بجامعة أكس بروفانس الفرنسية حول ابن عربي وأصدر عددا من الكتب المهمة في حقل الفلسفة الغربية كـ: تأويلات وتفكيكات عن المركز الثقافي العربي، ازاحات فكرية، وهويات وغيريات بالفرنسية عن منشورات الاختلاف، كما له ترجمات عديدة أهمها فلسفة التأويل لغادامير. في هذا الحوار رحلة في تجربة هذا الشغوف بالفلسفة منذ البداية الي الآن.
لقد كان اهتمامك الأول في دراساتك الجامعية بمحمد اقبال. لماذا؟ وماذا كان يهمك في هذا المفكر؟
كان اهتمامي الأول بمحمد اقبال كشاعر وفيلسوف، وهو اليوم فخر الأمة الباكستانية مثلما الأمير عبد القادر هو فخرنا. فبفضل محمد اقبال استقلت باكستان عن الهند سنة 1947 وكان اللواء محمد علي جِناح هو الذي نفذ فكرة اقبال. أتذكر أنه كان لدي في دراساتي الجامعية اهتمام خاص بمتصوِفي الاسلام والمسيحية، ووجدت أن اقبال كان في الغالب يستند الي آرائهم خصوصا جلال الدين الرومي والحلاج ومحيي الدين بن عربي في كتابه تأسيس الفكر الديني في الاسلام وهو سلسلة من المحاضرات ألقاها اقبال في عدة جامعات في بريطانيا وباكستان، كانت رسالته الجامعية حول الفكر الميتافيزيقي الفارسي تحت اشراف المستشرق الانكليزي نيكلسون. بفضل محمد اقبال برز عندي نوع من الشغف بقراءة النصوص العرفانية لغايات نظرية وفلسفية: مثلا العلاقة بين العرفان القديم (أفلوطين، فيلون الاسكندري) والاسلامي (الجنيد، الترمذي، يحيي السهروردي، ابن عربي، داوود القيصري) والمسيحي (المعلم اكهرت، القديس يوحنا الصليبي، اينياس دو لويولا)، كانت لمحمد اقبال منهجية جيدة في المقارنة بين المدارس والعصور، وهي منهجية مبنية علي قبول كل العناصر المتناقضة (بما فيها الالحادية كما هون الحال مع المانوية والزرادشتية) دون اقصاء أو اختزال (العدالة في الفكر أمر مهم جدا). مكنتني طريقته من قراءة النصوص ومعالجة الكيفية التي بموجبها تنتقل الفكرة وتتطور من عصر الي آخر وراء عدة أسماء ودلالات: فلا فرق بين واحدية أفلوطين ووحدة الوجود عند صدر الدين القونوي واتحادية سبينوزا سوي في الكيفية التي عولجت بها الفكرة مع مراعاة النسق الفلسفي أو العرفاني، بمعني أخذ بعين الاعتبار الاختلافات الجوهرية (أفلوطين، القونوي، سبينوزا) لاعتبارات مذهبية وتاريخية وثقافية، كان اقبال مشغوفا بما يمكن تسميته الوحدة في الاختلاف .
ثم أنجزت دكتوراه عن ابن عربي، هل يمكن أن تحدثنا عن هذا الموضوع بالذات؟
لهذا السبب انصب اهتمامي علي محيي الدين بن عربي. عالجت في رسالة الدكتوراه في 450 صفحة مسألة المعرفة والكشف في مذهبه، بعد محمد اقبال كان للمؤرخ ميشال دوسارتو (متخصص في التصوف المسيحي) الشخصية الثانية التي ساعدتني بفضل مناهجها وتحليلاتها المتبحرة علي قراءة ابن عربي وفهمه في مرجعيته اللغوية والفكرية. كان اعجاب لجنة المناقشة بقراءة فريدة تحاول قراءة ابن عربي بابن عربي نفسه دون اسقاطات أو اختزالات (رغم المجازفة التي قمت بها عندما قاربته بجاك دريدا في عدة مقالات نُشرت في لبنان والبحرين). لنقل بأن العمل الأكاديمي كان يتطلب هذا النوع من الحيطة والحذر مع مراعاة الأسس المنهجية التي تُبني عليها كل رسالة جامعية. عالجت في مذهب ابن عربي ما يسمي اليوم الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة ، لكن في نطاق يفلت من العلمية بالمعني الحصري والموضوعي للكلمة. فمن الصعب أمام نص يدعي المكاشفات والمشاهدات الباطنية أن نوظف دون حذر مصطلح الابستمولوجيا. لهذا السبب كنت مجبرا علي توظيف قراءات أخري مستمدة من التأويلية (الهيرمينوطيقا) والظواهرية (الفينومينولوجيا) مع مراعاة الهم الأصلي قراءة ابن عربي بابن عربي نفسه . عندما انتهيت من تدوين الرسالة وتيقنت بأنني لم أغفل أي شيء بما في ذلك القراءات المعاصرة حول ابن عربي، توصلت الي نتيجة مفادها أن القراءات حول ابن عربي (في فرنسا خصوصا) تميزها صراعات بين مدرستين: أتباع هنري كوربان (المتخصص الفرنسي في الاسلام الايراني والذي حاول ربط ابن عربي بالتشيع) وأتباع ميشال شودكييفيتش (أشهر متخصص في ابن عربي في فرنسا وكان ضمن لجنة المناقشة)، هذا الأخير الذي يحبذ التصوف الطُرُقي كما اتبع معالمه ابن عربي عندما كان مريدا لشيوخ عدة في الأندلس والمغرب والجزائر (أبو مدين في بجاية) وتونس، عندما تيقنت من حدة هذا الصراع بين اتجاهين يحاولان احتكار قراءة ابن عربي، ابتعدت بالقدر الكافي عن هذا الصراع، مركزا اهتمامي علي قراءة غير ايديولوجية وغير مسبقة لكتابات الشيخ الأكبر. عزلتي المعرفية واستقلاليتي الفكرية هما أفضل من نُصرة هذه المدرسة أو تلك.
لقد انصب اهتمامك في كتابك الأول تفكيكات وتأويلات علي الفلسفة الغربية الحديثة؟
في كتابي الأول كانت لدي الرغبة في جمع دراسات هي نتاج سنوات عدة من القراءة والتحليل. كان العنوان الأصلي هو فصول في الفكر الغربي المعاصر لكن الناشر (المركز الثقافي العربي) لم يكن مقتنعا بالعنوان ولا بقلة الدراسات، فعمدت الي اضافة بول ريكور وريتشارد رورتي، وكان شعوري وقتئذ هو الاهتمام الذي كنت أوليه للتأويلية والتفكيكية معا، فراودني عنوان تأويلات وتفكيكات الذي وجدته جذابا وكان للمفكر علي حرب دور في ذلك، بمعني أنه نصحني باختيار هذا العنوان. هيو سيلفرمان ألف كتابا بنفس العنوان بين التأويلية والتفكيكية والذي ترجم الي العربية، فالغالب اليوم، في أمريكا خصوصا، الدراسات التي تحاول ايجاد أرضية مشتركة بين التأويل والتفكيك (بين المعني ونفيه)، وهو ما أحاول التمعن فيه والكتابة حوله.
ثم في هويات وغيريات علي القضايا الذاتية ان صح التعبير؟
هويات وغيريات جاء نتيجة هم معرفي ظهر بعد أحداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة: كيف وبأي معني وصلنا الي درجة الصراع بين الهوية والغيرية (الذات والآخر)؟ سنة قبل ذلك كنت قد نشرت في جريدة الوطن الجزائرية مقالا بالفرنسية بعنوان الاسلام والغرب بين المعني والهيمنة ونشرته بالعربية في جريدة المستقبل اللبنانية، ترجمه سردان رايليتش الي اللغة الصربية – الكرواتية ونشره في مجلة زاريز الصادرة في زغرب (كرواتيا) في عدد شارك فيه السوسيولوجي جون بوداريان علي غرار تأويلات وتفكيكات، فضلت أن أعنون دراساتي بالفرنسية بعنوان يفيد الجمع، ليس فقط لاعتبارات الأناقة والسجع ولكن لأهداف معرفية لأن الهوية هي دوما بالجمع (هويات)، فلا توجد وحدة مطلقة هي بمثابة الأساس الوجودي والثقافي للهوية. والغيرية هي أيضا بالجمع: عندما ننعت الآخر (الغرب مثلا) فلا نشير الي غيرية ذات وحدة مطلقة نفسيا وثقافيا وتاريخيا. فهناك دوما في الهوية روابط غيرية، وفي الغيرية حضور الهوية. يمكننا الحديث عن أمشاج تتجاوز ما أصبح يسمي عبثا أو عن جدية صراع الحضارات . مضمون الكتاب هو قراءة هذه الروابط الضمنية بالاستعانة برمزية المرآة: لعبة التقابل بين الشخص وشبحه المتجلي في المرآة، أي بين الهوية وغيريتها.
وفي ازاحات فكرية علي قضايا فكرية محلية، كيف قاربت هذه المسألة؟
في ازاحات فكرية كان اهتمامي منصبًا علي مشكلة المثقف وأنت – صديقي بشير مفتي ـ شاهد علي هذه الانارة الفكرية التي دامت بعض الوقت في جريدة اليوم الجزائرية وكنا نناقش معا مفهوم المثقف ودوره في المجتمع ونتبادل الانتقادات بسعة صدر. كنت وقتها أشايع علي حرب في ما كتبه حول المسألة، وعوض حديث النهايات حبذت أخلاقية التناهي معتمدا في ذلك علي قراءتي لكانط وغادامير وفوكو. كان الهم المعرفي موجها نحو تحديد أولويات المثقف بين الالتزام المعرفي والنضال السياسي وكذا علاقته بالحداثة. غالبا ما كنت أقرأ بعض المثقفين المتشائمين حول استحالة وجود حداثة في ديارنا رغم مسارات التحديث علي المستوي الاقتصادي والاجتماعي. فعمدت الي تغيير السؤال لأطرح الحداثة كفلسفة في الحدث لنخرج من مآزق التمثلات حول أي حداثة نختار أو ننتهج. كانت قناعتي هي كالتالي: لا نختار ولا ننتهج باتباع نمط معين آت من الغرب (أوروبا وأمريكا) أو من الشرق (الصين واليابان)، ولكن بابتكار حداثة ذاتية مرتبطة بالحدث الذي ننتجه كل يوم في شتي الميادين. هذا لا يعني أننا لسنا محتاجين الي ابتكارات الآخرين وحياتنا برمتها تتوقف علي مبتكرات الآخر (سيارات، طائرات، حواسيب، أنظمة المعاملات النقدية في البنوك، الهاتف النقال..) لكن مفهومي للحداثة يتجاوز النطاق الضيق للتحديث لينصب علي صناعة الحدث حيث للوعي الفردي والجماعي حضور ومشاركة وليس فقط حداثة منفعلة أو مفروضة تحت وطأة السوق ومنطق التجارة.
الازاحة التي كنت أعنيها هي هذه: الانتقال من التحديث المادي والتكنولوجي الي الوعي بالحدث الفردي والجماعي الذي نبتكره في نطاقنا الخاص، الكل في تخصصه، بموارده وطاقاته. وضعت المثقف في هذه الضفة بين الضرورة المادية والوعي الرمزي، دون التخلي طبعا عن الطموحات والآفاق أو الآمال والأحلام، بمعني اليقظة المستمرة تجاه كل أنواع الاستعباد أو الاستبداد في مختلف أشكاله وألوانه.
ترجمت كتاب فلسفة التأويل لغادامير، الذي يعتبر واحدا من فلاسفتك المفضلين؟
كما كتبت في تصديري لـ فلسفة التأويل لغادامير بأننا نكتشف باحتشام وتأخر هائل هذا الفيلسوف، حيث تُرجمت أعماله الي معظم اللغات العالمية. كانت محاولتي بمثابة رغبة في التعريف بهذا الفيلسوف واغناء المكتبة العربية بموضوع التأويل أو الهيرمينوطيقا وهو موضوع يلقي اليوم اهتماما متناميا لعلاقته بالنصوص الفلسفية والأدبية والدينية والقانونية. لهذا السبب يتحدث غادامير عن عالمية أو كونية التأويل، لأنه سواء في الفلسفة أو الأدب أو الفقه أو التفسير أو القانون أو السياسة أو العلاقات البشرية (الحب، المعاملات التجارية، التواصل، الصراع، الغيرة والأنفة، الصداقة..) فنحن محتاجون الي التأويل كانارة في المعني الذي نتقاسمه أو نحتكره أو نتخاصم حوله. فهو بمثابة المفتاح في حل أقفال النصوص والتجارب الانسانية. أود في هذا المقام تقديم شكري الي منشورات الاختلاف علي الجهد الذي بذلته لنشره في طبعته الأولي في شكل أنيق، وفي طبعته الثانية بالتعاون مع الدار العربية للعلوم والمركز الثقافي العربي.
وكتاب لعلي حرب من العربية للفرنسية، الذي تتقاطع معه في قضايا كثيرة؟
نعم أتقاطع مع علي حرب في قضايا كثيرة عبرت عنها في مختلف كتاباتي سواء تعلق الأمر بالحداثة أو الهوية أو المثقف أو ما بعد الحداثة. لكن لكتاباتي نوع من الاستقلالية واهتمام بقضايا أخري مثل التأويل وفلسفة الفعل والعرفان أو التصوف، ولم يكن لدي اهتمام بالعولمة الا نادرا. علي حرب هو ناقد بارع، برهن في عدة مناسبات تحكمه الرصين في مفاتيح العلوم الانسانية، وخصوصا نقده للمفكرين العرب من أمثال محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن ومحمد أركون. فهو ذو مزاج نقدي يتفق مع براعة تحليلية ورؤية نافذة. فهو في هذا الميدان سيد موقفه، يحسن الملاكمة الفكرية بأخلاقية نادرة لا تسقط في صبيانيات القدح والتشهير. لهذا السبب أساليب علي حرب وتقنياته النقدية تلهم معظم كتاباتي.
وجودك بفرنسا ربما يجعلك تفهم عن قرب الغرب في نظرته لنا. كيف هي نظرته لنا؟
نظرة الغرب لنا هي مزيج من المسؤوليات المدنية والمخاوف السياسية. فالغرب ليس وحدة مطلقة. فاذا كانت السياسات مبنية علي النظرة الاستعلائية والاحتقارية تجاه العالم الثالث (لهذا السبب لا يوجد سياسات في التنمية لاخراج البلدان الافريقية مثلا من الفقر والأمراض والتخلف)، فان المجتمع المدني (فنانين، مثقفين، جمعيات، منظمات غير حكومية.. الخ) يسعي الي التحلي بقيم استقاها من تاريخه الطويل والدامي: العدل، حقوق الانسان، الأمن، السلام. نجد مثلا نعوم شومسكي ينتقد بلده الولايات المتحدة أفضل مما يفعل المثقف في الوطن العربي والاسلامي الذي يكتفي بتنديدات هيستيرية ونضالات غير مجدية. نجد أيضا الراحل جاك دريدا كان يدافع عن الأقليات الاثنية والجنسية والدينية، وفلسفته كلها مبنية علي نقد التمركز والاستعلاء النرجسي الذي تبديه الأنظمة السياسية في الغرب. لهذا السبب لا يمكننا الحديث عن الغرب كما لو كان شخصا واحدا همه سحق الآخرين. ينبغي اذن أن نعول علي المجتمع المدني الذي، بشكل ديمقراطي، يمكنه تصحيح بعض السياسات الجائرة تجاه الأمم الأخري؛ وهذا ما ألفيته باحتكاكي بالمثقفين والمفكرين والفنانين الذين هم وارثو الاغريق والرومان، بمعني أخلاقيات وجماليات تتعالي علي رغبات الهيمنة. طبعا هناك المخاوف تجاه الآخر تروجها وسائل الاعلام، وهناك أيضا صعود اليمين المتطرف المعادي للأجانب (خصوصا القادمين من العالم الثالث)، وهناك أيضا التطرف الديني الذي يغذي هذا التطرف العنصري وهذه المخاوف منذ أحداث11 ايلول (سبتمبر) والاعتداءات الارهابية في عدة عواصم أوروبية، ولكن ارادة التعارف والتبادل هي أقوي من كل هذه الترهيبات التي لا تبرير لها.
پكيف تنظر للفلسفة؟ تعرفها؟ وتشتغل عليها؟ وما ضرورتها في حياتنا اليومية مثلا؟ أم تتصورها حكرا علي فئة خاصة فقط؟
للفلسفة مكان ومكانة في كل العصور والأمصار؛ فهي معجزة الاغريق ولكن لها انتقالات وارتحالات جغرافية كما قال جيل دولوز. كانت بالأمس وليدة العصر اليوناني والروماني ثم انتقلت في العصر الوسيط الي العالم الاسلامي وكانت للارادة السياسية (المأمون وتأسيس بيت الحكمة في بغداد في العصر العباسي) دور في تروجيها، ثم الي العالم المسيحي اللاتيني (القديس توما الأكويني) ثم الي العالم الغربي (العصر الكلاسيكي والأنوار والرومانسية) ولا زالت اليوم حية وخلاقة في الديار الغربية لاعتبارات تاريخية ورمزية، رغم التطور العلمي والتكنولوجي لا تزال الفلسفة تقاوم بشجاعة نادرة لأنها سليلة الروح الخلاقة ووليدة الفكر الأزلي في تجلياته الآنية عبر العصور، ولها مستقبل زاهر لأنها رؤية نقدية وعميقة تربط الانسان بحدوده المعرفية وتناهيه الوجودي. الفلسفة كما أفهمها وأشتغل عليها تقوم علي المحاور التالية: رؤية نقدية، حرية في التفكير، سلوك عملي. لا نشتغل علي الفلسفة اذا لم يكن لدينا حس نقدي: لا تعترف الفلسفة بالمطلقات اليقينيات لأنها مُساءلة مستمرة للأسس والبداهات، سلاحها في ذلك النقد والتمحيص. ولا يمكن التسلح بالنقد اذا كانت حريتنا مشروطة ومقيدة: الحرية هي عَصَب الحياة الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية بدونها يمكننا القول بأننا نحيا في مقبرة ولا نحيا في الحضارة. كما أنه لا فلسفة بدون سلوك عملي وأخلاقي، بمعني دون أن نترجم الفلسفة التي نشتغل عليها الي مسيرة في الحياة وسيرة ذاتية في التعامل مع الآخر. لا أدعي بأنني فيلسوف اذا كان سلوكي مبنيا علي الاقصاء والكبرياء والتعالي والفاشية في التعامل مع الآخرين مهما بلغت منتجاتي الفكرية درجة من النفوذ والتكوثر. لهذا السبب نري أن الفلسفة كما نشأت في العصر اليوناني كانت بالأولي سلوكات وفضائل وحريات في المبادرة ولها ارتباط وثيق بالحياة اليومية. طريقة سقراط في توليد الأفكار هي الشاهد علي أن كل فرد هو فيلسوف بالقوة، لأن العقل يتبدي في أدني السلوكات، في طريقة العيش، في جمالية الفعل، في شاعرية الرؤية. ربما الفلسفة النظرية (بمعني التأملات المجردة) هي حكر علي فئة خاصة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالفلسفة العملية فالكل سواسية في التفكير لا فرق في ذلك بين الفيلسوف الداهية والانسان العادي: فهل تُجدي الفلسفة نفعا اذا لم يكن لها ارتباط بالحياة اليومية والمخاوف المعاصرة تجاه التلوث والتصحر ومشكلات التنمية والعدالة وحقوق الانسان والفوارق الاجتماعية والأمن والعنصرية والارهاب والفقر والأمراض؟ لا يمكننا اذن عزل التأمل النظري عن تطبيقاته العملية، والفلسفة الناجحة هي التي تُحسن ترجمة التفكير الي تدبير، والفكر الي سياسة.
كيف السبيل لدفع حركة الفلسفة بالجزائر والعالم العربي؟ وما هي الأسماء التي تعتقد أنها فاعلة اليوم؟
لدفع حركة الفلسفة بالجزائر هناك عوامل موضوعية وذاتية سهلة التحقيق اذا كانت النية صادقة والارادة رائقة:
1 ـ احياء عملية الترجمة، لأنه لا فلسفة ولا أدب ولا فن دون ترجمة الأعمال الشهيرة التي لمعت في هذه الميادين. ونحن نعلم أن ضلوع فلاسفتنا أمثال الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد كان بفضل ترجمة التراث الاغريقي الي العربية. اليوم أصبح لبنان والمغرب من السباقين في هذه العملية قصد تمكين الطلبة والباحثين والأساتذة من الاطلاع علي المنتجات الفكرية في اللغات الأخري.
2 ـ لا ترجمة بدون ارادة سياسية. مثال الخليفة المأمون في العصر العباسي يوحي بضرورة هذه الارادة السياسية لأن لها الامكانيات المادية والرمزية لاعطاء الفكر مكانة في المجتمع. المجتمع الذي ينجح هو المجتمع الذي يفكر، هو المجتمع الذي يعطي للروح حقها من الغذاء المعنوي والفضول المعرفي.
3 ـ حرية الفكر: الحرية عند الانسان هي بمثابة التنفس عند الكائن الحيوي، فلا نبدع ولا ننتج ولا نبتكر اذا كان فكرنا مقيدا أو موجها بشكل قسري نحو تبني مواقف هو غير مقتنع بها. فالعائق الأكبر في دفع حركة الفكر هو الحرية، حرية أن نفكر في كل ظاهرة تستدعي الوقوف عندها والتأمل في تركيبتها سواء كانت هذه الظاهرة سياسية أو علمية أو دينية أو قانونية. عصر التدوين (تأسيس بيت الحكمة في العهد العباسي) كما يسميه محمد عابد الجابري تواقت مع الاقتناع بضرورة الحرية ليس كشعار كما هو شائع اليوم وانما كسلوك: لننظر ما كتبه في هذا الميدان المستشرق دميتري غوتاس (جامعة نيويورك) في كتابه التراث الاغريقي والثقافة العربية .
4 ـ لا ابداع أيضا بدون الحب والاعتقاد. أقصد بالاعتقاد أن نؤمن في ما نكتبه ونفكر فيه، ولا تكون كتابتنا مرتبطة بالمناسبات أو بالاعتبارات الشخصية أو الاعلامية. أقصد بالحب أن نهوي ما نفكر فيه، أن يكون لنا ذوق في ما نكتبه ونتأمل فيه. ما نكتبه ليس مجرد تخمينات نظرية، بل هو أيضا سلوكات عملية. كانت الفلسفة في الأصل حكمة عملية، سلوك فردي، ذوق فني، غاية أخلاقية، رؤية جمالية، تواضع ذاتي (لنتأمل في ما كتبه مثلا أفلاطون أو أرسطو أو أبيقور أو فلاسفة الرواق مثل زينون السطيومي وكريسيبوس وسينيكا.
علي ماذا تشتغل راهنا؟
انني في صدد كتابة دراسات أكاديمية حول ابن عربي لمجلات متخصصة في فرنسا. وجدت أن معظم الدراسات تربطه بالأفلاطونية المحدثة أو بالاسماعيلية (اخوان الصفا)، لكن برز لدي فضول فلسفي للبحث عن جذور الرواقية (فلاسفة الرواق الاغريق والرومان) في مذهبه.
لقد وجدت بعض التشابهات المذهلة في ما يتعلق بالكوسمولوجيا ونظرية النَفَس الالهي. فضلا عن ذلــــك، لدي اهتمام خاص بكتابات ميشـــــال دوسارتو (هو الآخر متخصص في العرفان) وانني في قيد اعداد دراسات حوله سواء تعلق الأمر بمفهوم التاريخ أو العرفان وعلاقته بالتحليل النفسي وبالأنثروبولوجيا.
هل الكتابة باللغتين العربية والفرنسية تساعدك علي تجاوز التمزق الهوياتي أم تكرسه؟
لا أري المسألة من وجهة نظر ماهوية (العربية والفرنسية) بقدر ما تهمني العلاقة الحيوية والعبور من لغة الي أخري دون قيود نفسية أو عُصابات الهوية أو دكتاتوريات الايديولوجية. كان للراحل بختي بن عودة اهتمام خاص بازدواجية اللغة (BILINGUISME) وكان أول من حاول مجاوزة الصراع الايديولوجي بين دعاة التعريب وحراس الفرنسية. لا أتعامل مع اللغتين من منطلق ايديولوجي كما يروَج له الآن ولا تهمني العلاقة الغرامية أو العاطفية المليئة في الغالب بارادات الأنفة والتمركز النرجسي، بقدر ما أستعين باللغة كوسيلة تعبير وكآلية في الانتاج الفلسفي والأدبي. لدي رغبة أيضا في الكتابة بالانكليزية ولا يعني ذلك أنني أناصر الرؤية الكونية التي تقوم عليها السياسة الأمريكية. اذا أمكنني أيضا الكتابة بالاغريقية أو التركية أو الاسبانية لفعلت ذلك دون تردد. كان غادامير يقول بأننا عندما نكتب بلغة أخري غير اللغة ـ الأم فان آفاق جوهرية تنفتح أمام وعينا ونكتشف أمورا ثرية لا نألفها في لساننا القومي، وهي أمور تتيح لنا توسيع دائرة الاهتمام المعرفي والاطلاع علي عوالم أخري. أحرص دائما علي مجاوزة الهم الايديولوجي للغة. صحيح أن اللغة هي تركيبة ضرورية للهوية ولكن ليست كافية. لنتأمل مثلا في الفلاسفة الألمان (غادامير أو هابرماس) أو الفرنسيين (دريدا أو فوكو) أو اليابانيين الذين كتبوا بعض دراساتهم بالانكليزية، هل يعني ذلك أنهم يتنكرون لهويتهم؟ يبدو أن الهم الايديولوجي هو الغالب في معاملتنا مع اللغات الأخري مع أن اللغة العربية هي علي ما يرام ولا تواجه أزمة حادة أو هوس الانقراض. علي العكس تماما فأنا شاهد علي تنامي الاهتمام بالعربية في أوروبا وقدمتُ دروسا في العربية لعدة فرنسيين لهم فضول معرفي لاكتشاف العالم العربي. وحتي علي الصعيد السياحي ثمة كتب عديدة (العشرات) برزت لمساعدة السياح والزوار لتعلم العربية قبل السفر مثلا الي مصر أو الأردن أو المغرب. ليست الكتابة باللغات الأخري عائقا سوي عند من تغلب عليه ارادة الانغلاق الهوياتي مع أن الحياة برمتها قائمة علي التواصل والتعدد والتنوع.
ما هي مشاريعك المستقبلية؟
المشروع هو عتبة الشروع في عمل ما. وأعترف أن الشروع في عمل فكري ليس بالأمر الهين لأنه يتطلب العزيمة والوقت والألفة مع مادة الفكر الذي نعتني بقراءته وتحليله. لدي مشاريع كثيرة هي في قيد الانجاز:
1 ـ الجزء الثاني من تأويلات وتفكيكات والذي عنونته كما يلي: تأويلات وتفكيكات (2): صفائح نقدية في الفلسفة الغربية ،مدا وأستعمل مصطلح الصفيحة كدلالة جيولوجية في التعبير عن الاحتكاك بين صفيحة التأويل وصفيحة التفكيك في الفكر الغربي.
2 ـ كتاب آخر حول فلسفة الفعل ، الفعل في أوجهه اللغوية والفلسفية والسوسيولوجية (الفاعلية، التفاعل، الانفعال، الافتعال): بعد هاجس نقد العقل الذي غلب علي مفكرينا مثل الجابري وأركون ونصر حامد أبوزيد، وجدت أن نقد الفعل هو أحسن ما يمكنني التفكير فيه بحكم مزاجي البراغماتي والعملي، ولدينا الشيء الكثير نقوله حول هذه المسألة: في الغرب هناك مدارس مثل التفاعلية الرمزية (غوفمان من مدرسة شيكاغو) و الاثنوميتودولوجيا (هارولد غارفينكل) وفلسفات الفعل من أرسطو الي آنسكومب مرورا بتوما الأكويني وامانويل كانط وفتغنشتاين ودونالد دافدسون وبيار بورديو. كل هذه الفلسفات والمدارس حاولت التفكير في مشكل الفعل والتجليات السياسية والأخلاقية التي يتخذها، المادة جاهزة وما علي سوي مباشرة التأمل النظري والكتابة.
3 ــ هناك مشروع آخر هو جمع دراسات بالفرنسية حول العلاقة بين الفلسفة والعرفان (التصوف) في الفكر الاسلامي: ابن سينا، الغزالي، ابن طفيل، ابن عربي، حيدر آملي وهي دراسات كتبتها في اطار وحدة علمية في معهد البحوث والدراسات العربية والاسلامية (آكس أن بروفونس) كباحث في هذا المعهد.
4 ــ أخيرا هناك رغبة دفينة في ترجمة احد كتب ميشال دوسارتو حول علاقة العرفان بالتاريخ والتحليل النفسي.