يقول wirth في تعرضه لمفهوم المدينة " أن العالم المعاصر لم يعد هذا العالم الذي يتكون من جماعات صغيرة منعزلة من الناس ينتشرون على رقعة واسعة من الأرض كما كان summer يصف المجتمع البدائي ، لأن المظهر المميز لأسلوب حياة المدينة في العصر الحديث هو تركز جماعة هائلة من الناس تقيم في مراكز محددة تعمل على إشعاع الأفكار و الممارسات التي تطلق عليها إسم مدينة ".
وعلى العموم، فإن علماء الإجتماع يرون بأن الظواهر المنتشرة في مجتمع المدينة يرتبط بها الكثير من الظواهر الأخرى، لعل من أهمها سيادة العلاقات الثانوبة التي تتصف بالسطحية و النفعية و إنتشار الضبط الرسمي و كثرة الحراك الجغرافي والمهني و الطبقي و زيادة معدل الفردية و طغيان القيم الفرديةعلى القيم الجمعية وبروز المعايير الذاتية و ضعف الإتجاهات و القيم في نفوس الأفراد .
وبالنسبة للعلاقات الإجتماعية في المجتمع الحضري ، نجد أن هذه الأخيرة عرضة للتلاشي و الضعف، فبعد أن كانت أولية الطابع فإنها تصبح علاقات ثانوية سطحية نتيجة لإتساع حجم المجتمع، فضلا عن تزايد كثافة السكان و زيادة مطالب و إحتياجات الأفراد، و قد خلص wirthإلى أن أهم ما يميز حياة المدينة ضعف الروابط القرابية و الجيرة و تضاؤلهما، و نتيجة لذلك تظهر المنافسة و ميكانيزمات الضبط الرسمي لتحل محل روابط التضامن و العلاقات التي كانت سائدة من قبل و يمكن تفسير سبب ذلك إلى أن التطور الصناعي و توسيع الأنشطة التجارية في المدن وسرعة إستعاب سكانها للمفاهيم و القيم الثقافية و الإجتماعية السائدة ، جعل المراكز الحضرية أكثر عرضة من غيرها للتأثر بهذه المتغيرات وبذلك أصيبت الروابط و العلاقات التقليدية بالتمزق و التصدع .
و من خلال هذا التفسير نجد أن إبن خلدون كان من السباقين إلى دراسة العلاقات الإجتماعية داخل الإطار الحضري و ذلك في تعرضه بمعالجة نشأة المدن و الظواهر المرتبطة بها في مقدمته ، وقد كتب في هذا الموضوع بشئ من التفصيل في الباب الرابع و الذي كان عنوانه :'في البلدان و الأمصار و سائر العمران و مايعرض في ذلك من الأحوال و فيه سوابق و لواحق'و يرى بأن المجتمعات الحضرية و المتقدمة قد عبرت مرحلة البداوة و إنتقلت إلى مرحلة التحضر ، وبعدما كان شغلها الشاغل هو الحصول على الضروريات أصبحت تهتم بالكماليات و تتفنن في أعمالها و بالخصوص في الميدان العلمي و الصناعي ، و إتسعت علاقات أفرادها حيث أصبحت متشابكة ومتداخلة،لأن الفرد البدوي يعيش في مجتمع صغير وعلاقاته محدودة، بينما يعيش الفرد في الحياة الحضرية في مجتمع واسع النطاق كثير العدد له مشاكل معقدة و مهام كثيرة في جميع الميادين، و أعماله صارت معقدة ومركبة و لم يعد لها ذلك التركيب البسيط الذي يعثر عليه عند البدوي ، كما أن الحياة الحضرية نفسها لدليل على تقدم الحياة في جميع الميادين الإجتماعية ، السياسية ، العلمية
الصناعية ،الإقتصادية و العمرانية ، و لذلك تصبح أعماله دقيقة و مركبة و علاقاته واسعة ومتشابكة . و يصاحب التصدع في العلاقات بين الناس دخول قيم حياتية جديدة، فمفهوم الجيرة الصداقة ، المصالح الإجتماعية، السلوك الإجتماعي.الخ كلها مفاهيم لها مدلولاتها الحضرية التي تختلف كل الإختلاف عن مدلولاتها ومعانيها التقليدية و التي تتناسب مع طبيعة الحياة الحضرية .
ففي الجزائر مثلا و تحت تأثير فترة ما بعد الإستعمار الفرنسي، عرف المجتمع الجزائري نزوح ريفي كبير أدى إلى تحول عميق في تركيبة المجتمع الحضري مما أثر في شكل و محتوى العلاقات الإجتماعية ، فبعد أن كانت حياة الفرد محددة بأبعاد الجماعات المحلية وتحكمهم رابطة العرف الإجتماعي بحيث لم يكن بحاجة إلى إخراج و خلق قيم جديدة يتصرف وفقها، فعلى العكس من ذلك فإن الفرد الذي تعود على ضبط تصرفاته آخدا بعين الإعتبار جماعته القرابية و المحلية سيضطر في مجتمعه الجديد العمل على إكتشاف تصرفات جديدة ووضع مفاهيم حياتية يتأقلم بواسطتها مع نوعية الحياة التي تتطلبها المجتمع الحضري .
و تعرض حياة المدن على أفرادها أنواعا من العلاقات و ذلك حسب كل مجموعة أو فئة سكانية ووفقا للمقومات المادية و المعنوية لها وكذا وفقا لطبيعة تركيبتها الإجتماعية و الثقافية ووفقا لمقوماتها المادية و المعنوية ، إلا أن أهم ما يميز هذه الأخيرة السطحية و النفعية، الإنقسامية و الفردية .
ففي المدينة نلاحظ عادة ضعف في العلاقات بين الناس في نفس الجيرة و الساكن في العمارات قد يلاحظ ذلك ، فباالكاد يعرف جاره و قد يحدث و أن يلتقيان صدفة في مقهى أو مسجد فيدرك أنه جاره منذ سنوات و غير ذلك من مظاهر الفردية في العلاقات .
غير أن ظاهرة التفكك هذه قد يقابلها أحيانا إرتباط من نوع آخر، و هو إرتباط ذوي المهنة الواحدة و الميل الواحد، فالصداقات في هذا الإطار أصبحت تنسج بناءا على قواسم مشتركة و إهتمامات تعمل على تقارب بين شخصين أو أكثر، مثل ذلك الإهتمام بهواية معينة كجمع الطوابع البريدية و العملة واللعب بالشطرنج والصداقات المبنية في إطارالعمل كصداقة الطبيب بزميله الطبيب، أو صداقة الحرفي للحرفي من نفس المهنة أي أنه إرتباط تخصصي أكثر منه جغرافي .
وعليه فإن ظاهرة التفكك الإجتماعي في مجتمع المدينة قد أثار جدلا بين الباحثين فقسم يعتبر هذه الظاهرة طبيعية ناتجة عن تطور المجتمع حيث أن هذا التطور يتبعه تطور في العلاقات بين الناس ، وقسم يعتبر هذا التفكك يؤدي إلى ضعف الضبط الإجتماعي فتقل بذلك سلطة المجتمع على أفراده فيقوم هؤلاء بما يريدون ضاربين بعرض الحائط العادات و التقاليد على حساب الآخرين .
المدينة و تأثيرها على حياة ساكنيها
إن زيادة حجم السكان في المدينة و كثافتهم و تباينهم في الأمور تؤثر بشكل أو بآخر على علاقاتهم الإجتماعية ، فبعد أن كانت هذه الأخيرة أولية الطابع فإنها تتحول و تصبح علاقات ثانوية، نفعية بحثة نتيجة لإتساع حجم المجتمع و إزدياد مطالب و إحتياجات الأفراد .
وقد حاول الباحثون الكلاسيكيون و المعاصرون على حد سواء أن يصفوا حياة ساكني الحواضر و التعرف على ميزاتهم وسلوكهم في إطار هذه البيئة ، ومن أبرز الأمثلة
على ذلك الإتجاه الكلاسيكي الذي تزعمه wirth و خاصة في البحث الذي نشره عام 1938 تحت عنوان ' التحضر كأسلوب في الحياة ' و هذا الإتجاه يعكس إلى حد كبير آراء weber و siemel اللذان إرتكزا على المنهج الإنبساطي في تطوير نمادج مثالية للجماعات الإجتماعية وعلاقات أعضائها ببعضهم بعض .
لها آثار سلبية سيكولوجية ، فسكان المدينة يتعرضون إلى مؤثرات نفسية متعددة تجعلهم يعمدون إلى إنشاء علاقات غير عاطفية عقلانية ووظيفية مع الآخرين كدفاع ضد تعقيد الحياة الحضرية .
فالحياة الحضرية حسب نمودج SIEMMEL لها آثار سلبية سيكولوجية ، فسكان المدينة يتعرضون إلى مؤثرات نفسية متعددة تجعلهم يعمدون إلى إنشاء علاقات غير عاطفية عقلانية ووظيفية مع الآخرين كدفاع ضد تعقيد الحياة الحضرية .
و طبقا لهذا الإتجاه ، فإن ساكن المدن يعاني من القلق النفسي نتيجة تعدد الأدوار الإجتماعية التي يتعين على الفرد أن يلعبها على مسرح الحياة الحضرية ، و نتيجة لسيادة هذه العلاقات الثانوية الغير وثيقة على العلاقات الإجتماعية التي يقيمها الفرد في المدينة فإن هذا الأخير يعاني من الحرمان العاطفي ، ومن أجل مواجهة المتغيرات النفسية التي يتعرض لها فإنه يوظف ميكانيزم للدفاع السيكولوجي و هو ميكانيزم التلبد العصبي أو الوهن العصبي .
فضروف الحياة في المدينة حسب المنظور الكلاسيكي ، هي التي تجعل الأفراد مضطرين إلى إقامة العديد من العلاقات الإجتماعية مما يؤدي إلى زيادة إحساسهم بالتوتر و الضغط النفسي و من أجل تخفيف هذه الضغوط و التقليل من حدتها فإن الإنسان الحضري يلجأ إلى وسيلتين : الأولى هي التقليل من حجم العلاقات التي تربطه بالآخرين في المجتمع، و الثانية هي تحويل أكبر قدر من العلاقات الأولية الوثيقة إلى علاقات ثانوية أقل شدة ، و بما أن العلاقات الأولية هي التي تشكل أساس الترابط و التساند الإجتماعي ، فإن تدهورها يكون له آثار سلبية على إنتشار مظاهر الوحدة و اللامعيارية بين السكان .
و بهدف إختبار نظرية wirthحول علاقة التحضر بالتفكك الإجتماعي و الإغتراب فقد نشأ إتجاه تزعمه جيرار سانتز في حي ' آدامز' بشيكاغو و قد جاء كرد على النظرية الكلاسيكية التي ذهبت إلى أن الحياة في المدينة لا بد و أن تؤدي بالضرورة إلى التقليل من العلاقات الأولية التي يقيمها الفرد ، و يرى أصحاب هذا الإتجاه أن هنالك دلائل تشير إلى أن ساكن المدن يتمتع بقدر وافر من العلاقات الأوليةوأن ضروف الحياة في المدينة لاتدفعه بالضرورة إلى حرمانه من إقامة هذا النوع من العلاقات و لاترغمه على الحد منها ، فالتحضر لوحده لا يعتبر العامل الأساسي الذي يتأثر به ساكن المدن بقدر تأثره بالعوامل التي تحدد مكانته الإجتماعية في الوسط الذي يعيش فيه ، وتتحدد هذه المكانة من خلال المستوى الإقتصادي ،السن، الحالة الإجتماعية، عدد الأطفال ..
و على العموم فإن كان الإتجاه الأول يرى في الحياة الحضرية بكل ما تحمله من تنوع بشري إيكولوجي ، عمراني، عاملا من عوامل سيادة العلاقات الثانوية النفعية الإنقسامية و تاثيرها بشكل مباشر على الحياة النفسية لساكن المدينة، فيمكن إضافة بعض العوامل الأخرى التي وجد فيها بعض العلماء تأثيرا أيضا على العلاقات الإجتماعية و المتمثلة في حجم المدينة ،كثافتها السكانية ، الإزدحام والتلوث الجوي ...
و عن واقع البلاد غير المصنعة ، يرى عبد المنعم شوقي أن المدينة فيها تنقسم إلى قسمين ، قسم تطورت فيه العلاقات الإجتماعية فزاد التباعد بين سكان الجيرة الواحدة و قسم آخر لازالت العلاقات الريفية فيه مسيطرة إلى حد كبير فهو بدلك أكثر تماسكا و ترابطا من القسم الأول . ص 150
و مهما يكن، فالمدينة بإعتبارها نمط من أنماط التحول و التأثير الإجتماعي و الثقافي تفرض على سكانها الخضوع لأساليب الممارسات الإجتماعية، مما تؤدي إلى فقدان الروابط الأصلية للإنسان الحضري في جذوره الإجتماعية و هذا ما يدفع إلى إمكانية إختراع علاقات وممارسات و روابط إجتماعية جديدة يحاول من خلالها التكيف مع طبيعة الحياة المدنية .
المراجع :
1- فادية عمر الجولاني : علم الاجتماع الحضري . مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية.
2- محمد الجوهري و آخرون: دراسات في علم الاجتماع. دار المعارف، ط2 القاهرة، 1982،.
3- حسين شبكة: الابعاد الاقتصادية للتنمية، التحضر و العلاقات الدولية في مجتمع الامارات/ جامعة العين،15 مارس، 1990عبد العزيز خواجة ، مبادئ في التنشئة الاجتماعية . دار الغرب، 2005.
4- محمد حسن: التحضر و تأثيره على القيم و الاتجاهات الدجينية، مؤسسة دار الفكر الجديد ، أبو ضبي، 1986.