د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: ما وراء الحكايات.. ثقافة المظهر فى حياتنا 17/9/2009, 9:14 pm | |
| ما وراء الحكايات.. ثقافة المظهر فى حياتنا بقلم: د. سليمان عبد المنعم لحظة دخلت إلى مكتبه اعتقدت أن فى الأمر خطأ ما. عالم فرنسى كبير ذائع الصيت يجلس زاهداً متأملاً فى مكتب متواضع صغير. لا شىء حوله سوى مقعدين بسيطين وستائر بيضاء تغطى زجاج النافذة، فى أحد جوانبها جزء ممزق يمكن رؤيته. ومكتبة مكتظة بالكتب. كان يرتدى كنزة من الصوف يظهر منها قميص مجعد.
سألته هل فى هذه الصومعة المتقشفة تبدع كل هذا الفكر؟ أجابنى دون أن يضحك: لا حاجة لى لأكثر من هذا، إن عالمى الحقيقى هو مكتبة الجامعة، فيها أقرأ وأكتب وأقابل تلاميذى، وفيها أيضاً أنفقت ثلثى عمرى تقريباً، بدا محقاً فقد كانت مكتبة الجامعة فسيحة فخيمة بالغة الثراء يتم تحديثها يوماً بيوم. بعد سنوات قليلة كنت أبدأ خطواتى الأولى كمدرس جامعى يافع، كان لى مكتب تتجاوز مساحته مكتب العالم الفرنسى الكبير به مقعدان بالغا الضخامة وأريكة جلدية بيضاء ذات مظهر فاخر لكنها غير مريحة بالمرة. أما مكتبة المعهد فلم تعرف نظام أرشفة الكتب المتعارف عليه فى كل مكتبات الدنيا إلا منذ عامين فقط! لم أكن أرتدى مثل العالم الفرنسى الكبير كنزة بسيطة يظهر منها قميص مجعد، بل كنت شديد الحرص مثل معظم زملائى على التعطر والتأنق واختيار رابطة عنقى جيداً كل صباح! المظهر عامل مكمل للجوهر وبهما تكتمل الأشياء، لكن المبالغة فى الاهتمام بالمظهر على حساب الانشغال بالجوهر تتحول إلى نوع من المظهرية وهى ظاهرة سلبية بكل المقاييس. حين ذهب الأديب الراحل توفيق الحكيم إلى فرنسا فى ثلاثينيات القرن الماضى استرعى انتباهه الفارق بين بيوت الفرنسيين وبيوت الشرقيين. لاحظ أن البيوت والمبانى الفرنسية تخلو فى شكلها الخارجى من الزخارف لكنها تبدو فى الداخل بالغة التنسيق والنظام والجمال، أما بيوت الشرقيين فتبدو مزدانة مزخرفة من الخارج لكنها فى الداخل تتسم بتواضع الحال، ولعلّ المثال قابل للتعميم فى مجالات أخرى. فالمظهرية شأنها شأن البساطة ثقافة كاملة تتجلى فى المسكن والملبس والعمل وأساليب الحياة وأنماط التفكير وتنتهى بقياس مفهوم الإنجاز فى ذاته. لم يخل تاريخنا ولا حاضرنا من شخصيات فذة كانت البساطة والجدية لديهم سمة سلوك وملمح ثقافة. الراحل العظيم نجيب محفوظ وغيره عرب كثر كانوا نموذجاً لهذه الجدية والبساطة، أنفقوا عمرهم جداً وعملاً وإنجازاً دون أن يكترثوا بالمظاهر والشكليات، وليس منا من لم يصادف ويتأثر بأحد هؤلاء البسطاء العظماء. والبساطة ليست وقفاً على العلماء والمفكرين والأكاديميين فقط بل تبدو أيضاً سمة لبعض الأثرياء وربما الحكام، لكن الحاصل اليوم أن المظهرية تبدو السمة الأغلب والأبرز فى حياتنا، وحين تصبح المظهرية ثقافة مجتمع وليست مجرد سلوك فردى تتغير المعايير وتتبدل المفاهيم وتتشوه فى النهاية حقائق الأشياء. وللمظهرية فى حياتنا تجليات شتى، أبرزها وأخطرها الهدر والإسراف وتغييب الأولويات، روى يوماً حاتم الجبلى، وزير الصحة المصرى، فى ندوة بمكتبة الإسكندرية للتجمع المصرى للشفافية، واقعة تستحق التأمل، حين تسلم مسؤولية وزارة الصحة- يقول الوزير الشجاع - ذهب لافتتاح أحد المبانى المخصصة لأغراض التدريب الطبى، ففوجئ عند دخوله المبنى بمدخل فاخر ذى واجهة تشبه فنادق الخمس نجوم وأرضيات وحوائط من أجود أنواع الرخام ومصاعد حديثة سريعة، لكنه حين تجوّل داخل المبنى وجده فقيراً فيما يضمه من أجهزة وأدوات التدريب، وحينما اطلع على ميزانية إنشاء المبنى اكتشف أن نحو ٩٠% من هذه الميزانية قد أنفق على الكماليات الفاخرة، أما أدوات وأجهزة التدريب التى أنشئ المبنى أصلاً بهدف توفيرها للأطباء والممرضين فلم يتبق لها سوى ١٠% فقط من ميزانية المشروع. لم تعد سراً هذه الطقوس المعروفة فى حياتنا عندما يقوم أحد كبار المسؤولين بزيارة إلى مدرسة أو مستشفى أو منشأة ما. سرعان ما تتفتق عقلية المظهر فى إعداد ما يشبه «الديكور»، فتتبدل المعالم ويصبح المكان فجأة غير المكان، ثم لا يلبث هذا «الديكور» أن يختفى فور انتهاء الزيارة، بل وصل الأمر بمناسبة زيارة شخصية أجنبية كبيرة إلى حد استبدال تلاميذ إحدى المدارس الحكومية المتواضعة بتلاميذ آخرين أكثر رونقاً وبهاء أتوا بهم من مدرسة خاصة! ربما تحدث مثل هذه الأشياء «أحياناً» فى مجتمعات أخرى متقدمة لكن الأمر لا يرقى هناك إلى حد الظاهرة. حدث ذات مرة أن قام رئيس وزراء فرنسى بزيارة لأحد الأماكن التابعة لوزارة السياحة لإلقاء خطاب فى مناسبة ما، وحينما اكتشف المسؤولون أن القاعة التى سوف يلقى فيها رئيس الوزراء خطابه تكاد تكون خاوية بلا جمهور انطلقوا فى الشوارع المحيطة لالتقاط بعض المارة وإقناعهم بتمثيل دور الجمهور والاستماع إلى خطاب رئيس الوزراء، ودفعوا مقابل ذلك ما يعادل آنذاك مائة دولار لكل شخص دخل القاعة ليمثل دور الجمهور! لكن فلننظر ماذا حدث بعد ذلك؟ حينما اكتشف الإعلام هذه الواقعة لم يكن أمام وزير السياحة الفرنسى سوى تقديم استقالته على الفور. إنها مجتمعات لم تتقن لعبة المظهرية جيداً.. وعندما حاولت ممارستها بدت ساذجة لأنها لم تتعود عليها وكانت النتيجة استقالة وزير السياحة!! ما الفارق إذًا بين المظهرية فى مجتمعاتهم وفى مجتمعاتنا؟ ربما يكمن الفارق فى أمرين أولهما أن ما هو استثناء لديهم يصبح قاعدة وظاهرة لدينا، ثم إن المظهرية فى مجتمعنا تفاقمت وتناسلت فأنتجت «الفهلوة» وهى ظاهرة أشد خطراً، و«الفهلوة» مفردة مصرية عبقرية تمثل ضرباً من ضروب الاحتيال الاجتماعى الذى يمارسه شخص كاذب ويتساهل فى قبوله مجتمع متواطئ. أما الفارق الثانى فهو أن المظهرية فى المجتمعات المتقدمة تبدو سلوكاً فردياً ممجوجاً مثيراً لاستنكار المجتمع الذى وصل إلى حد استقالة الوزير الفرنسى الذى قام برشوة المارين فى الشارع، أما لدينا فالمظهرية تكاد تكون ممارسة منهجية ومنظمة لا تثير التذمر ولا تبعث كثيراً على الاستنكار. ولعلّ أخطر ما فى الأمر أن ثقافة المظهرية تبدو مربكة ومشوّشة لمعايير الإنجاز وتقييم الأشخاص، فقد أدرك البعض، فى ذكاء وفهلوة، أن شكلاً براقاً يمكن أن يغنى عن مضمون جاد، وكم من دعاية مبهرة تخفى سلعاً رديئة، ثم إن الناس ليس لديها فى الغالب الوقت لكى تتعرف على مضمون وجوهر الأشياء. فالأشكال والمظاهر بدائل سريعة ومريحة لا تتطلب جهداً لتكوين رأى أو فكرة. أما المضامين فالنفاذ إليها يقتضى مثابرة وتحليلاً وتقييماً، وكان لابد أن تقترن المظهرية فى حياتنا بثقافة دعائية وإعلانية تعاظم دورها فى الآونة الأخيرة، ولم تعد صناعة الدعاية والإعلان تقتصر، كما كانت فى الماضى، على ترويج السلع والخدمات بل اقتحمت مجالات السياسة والفكر والثقافة لتسوّق الأفكار والنظريات والمفاهيم! والمشكلة ليست فى الترويج الدعائى ذاته لما هو سياسى أو ثقافى، ففى مجتمعات متقدمة يبدو هذا أمراً طبيعياً ومألوفاً، لأن الماكينة الدعائية لديهم لا تغنى عن الفكرة أو المضمون، أما لدينا فالخشية أن هذه الماكينة الدعائية تكاد تصبح مطلوبة لذاتها، تحدث أثرها بفعل قانون الإلحاح ووسائل الإبهار فتوجد أحياناً ما لا وجود له. الأخطر مرة أخرى أن ثقافة المظهرية وما يقترن بها أحياناً من ثقافة الدعاية والإعلان قد أنتجتا ثقافة سلبية أخرى هى ما يمكن تسميته «الانطباعية» حيث يبنى وعى الناس على الانطباعات وليس على المعرفة الحقيقية بجوهر الأشياء. فتصدر الأحكام الانطباعية مثلاً عن كتاب لم تتم قراءته.. ألم يكن الشاب الذى حاول قتل نجيب محفوظ يوماً ما مقوداً بانطباعات ومقولات عن رواية لم يقرأها ؟ وألسنا نصدر أحكاماً عن أشياء لا نعرفها؟ هل هى إذاً ثقافة الشكل والمظهر التى تقودنا، حتى فى التسميات التى نطلقها على بعضنا البعض؟ ففى نفس هذا العالم الذى نعيش فيه ينادى البشر وتكتب أسماؤهم مقرونة بصيغة الاحترام البسيطة المتعارف عليها «السيد». أما نحن فمازلنا المجتمع الوحيد فى العالم الذى يصر على أن تكون بعض المهن جزءاً فعلياً من اسم الشخص ينادى به ويكتب على الأوراق الرسمية والخطابات المرسلة إليه ويدون على باب منزله كالدكتور أو المهندس. حتى لاعبو الكرة لا يتم التداول الاجتماعى لأسمائهم إلا مسبوقة بلقب «الكابتن»! مازلنا المجتمع الوحيد فى العالم الذى يكرّس فعلياً ودونما سند من أى شىء لقب البيه والباشا.. هل كانت ثقافة الشكل والمظهر ينقصها مثل هذه الازدواجية؟ لماذا نهتم بالشكل على حساب الجوهر.. ويتردد الصدى بأكثر من الصوت نفسه.. وتختال الأقنعة فى الطرقات بينما تنزوى الحقائق خلف أبواب البيوت الموصدة؟ نشرت بجريدة الحياة اللندنية عدد ١٧/ ٩/ ٢٠٠٩ | |
|