د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: جذور ثقافة الاستهانة عند المصريين 19/2/2010, 2:08 am | |
| جذور ثقافة الاستهانة عند المصريين بقلم: فرغلى هارون مثل المقال الذى نشرته جريدة الشروق فى عدد 7 فبراير الماضى للدكتور سمير نعيم عن ثقافة الاستهانة، بداية لظاهرة صحية تكاد تكون غائبة عن مجتمعنا المصرى بل والعربى قاطبة، وهى ظاهرة التفاعل الإيجابى مع ما يطرح من أفكار، وتبادل الحوار البنَّاء الذى يقود للتقدم. وقد فتح الأستاذ فهمى هويدى هذا الباب فى مقاله الذى نشرته الشروق فى عدد 10 فبراير تفاعلاً مع ما كتبه الدكتور سمير نعيم، وإذا كان الطرفان قد اتفقا على خطورة ثقافة الاستهانة على المجتمع المصرى وتهديدها لإمكانيات تقدمه ونهضته، فإنهما اختلفا فى مدى ودرجة مسئولية كلاً من الشعب أو الحكومة فى سيادة الاستهانة فى المجتمع. وقد انحاز الأستاذ هويدى لرأى الفيلسوف الفرنسى القديم هلفيتيوس القائل بأن السلطة هى المسئولة عن مساوئ الشعب أو محاسنه، وهذا القول له ما يصدقه فى تراثنا العربى الإسلامى فى المقولة الشهيرة (صلاح الرعية من صلاح الراعى) وإن كان لها ما يقابلها أيضاً فى مقولة (كيفما تكونوا يوَّل عليكم)، وهو موضوع خلافى على مر التاريخ، هل الأولى إصلاح الحكم والحاكم لينصلح حال الرعية، أم يجب أولاً إصلاح الرعية فينصلح بصلاحهم حكامهم. وإن كنت على المستوى الشخصى أميل إلى الرأى الأول، وهو أيضاً ما تدعمه أدبيات التنمية الحديثة التى تقرها الأمم المتحدة بالدعوة إلى الحكم الرشيد لإصلاح المجتمع. وكما قال الأستاذ هويدى فإن ثقافة الاستهانة شاعت فى المجتمع لأن السلطة استهانت بالناس وبالقانون، واعتدت على حرمة الاثنين.
وهذه الصورة من صور ثقافة الاستهانة، لها جذورها الضاربة فى عمق التاريخ المصرى، والتى ترجع إلى عهد الفراعنة، حيث يخبرنا التاريخ، أنه رغم طغيان فرعون وتجبّره وتكبره فى الأرض، إلا أنّ قومه كانوا دائماً يصفقون له، ويهتفون باسمه، إما رهبة من جبروته أو رغبة فى ملكوته، وكان ذلك مدعاة له لأن يستخف بهم ويستهين بقدرهم ومصيرهم، فلا يقيم لهم وزناً ولا يعبأ بوجودهم، وأن يزداد طغياناً وتجبراً، فما يراه هو الصواب وما يقوله هو الحق، وليذهب الشعب كله إلى الجحيم. وهكذا توارثت النظم السلطوية النظرية الفرعونية فى الاستهانة بالبشر وبالمجتمع ومقدراته.
وبعد مرور سبعة آلاف سنة فرعونية، لازالت السلطة تمارس وتعتنق نفس الثقافة، والنتيجة تزايد ظواهر الإقصاء والاستبعاد والتهميش لغالبية فئات المجتمع وطبقاته، فباستثناء فئة ضئيلة جداً من المجتمع تتمتع بالثروة والنفوذ ونتابع أخبارها على صفحات الجرائد والقنوات الفضائية، فإن الغالبية الساحقة من المجتمع تعيش فى فقر مذل، حيث أفاد تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 أن معدلات الفقر فى مصر تبلغ 41% من إجمالى عدد السكان، كما جاء فى تقديرات للبنك الدولى عام 2007 أن 3.8% من السكان لا يستطيعون الحصول على الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية وغيرها من الاحتياجات الأساسية، ويعيشون فى حالة فقر مدقع، بالإضافة إلى 19.6% من المصريين فى حالة فقر، و20% آخرين على حدود الفقر. وعلى الرغم من مضى نصف قرن من القرارات الحكومية التى تضع فى صدارة أولوياتها مبدأ المواطنة والتوزيع العادل للثروة، إلا أن الفجوة بين المحظوظين والمهمشين يصعب ردمها.
وإذا كانت مشاعر الانتماء لدى الفرد لأى جماعة من الجماعات، سواء كانت صغيرة جداً كالأسرة أو كبيرة جداً كالمجتمع، إنما تنشأ وتتعمق بفعل العطاء المتبادل بين الفرد والجماعة، كما تعلمنا من الدكتور سمير نعيم، فإنه يصبح من المنطقى أن انعدام أو قلة عطاء الجماعة للفرد وعدم إشباعها لحاجاته الأساسية المادية والمعنوية، يؤدى بالضرورة إلى انعدم أو ضعف شعوره بالانتماء لها، وهنا يبدأ الفرد فى اعتناق ثقافة الاستهانة بمفهومها الشامل، فيستهين بالقانون والأخلاق وموارد الدولة وممتلكاتها، بل ويستهين بأرواح الناس وممتلكاتهم، حتى يصل إلى المرحلة التى يستهين فيها بحياته شخصياً وأمنه وأمن مجتمعه. وليس أدل على ذلك من تزايد مظاهر العنف المادى والمعنوى فى مختلف المجالات فى مصر، مما يمثل تهديداً خطيراً للسلام والاستقرار الاجتماعى.
إن استهانة الدولة بالغالبية العظمى من مواطنيها، وحرمانهم من أبسط حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقليص قدرتهم على المشاركة وحرية اختيار وتشكيل حياتهم وتنمية قدراتهم وإمكاناتهم، يحوِّل العديد منهم تدريجياً إلى خلايا سرطانية تأكل فى صمت جسد المجتمع، وتنخر فى أساساته حتى يأتى اليوم الذى ينهار فيه فوق الجميع.
نشرت بجريدة الشروق المصرية عدد الخميس 18 فبراير 2010 | |
|