سلطة المعرفة التاريخية بين الثابت والمتغير

سلطة المعرفة التاريخية بين الثابت والمتغير
بقلم: عزمي عاشور

هل من الممكن أن يتحول التاريخ إلى قوة فعل وفاعلية في حاضر المجتمعات؟ وهل في الوقت ذاته من الممكن ان يكون التاريخ بأحداثه عبئاً على الحاضر؟ والإجابة عن هذين السؤالين تنطلق من بعدين، الأول يتعلق بالبعد الثابت للتاريخ static بمعنى ان يتم اقتطاع فترة زمنية من التاريخ بأحداثها وتفاعلاتها والعمل على إحيائها بمنافعها وأضرارها، هذا بالإضافة الى الاختلاف في الزمن والذي هو نفسه تغير بفعل قوانين التغير مما قد يضاعف من الأضرار عندما يتم استنساخ الماضي وتركيبه على الحاضر.

ويمكن القياس على هذا الأمر في ما يتعلق بالمعرفة الدينية وتطبيقاتها، وهي هنا لا غبار عليها اذا كانت مستخدمة في إطارها الصحيح، أي في ما يتعلق بالتدين والفلسفة القائمة من وراء هذه العملية، من الإرتقاء بالروح البشرية والبعد بها عن التطرف في الماديات. في هذا الإطار يمكن اعتبار كل ما يتعلق بالروح والنفس معرفة ثابتة، أما إذا تعدت هذه المعرفة هذا البعد وانطلقت إلى المادة وكل ما يتعلق بالواقع، فهي سوف تخرج عن اطارها وسيكون هناك ظلم بيّن للمعرفة الدينية، بأن يتم تحميلها الحاضر والمستقبل بكل ما فيه من مستجدات، لكون عالم الماديات في تطوره له قوانينه وديناميكياته المختلفة عن المعارف الدينية الثابتة.

ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن البعد الثاني والمتمثل في المعرفة التاريخية غير الثابتة أو المعرفة التاريخية المتسمة بصفتي التراكم وتوليد المعرفة ومن ثم البناء. وهذا الحيز هو المتعلق بالعقل البشري وبالماديات، وحيث يوجد ما يشبه التراكم في ما هو نافع لأنواع المعرفة المختلفة. فنجد انه إذا كانت أحداث التاريخ يمكن الاستدلال عليها من خلال التطبيقات المختلفة للمعرفة الإنسانية.. فمثلاً في مجال تطبيق العلوم الطبيعية وليكن التكنولوجيا، فهي بمثابة محصلة بنائية للمعرفة الإنسانية عن طريق النظريات المعرفية في العلوم الطبيعية والتي كانت تولد بتطبيقاتها نظريات أخرى في شكل بنائي. ومن ثم فإن متغير الثبات كان موجوداً هنا فقط في ما يتعلق بالحقيقة وعدم الثبات، والتغير كان مرتبطاً في منهجية البحث عن الحقيقة في شكل كل ما هو مستجد من نظريات جديدة. وبما أن الإنسان كائن غير مكتمل المعرفة، فالمعرفة لديه نسبية وغير مطلقة وهو دائماً باحث عنها وعن الحقيقة.

وسر المعجزة البشرية يكمن في ما بين جهل الإنسان للحقيقة ورغبته وسعيه للوصول اليها وهي سمة تميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى، إذ أنه من طريق ما يعرف يستطيع ان يعرف المزيد عما يجهله، الأمر الذي ترتب عليه بناء المعرفة لدى الإنسان وترجمتها في تطبيقات مختلفة وتنويعات من الثقافة والسلوكات الراقية للإنسان في تفاعلاته مع الواقع.
ومن هنا، وفي اطار هذه السمة المرتبطة بالمعرفة الإنسانية، يكون من الظلم البين للدين في أن نخضعه للبعد الثاني للمعرفة والمتسمة بالتجدد والتغيير والتراكمية. ومن ثم كان هناك منطقية في تسكين الدين في اطار البعد الأول من المعرفة الثابتة static الذي تم توضحيه في بداية المقال.

وهذا التمييز بين البعدين للمعرفة التاريخية لا يعني ان هناك انفصاماً بين الإثنين، فعالم المادة والعقل وعالم الروح بمثابة الموجب والسالب، فهما في حاجة إلى أن يظهر كلاهما خواصه عندما يقتربان بعضهما من بعض، إذ أن الإنسان في قمة إيمانه بالماديات لا يمكن ان يتجاهل كل ما يتعلق بالروح والنفس سواء كان في شكل إيمان أم في أشكال أخرى يستطيع الإنسان ان يتشبع منها روحياً. ولكن الأثر السلبي يأتي عندما يتم إقحام ما هو روحي من المعرفة في ما هو مادي منها فيجعله مسخاً ويعوقه عن أداء دوره، والعكس أيضاً عندما يتم إقحام ما هو مادي في ما هو روحي فيجعله مشوهاً، فلكل منهما منهجه وقوانينه الخاصة.

وهذا الخلط بين الإثنين يتفشى في مجتمعاتنا في شكل كبير، ما جعل من المعرفة التاريخية إشكالية تعمل على عدم تفعيل الحاضر، للدرجة التي جعلت المعرفة لدينا مسخاً من الأساطير والخرافة اكثر من ارتباطها بالعقلانية.
ونجد أنه في الوقت الذي يتطلب استخدام العقل يتم استدعاء، ليس فقط الدين، وإنما الأساطير والغيبيات بديلاً من العقلانية. وهذا الانحراف بالدين في غير مجاله ساهم في شكل كبير في فشل الرأسمال الاجتماعي والمتمثل في الدين كعامل من بين العوامل الأخرى التي تعمل على تفعيل الثقافة المجتمعية في جوانبها التنموية، هذا بجانب فشله في ان يقوم بالمهمات الأساسية التي جاء بها بالارتقاء بالبعد الروحي للإنسان من طريق إقحام منطقه والتأويلات المتباينة له في تفاصيل الحياة التي تتطلب مجاهدة عقلانية لحل مشكلاتها...

وبالنظر إلى واقع حال مجتمعاتنا، وبمقارنتها بسنن وقوانين تطور الحضارة الإنسانية، نجد منطق التمسك بالمعرفة الدينية الثابتة هو منطق ضد تطور الحضارة البشرية المبنية على استخدام العقل وعلى التباين والاختلاف والتضاد في المصالح والتجاذب بين المعرفة الجهل، والسعي نحو اكتشاف وتوليد المعرفة اذ لولا هذه السمة لفسدت الأرض وبارت وتوقفت عند المرحلة التى نزلت فيها الديانات. الا ان هذه القوانين اللصيقة بالفطرة الإنسانية تأبى أن تخضع لهذه المحدودية في المعرفة والمتمثلة في المعرفة الدينية، فالإنسان بفطرته دائماً يبحث عما كل هو جديد ويفكر في حلول لما يعترضه من مشكلات. الا أن الإشكالية هنا تكمن في انه في الوقت الذي تشكل فيه الأفكار العقلانية والمعرفة المتجددة منهجية لتقدم الحضارة الغربية ومناطق أخرى من العالم، نجدها ضلت طريقها الى مجتمعاتنا مفرغة الطريق إلى المعرفة الثابتة التي تأبى أن تغادر مجتمعاتنا.

ولذلك ليس من الغرابة ان تكون مجتمعاتنا من اكثر المجتمعات تخلفاً في مستوى المعرفة ومستوى المعيشة ومستوى الحريات واحترام آدمية الإنسان. وعلى رغم تشدق المجتمع بالدين في مظاهره، يتناقض واقع الحال مع القيم الدينية نفسها التي كرمت وارتفعت بآدمية الإنسان على دون الخلق. وهذا التكريم للإنسان لا يحتاج إلى استنساخ الماضي وإنما الى البحث عن السبل والوسائل التى تحقق له الرخاء والخروج به من بؤر الفقر والجهل. ويستلزم ذلك التعامل مع المعرفة التاريخية من منطلق الاستفادة منها ومن قوانين التطور المرتبطة بكل ما هو جديد مع الفصل بين ما هو معرفة دينية ومعرفة إنسانية كي لا تصبح المعرفة عبئاً وعائقاً لنهضة المجتمع وتقدمه.
نشرت بجريدة الحياة عدد 11/04/2009

» السيرة التاريخية للغة العربية وخطها
» سلطة المعرفة ومعرفة السلطة عند ميشيل فوكو
» المنطق للبروفسير ويزلى سالمون
» سلطة النقد والعقل والمعارضة بقلم عزالدين مبارك
» الموسوعة الجغرافية للوطن العربي