سلطة النقد والعقل والمعارضة
بقلم عزالدين مبارك
لا يمكن للمرء أن يرى وجهه إن كان قبيحا أو سمحا ولو إن جوهر الانسان دواخله وليس شكله، دون النظر في المرآة. كما لا يمكن للمرء أن يعيش ويحسن التصرف بدون رجاحة العقل الذي يوجه الشخص لطريق الصواب المتعارف عليه فيحسن التدبير ويتحكم في نوازعه وشهواته الذاتية والنفس البشرية أمارة بالسوء ومسكونة بالوجع وشتى صنوف الخروج عن المنطق والعرف.
والسياسة في التمشي الديمقراطي لها كوابح عقلية وأخلاقية بحيث لا توجد حرية مطلقة وثوابت أزليه بل نجد سيادة المنطق النسبي وسلطة المعارضة. فلا ديمقراطية حقيقية بدون معارضة فاعلة وذات وزن ومصداقية. فالحكم لا يسع جميع الفئات والأشخاص وقد تختلف الأحزاب على المشروع والمقاربات ومن تكن له الأغلبية يحكم تحت أنظار النقد والتجريح وحرية التعبير وفي الأخير يأتي الناخب ليعطي رأيه ويقرر المصير.
فالتغول السياسي وديكتاتورية الحكم لا تأتي من طبيعة الأشخاص ونزعتهم نحو التسلط والانفراد بالرأي فقط بل تنبع أيضا من غياب المعارضة والنقد وحرية التعبير ومن أصول الديمقراطية أن الحكم بمفهومه الشامل يتمثل في وجود سلطة مكلفة بتسيير أمور الدولة ومعارضة تراقبها بعين واعية وناقدة حتى لا يكون هناك شطط وتغول على المجتمع. ففي غالب الأحيان يفوز حزب معين بالسلطة لأنه تحصل على الاغلبية دون أن يكون له رصيد شعبي كبير وتكون بذلك أغلبية الناس في صف المعارضة كالمستقلين والأحزاب الصغيرة الكثيرة العدد.
فسياسة تفتيت المعارضة وشيطنتها ورمي زعمائها في السجون أو شراء ذمم بعض الأحزاب لجعلها ديكورا ومجرد لافتة إعلامية لا يمت للديمقراطية في شيء ولا يؤسس لمستقبل سياسي متطور.
كما أن المعارضة الحقيقية هي التي تساهم في تجذير الديمقراطية بطرحها للأفكار والمشاريع الجديدة ولها رؤيا مستقبلية وليس فقط البحث عن الإيقاع بخصومها السياسيين بسبب أو بدونه حتى تصل إلى الحكم حتى وإن ذهبت البلاد إلى الخراب وبئس المصير.
وأكبر خطر يهدد الديمقراطية الوليدة وحرية التعبير والنقد وسلطة المعارضة هو شخصنة الحياة السياسية وحرب الزعامات ونزوع السلطة نحو التغول والديكتاتورية الفردية والاستحواذ على الثروة ومصادرة الرأي المخالف والتضييق على المعارضة واستغلال الظروف كخطر الإرهاب مثلا.
فأخطار الارهاب ومحاربة الفقر والبطالة والتهميش تهم المعارضة أيضا وعلى السلطة بلورة سياسة تشاركية ليس في التصرف العادي للدولة بل في أمهات القضايا المصيرية ومنها التنمية ومحاربة الارهاب. فقد اثبتت التجارب أن الإرهاب لا يمكن له أن يستوطن بلدا تتحقق فيه تطلعات شعبه من تنمية ورغد عيش وكرامة انسانية وحرية في التعبير والنقد والعقلانية. فقد تكون هناك بعض الأحداث لكنها عابرة ومؤقتة ولا يمكن لها أن تستمر طويلا.
كما أن نجاح أي سلطة في الحكم لا يكون فاعلا ومفيدا إلا بالاستماع الجيد إلى صوت المعارضة وأصحاب الفكر والرأي والخبرة والذين ليس لهم مصلحة حزبية أو مادية ضيقة أو مناصب حكومية. فالمريدون والمهرولون للمناصب والمتملقون والمنافقون والباحثون عن تبييض وجوههم لا يمكن أن تستفيد منهم الدولة لأنهم مع السلطان في كل الأوقات يجملون القبيح ويدافعون حتى على الشيطان ومذهبهم كمذهب مقولة ''معيز ولو طاروا''.
فالسلطة الحقيقية في الديمقراطية هي سلطة النقد والعقل والمعارضة لأنها الوحيدة القادرة على المحافظة على صوت الناس البسطاء والمدافعة الشرسة على الفقراء والمهمشين والمعطلين عن العمل وهي القادرة بمخزون الشباب المتعلم على التجديد والمبادرة والعمل الطلائعي. أما السلطة الحاكمة وخاصة في عالمنا العربي فهي تتعثر دائما في أوحال الرجعية والزعامتية وكلاكل التاريخ الماضوي والتحجر الفكري وبذلك لا تستطيع بمفردها إعطاء إجابة شافية لمشاكل المجتمع المستعصية إلا باستعمال الحيلة والقوة والجبروت.
والخوف كل الخوف أن تكون قشرة الديمقراطية التي جاءت بعد الثورة وخاصة حرية الرأي والتعبير مجرد عثرة من عثرات الديكتاتورية والسلطة القاهرة ويمكن مع إلحاح اللحظة العابرة أن يغيب رشد العقل في غفلة من التاريخ وتعود عقارب الساعة إلى الوراء كما تعود الديدان إلى العفن والكلاب إلى روث البهائم.