د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: ســعد لبيب: الأستاذ والمعلم 15/3/2009, 9:59 pm | |
| ســعد لبيب: الأستاذ والمعلم بقلم : فاروق شوشة رأيته في اليوم الأول لالتحاقي بالإذاعة في العشرين من أكتوبر عام1958, كانت التقاليد الإذاعية تقضي بأن يقابل المذيع الجديد ـ عند تسلمه العمل ـ كبير المذيعين أو المدير العام للتنفيذ, ولما كان كلاهما ( صلاح زكي وحسني الحديدي) غير موجود, فقد دفعوا بي إلي مكتب الإعلامي الكبير عبدالحميد يونس ـ وكيل الإذاعة في ذلك الوقت ـ وكان بصحبته الأستاذ سعد لبيب مدير البرنامج الثاني للإذاعة ( البرنامج الثقافي الآن), وكان قد مضي عام واحد علي بدء إرساله. وأخذ الأستاذ يونس يسألني عن دراساتي واهتماماتي وأسباب اختياري للعمل الإذاعي, وإجاباتي تركز علي إذاعة البرنامج الثاني الواجهة المشرفة للعمل الإذاعي الثقافي; ولم أعرف وقتها أن الشخص الذي كان يصحبه الأستاذ يونس هو سعد لبيب, بالرغم من أنني كنت أتابع البرنامج الأسبوعي مجلة الهواء الذي كان يقدمه هو وصديق عمره فهمي عمر ـ الذي أصبح رئيسا للإذاعة فيما بعد ـ أطال الله عمره. وعرفت بعد أيام قليلة أنه طلبني للعمل في البرنامج الثاني, فلم يوافق حسني الحديدي الذي أصر علي بقائي في قسم المذيعين,وسمح لي بأن أعمل وقتا إضافيا في البرنامج الثاني بعد انتهاء واجباتي في قسم المذيعين. هذا العمل الإضافي استمر ـ تطوعيا ـ طيلة خمس سنوات كان البرنامج الثاني خلالها وعلي رأسه سعد لبيب مدرستي الإذاعية الأولي, وسعدت بأن أكون تلميذا مباشرا يتلقي التوجيهات الأولي ويتعلم دروسه الأساسية في الكلام والإلقاء وكيفية إجراء الحوار والتعامل مع ضيوف الميكروفون, وكيف يكون الإعداد لبرنامج ما. كانت إدارة سعد لبيب للعمل الذي اختير له بعد سفره في بعثة إلي الإذاعة البريطانية لدراسة ما يسمي بالبرنامج الثالث فيها المخصص للثقافة ـ إدارة تقوم علي الحزم والمودة معا ـ وكانت أسرة البرنامج الثاني التي تضم صفوة من الإذاعيين تحمل له محبة واحتراما وتقديرا من طراز فريد, هذه الصفوة التي تضم سميرة الكيلاني الإذاعية الكبيرة المثقفة, وبهاء طاهر ـ الروائي الكبير الآن ـ وفؤاد كامل المترجم وأستاذ الفلسفة, ومحمود مرسي المخرج الإذاعي الذي أصبح نجما سينمائيا وتليفزيونيا, وسهير الحارتي النحلة الدؤوب المتوهجة بالنشاط والحيوية, وصلاح عز الدين المخرج العائد إلي الوطن بعد أن رفض هو وزميله محمود مرسي العمل في الإذاعة البريطانية عندما حدث الدوان الثلاثي علي مصر, وكامل يوسف المخرج الإذاعي الشهير, وحكمت عباس مسئولة البرامج الفنية, وعفاف المولد مسئولة البرامج العلمية. وكان سعد لبيب المايسترو الرائع الذي يقود كتيبة الحالمين بصنع أول إذاعة ثقافية عربية علي غير مثال, حريصا علي أن يلتقي مع الجميع كل صباح لتقييم ما أذيع بالأمس. ولم تكد تمضي شهور قليلة حتي كلفني بتقديم الحلقات العربية من برنامج مع الأدباء الذي لا يزال علي خريطة الإذاعة حتي الآن وكان ضيف الحلقة الأولي نجيب محفوظ, وكانت المرة الأولي التي يدخل فيها مبني الشريفين لتسجيل البرنامج الذي أصر أن تكون إجاباته فيه مكتوبة, الأمر الذي جعل من حوارنا وثيقة حرصت علي نشرها في مجلة الآداب البيروتية عام1960, وقد رجع إليها كثير ممن كتبوا عن نجيب محفوظ في ذلك الوقت. وحين انتقلت الإذاعية الكبيرة سميرة الكيلاني إلي التليفزيون ـ ضمن الفوج الأول من رواد الإذاعة فوج البناء والتأسيس ـ عبدالحميد يونس وبابا شارو( محمد محمود شعبان) وسعد لبيب ومحمود مرسي ثم همت مصطفي بعد ذلك ـ كلفني سعد لبيب بتقديم برنامجها مع النقاد الذي كان صوت الحياة النقدية في ذلك الزمان. ولم يلبث سعد لبيب أن أصبح دينامو الحيوية والنشاط في عمله الجديد بالتليفزيون سكرتيرا له, ومسئولا عن إذاعاته الخارجية, وبرامجه الفنية والثقافية, قبل أن يصبح مديرا عاما لبرامجه ومسئولا عن وضع الخريطة البرامجية لهذا الجهاز الذي يدين لسعد لبيب بوضع أسس العمل وتقاليده الأولي, قبل أن يترهل الوضع, وتسيطر فلسفة الكم التي بسببها آثر بابا شارو العودة إلي عمله بالإذاعة احتراما لتاريخه ومواقفه, وإيثاره الكيف, الأمر الذي لم يعجب كبار المسئولين وقتها, الذين كانوا يتعجلون كل شيء قبل أن تنضج الثمار, ويتم تدريب الكوادر الفنية, ولا تزال فلسفة الكم في الإعلام المصري سببا في كل ظواهره السلبية حتي الآن في الإذاعات والقنوات التليفزيونية التي تزداد تورما وانتفاخا دون أن تحمل جدوي أو فائدة. وعندما حدثت هوجة مايو وأضير بسببها عدد من نجوم الإذاعة والتليفزيون كان سعد لبيب واحدا من ضحاياها بعد أن أعطي عصارة قلبه وفكره للإعلام المصري. وعلي عكس كل التوقعات كان تحرره من سجن الوظيفة بداية لمرحلة من التألق والازدهار والنجاح المدوي في حياته خبيرا إعلاميا ـ عربيا ودوليا ـ ومؤسسا لمعاهد التدريب في قطر والعراق, ومستشارا إعلاميا للعديد من الهيئات والمؤسسات, وفي مقدمتها اليونسكو واتحاد الإذاعات العربية, وعميدا لأول كلية للإعلام في أول جامعة خاصة في أكتوبر, وأستاذا للإعلام في عديد الجامعات, وواضعا للعديد من الدراسات الإعلامية المؤلفة والمترجمة.وفي غمار هذا التألق الذي استرد به سعد لبيب شبابه وعافيته, يسارع الإعلام المصري ـ الذي تنكر له بعض الوقت ـ إلي احتضانه, عضوا في مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون, ورئيسا لمهرجان التليفزيون, ثم مهرجان الإذاعة والتليفزيون طيلة دوراته الأولي: مؤسسا ومنظما وواضعا لمنظومة القيم واللوائح والمعايير, وأستاذا في معاهد التدريب, ومستشارا رفيعا لرؤساء الاتحاد, وهو في خضم هذا كله: الإنسان الجميل الرائع الذي يفيض رقة وبشاشة, ولا تفارقه الابتسامة, والذي لم يكتسب خصومة واحدة طيلة مشواره الطويل, حاملا أمانة المسئولية في دأب لا يعرف الكلل ونشاط يتوهج بالحيوية والقدرة علي العطاء. برحيل سعد لبيب تغيب عن عالمنا الإنساني والإعلامي نسمة جميلة صافية وروح إنسانية عذبة, وخبرة معلم وأستاذ نجح في أن يجعل منها مصنعا للعديد من تلاميذه وأبنائه, يربيهم ويتعهدهم ويوجههم, هم الآن بعض غرس يديه وثمرة ريادته. وياأستاذي ومعلمي وأخي وصديقي نم هانئا, سيظل فينا غرسك, ويبقي فينا عطرك, وستزدهر فينا وبنا أحلامك وأمنياتك. نشرت بجريدة الأهرام عدد 15/3/2009 | |
|