تابع .... المدوّنات... السلطة الخامسة في مصر
ماذا حدث في 6 إبريل 2008؟
يتعيّن علينا العودة للوراء قليلاً لفهم ما حدث في يوم 6 نيسان/إبريل. فقد تأثرت مصر كثيرا في عام 2008 بموجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق العالمية، وانعكس ذلك زيادةً كبيرة في أسعار السلع الغذائية تجاوزت أحياناً الـ100%. وما لبثت تلك الزيادة أن انسحبت على باقي القطّاعات، لترتفع أسعار كل السلع تقريباً.
أدّى ذلك الوضع إلى إطلاق حركةٍ مطلبيّة كبيرة تطالب بزيادة الأجور الضعيفة أصلاً. وتصاعدت الحركة العمّالية بشكلٍ كبيرٍ في عام 2008، الذي شهد عدداً قياسياً من الإضرابات والاحتجاجات في جميع أنحاء مصر [9]. وكان رمز تلك الحركة واحدُ من أكبر ما تبقّى من مصانع القطّاع العام، وهو مصنع غزل المحلّة الكبرى في دلتا مصر، والذي يضمّ حوالي 27 ألف عامل. وقد كان عمال غزل المحلّة قد نفّذوا العديد من الإضرابات الكبيرة ابتداءً من آخر 2007، لاقت صدىً إعلامياً واسعاً. بعد ذلك، أطلق قادة الحركة العمالية في المصنع دعوةً لتنظيم إضرابٍ في المصنع يوم 6 نيسان/إبريل 2008، وما لبث أن تلقّف نشطاء الانترنت تلك الدعوة وحولوها لدعوة إضرابٍ عام في مصر ضدّ الفساد والغلاء؛ وقاموا بتنظيم حملةٍ الكترونية تدعو المواطنين لأن يلزموا بيوتهم ويمتنعوا عن التوجّه لمقارّ عملهم في ذلك اليوم أو النزول للميادين العامة للتظاهر. في الدعوة لذلك الإضراب، شاركت المدوّنات المعروفة التي سبق ذكرها؛ والجديد هذه المرّة كان دخول الــ"فيس بوك Face Book" الساحة؛ إذ تمّ إنشاء عدة "مجموعات" للإضراب على شبكة "الفيس بوك" مثل مجموعة "6 إبريل، إضَرابٌ عامٌّ لشعب مصر"، التي ضمّت أكثر من 60 ألف مشترك [10] ، أرسلوا بعد ذلك آلاف الدعوات إلى المصريين الآخرين المشتركين على الموقع، تحضّهم على البقاء في منزلهم يوم "الإضراب العام". وكان من بين هؤلاء الناشطين الإلكترونيين الشابّة إسراء عبد الفتاح.
أصابت تلك الدعوة النظام وأجهزته الأمنية بحالةٍ من الارتباك والبلبلة، كونها تخرج عن قواعد اللعبة السياسية المألوفة. فقد وجد النظام نفسه أمام دعوةٍ لعصيانٍ مدنيّ ذي أجندة اجتماعية، حيث تنطلق الدعوة من القواعد مباشرةً، ويتولّى الدعاية لها نشطاءٌ الكترونيّون، بعيداً عن قوى المعارضة السياسية التقليدية. فباستثناء حركة "كفاية" وبعض القوى السياسية الأخرى كحزب العمل المجمّد، لم تشارك الكثير من أحزاب المعارضة في الدعوة للإضراب. واكتفى الإخوان المسلمون بإعلان تأييدهم لمبدأ الإضراب بشكلٍ عام، دون أن يعلنوا مشاركتهم فيه، بحجة أنهم لا يعرفون "أهدافه ولاوسائله"، وأنهم "ليسوا مسؤولين عن أيّ شيءٍ فيه" [11]؛ في حين وقف قادة حزبي التجمّع الاشتراكي والوفد ضدّ الإضراب. فالمعارضة كان يسيطر عليها هاجس أن الأحداث قد تجاوزتها، وأنّها لم تعد وحدها تحتكر مبادرات مقارعة النظام]]انظر: "الإضراب اليتيم.. "ثورة" في وعي المصريين، "شريف الدواخلي أحمد عطا، إسلام اونلاين، الرابط: http://www.islamonline.net/servlet/... ]].
في البداية، حاول النظام تجاهل تلك الدعوة تماماً؛ حتّى أن الإعلام الرسمي لم يتطرّق لها لا من قريبٍ ولا من بعيد، ليترك بذلك طواعيةً الساحة للإعلام المستقلّ كصحيفة "المصري اليوم" و"الدستور" والقنوات الفضائية الخاصة، التي أفردت مساحات كبيرة لتغطية وتحليل تلك الدعوة. إلاّ أن وزارة الداخلية قد أطلقت عشيّة اليوم المحدّد للإضراب تحذيراً شديد اللهجة للمواطنين عبر وسائل الإعلام الرسمية بعدم الاشتراك في أيّ تظاهرة أو تجمهُر، وإلا سيتمّ توقيفهم بمقتضى قانون الطواريء المطبّق في مصر منذ اغتيال الرئيس السادات عام 1981 [12]. وقامت الأجهزة الأمنية بالاستعداد للحدث بانتشارٍ واسع النطاق في جميع الميادين الكبرى في القاهرة وبعض المحافظات، لوأد أي مظاهرة في مهدها.
في اليوم المحدّد، كان الوضع هادئاً نسبياً في العاصمة، لم يقطعه سوى بعض المظاهرات في وسط البلد تمّ تفريقها وإلقاء القبض على بعض المشاركين فيها. لكن الزحام القاهري المعتاد اختفى تقريباً ذلك اليوم، وانخفض عدد المارّة بشكلٍ ملحوظٍ ما يوحي باستجابة المواطنين لنداء الإضراب. وعلى النقيض من ذلك، شهِدت مدينة المحلّة الكبرى (شمال القاهرة) مواجهات عنيفة بين قوّات الأمن من جانب، وعمّال مصنع الغزل وأهالي المدينة من جانبٍ آخر، أسفرت عن سقوط عددٍ من القتلى والجرحى. عمد الأمن إلى احتواء أحداث الشغب تلك، ثم استدار بعد ذلك إلى منظّمي الإضراب الذين روّجوا له؛ فألقى القبض على بعض نشطاء الإنترنت وأشهرهم إسراء عبد الفتاح التي احتُجِزَت حوالي أسبوعين في سجن القناطر بقرارٍ من وزير الداخلية قبل أن يتمّ إطلاق سراحها [13].
نحو صحافة شعبيّة
لم تكتفِ المدوّنات في تغطية ما يدور على الساحة السياسة الداخليّة فقط، بل امتدّت لغيرها من الأحداث المهمّة التي لم تحظَ بتغطيةٍ مناسبة من وسائل الإعلام التقليدية. فرأينا مدوّنة "جار القمر" (http://jarelkamar.manalaa.net) تقدّم تغطيةً مفصّلةً من قلب الحدث لأحداث العنف الطائفي التي اندلعت في مدينة الإسكندرية في عام 2006 بين المسلمين والأقباط [14]. فقد شرح صاحب المدوّنة ما يحدث في المعسكرين، وكانت استجابته أسرع من كلّ وسائل الإعلام الأخرى كونه من أبناء المنطقة، ولسهولة اندماجه في وسط الجماهير المستثارة دون إثارة الانتباه. وقد اعتمدت الكثير من وسائل الإعلام العربية والأجنبية في تناولها للحدث ما ورد في تلك المدونة.
مثالٌ آخر للدور المتزايد الذي لعبته المدوّنات كصحافة شعبية أو بديلة، هو كشفها لحادث تحرّشٍ جماعيّ بالسيدات شهدته منطقة وسط البلد بالقاهرة في عيد الأضحى من عام 2006 [15]؛ في حين لم تشِر أيٌّ من وسائل الإعلام له، وكانت المدوّنات أوّل من تحدث عنه ونشرت لقطات فيديو تمّ أخذها بالهاتف الخليوي. وقد أثار تفرد المدوّنات بهذا السبق حفيظة وسائل الإعلام الرسميّة التي وجدت نفسها وقد تجاوزتها الأحداث. فكان ردّ فعلها أن نفت وقوع تلك الأحداث واتّهمت المدونين بأنّهم مروجو إشاعات أو طالبو شهرة. لكن حملة التشهير تلك لم تنطلِ على أحد، خصوصاً وأن وسائل الإعلام المستقلّة قد تلقفت النبأ من المدوّنات وتابعت تغطيته، لتوجّه المدوّنات بذلك لطمةً قويّة لمصداقية الإعلام الحكومي المتدهورة أصلاً.
ساحة لكشف المسكوت عنه
لم يقتصِر تأثير المدوّنات على السياسة فقط. فقد فتحت الباب لتناول موضوعات كانت تعدّ من المحرّمات في عرف المجتمع المصري، كالدين والعلاقات بين الجنسين والعنوسة... والقائمة تطول. ومن أمثلة المدوّنات الاجتماعية مدوّنة "عايزة أتجوز" (http://wanna-b-a-bride.blogspot.com) لـ"غادة عبد العال"، التي تجرّأت على انتقاد الرؤية التقليديّة للزواج في مصر والضغوط التي تَمارّس على الفتيات، وخوفهن من العنوسة، وإيمان المجتمع بأنّ الزواج هو المنتهى وحلم كلّ فتاة والهدف النهائي لحياتهن. كلّ هذا عبّرت عنه غادة بروحٍ ونفسٍ جديدين ولغةٍ مبّسطة سلسة ونزوعٍ نحو توظيف اللغة العاميّة. ولفتت تلك المدونة نظر "دار الشروق"، أحد أكبر دور النشر في مصر؛ فقامت بنشر كتابات غادة في مؤلّفٍ بنفس عنوان المدونة "عايزة أتجوز". وبذلك خرجت المدوّنات من الفضاء العنكبوتي الافتراضي لعالم الكتب المنشورة. وقد شجّع نجاح المدونة وتفاعل الجمهور معها، غادة على التوسّع في كتاباتها وإنشاء موقعين رديفين للمدوّنة الأصلية لاستقبال مساهمات القرّاء ونشر تجاربهم المتعلّقة بموضوع الارتباط والزواج.
هكذا تتنوّع اهتمامات المدوّنات من سياسة، ودين، ومجتمع. فحسب تقرير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، فإن المدوّنات المصرية تركّز اهتمامها على الموضوعات المحلية أكثر منه على الموضوعات القوميّة أو الدولية أو الإقليمية. فنرى مثلاً حضوراً كبيراً للتدوينات التي تتحدّث عن الوضع السياسي في مصر؛ ويحتلّ الرئيس حسني مبارك موقعاً متقدماً في لائحة أكثر الشخصيات ذكراً على المدونات حسب التقرير المشار إليه. كما تكثُر الإشارة في المدوّنات إلى الموضوعات التي تشغل الرأي العام كسيناريوهات توريث السلطة والفساد والاحتكارات الصناعية والتجارية وارتفاع الإسعار وأخبار الحركات الاجتماعية. لكن ذلك لا ينفي أن الشأن الإقليمي والقوميّ كثيراً ما يفرض نفسه على المدوّنات، فنرى مثلا عدوان غزة حاضراً بقوّة في الكثير منها (طالع موضوع تغطية المدوّنات المصرية للعدوان على غزة المرفق).
ويبقى السؤال: ما هو في النهاي تأثيرٍ هذه المدوّنات الطويل الأمد على المجتمع المصري؟ فالمتابع للمدوّنات خلال فترة الحراك السياسي في 2005 و2006، كان ينتابه شعورٌ بأنّ الثورة ستقوم غداً، وأنّ سقوط النظام مسألة وقتٍ ليس إلاّ. ولكن حتّى المدوّنون أنفسهم يعترفون بأنّ المدونات ليس سوى وسيلةٍ من ضمن وسائلٍ أخرى لإحداث التغيير، وأنّها ليست قادرةٌ وحدها على تحريك أو تعبئة الجموع، وأنّ العمل السياسي يخاض أساساً على الأرض، وليس على الفضاء الافتراضي. غير أن ذلك لا ينفي أنّ المدونين قد استطاعوا بجرأةٍ كبيرة كسر الكثير من الخطوط الحمراء في السياسة، كما في الثقافة الاجتماعية التقليدية السائدة.
الهوامش:
[1] " النشرة ربع السنوية لمؤشّرات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات"، وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية، أيلول/ سبتمبر 2008 ، لمزيدٍ من الاطلاع راجع الوصلة: http://www.mcit.gov.eg/ar/Indicator...
[2] ، تهتمّ 14,4% من المدوّنات بالفنون والثقافة، و7% بالموضوعات"المدونات المصرية: فضاء إجتماعى جديد"، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزاء المصري، أيار/ مايو 2008، الوصلة: idsc.gov.eg/Documents/StudiesDetail...
[3] انظر الوصلة: http://misrdigital.blogspirit.com/a...
[4] انظر: حسام تمام "المدونون الإخوان.. حركة احتجاجيّة أم تيارٌ للنقد الذاتي؟"، موقع "إسلام اونلاين" على شبكة الانترنتhttp://www.islamonline.net/servlet/...
[5] http://ana-ikhwan.blogspot.com/2008...
[6] محادثة تليفونية مع المدوّن مالك مصطفى في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2006
[7] راجع الرابط: http://www.rsf.org/article.php3?id_...
[8] راجع: http://www.rsf.org/article.php3?id_...
[9] راجع: جويل بينين: "مصر البطون الفارغة"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آيار/مايو 2008، http://www.mondiploar.com/article.p...
[10] راجع الرابط: .facebook.com/group.php?sid=c55b7cc540c01ea482af08ab59667f23&gid=9973986703
[11] تصريح لمحمود عزّت أمين عام جماعة الإخوان المسلمين عشيّة الإضراب على الموقع الرسمي للجماعة، أنظر الرابط: www.ikhwanonline.com/Article.asp?Ar...
[12] راجع: http://www.islamonline.net/servlet/...
[13] صحيفة المصري اليوم، عبر الرابط: http://www.almasry-alyoum.com/artic...
[14] صحيفة الشرق الأوسط عبر الرابط: www.asharqalawsat.com/details.asp?s...
[15] انظر صحيفة ليبراسيون: Chasse aux femmes en Egypte", Claude Guibal, http://www.liberation.fr/grand-angl...
