د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: اللُّغة العربيّة وهُويّة المجتمع 18/12/2008, 4:18 pm | |
| اللُّغة العربيّة وهُويّة المجتمع د.سمر روحي الفيصل ليس من المفيد أن يتجاهل أحدٌ الحقيقة المعروفة التي تربط الفكر بالهويّة واللّغة. فالهويّة تُعبِّر عن الفكر، واللّغة تُعبِّر عن الهويّة. ومن ثَمَّ فإن أيَّ تأثير سلبيّ في طرف من هذه الأطراف الثّلاثة يُؤثِّر تأثيراً سلبيّاً في الطَّرفيْن الآخرين؛ أي أن توهين الفكر يجعل الهُويّة ضعيفة واللّغة المعبِّرة عن هذه الهويّة أكثر ضعفاً. ومن المفيد ألا نتجاهل أيضاً صلة الإنسان الطَّوعيّة بهذه الأطراف الثّلاثة؛ أي أن الإنسان يجب أن يكون حرّاً واعياً ثابت العقيدة ليتمكَّن من الاختيار طواعيةً. ولا أثر كبيراً هنا للجانب الفِطريِّ العاطفيّ؛ لأنّ هناك ثلاثةَ أمورٍ مسؤولةً عن تربية الحريّة والوعي والثّبات العَقَديّ في الإنسان، هي العقيدة بقيمها الروحيّة والماديّة، والتربية المكتسبة التي (تُعزِّز) صلة الإنسان بفكر أمّته وهويّتها ولغتها، والتّراث الثّقافيّ الذي يربط الإنسان بعادات أمته وتقاليدها وآدابها وفنونها.
أقول، استناداً إلى التّحديد السّابق، إنّ اختيار الفكر العربيّ نابع من أن العروبة منفتحة، مرنة، قادرة على التفاعل مع المتغيِّرات، تقبل الآخر بينها فلا ترفضه، وتحاوره دون أن تستبعده؛ لأنها كما نصَّ عصام نعمان: تتصف بتركيزها على المشتركات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة القائمة بين الأقوام والإثنيّات والطوائف والمذاهب والثقافات التي تتوافر في البلاد العربيّة، فضلاً عن أنها (ديمقراطيّة) تستند إلى حكم القانون والعدالة(1)، وترفض الجمود والتَّحوُّل إلى عقيدة ثابتة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر. ولا شكَّ في أنّ الهويّة العربيّة هي المعبِّرة عن الفكر العربيّ، وأنّ اللّغة العربيّة هي المعبِّرة عن الهويّة العربيّة التي اعتدنا اختزالها بمصطلح (العروبة). أعتقد بأنّني خائف، في الوقت الرّاهن، على الفكر العربيّ وعلى هويّة المجتمع العربيّ التي تُجسِّده. وقد أشرع أخاف على اللّغة العربيّة في العِقد القابل. أمّا مسوّغ الخوف الرّاهن على المجتمع العربيّ فهو غزو الحياة الحديثة والعولمة. أما الحياة الحديثة فقد دخلت المجتمع العربيّ في النِّصف الثاني من القرن العشرين دون أن يكون مُعَدَّاً للاندماج فيها. فالسيَّارة، على سبيل التّمثيل لا الحصر، آلة لم تأتِ إلينا جامدةً، بل جاءتنا وهي تحمل معها فكر صانعيها الحديث، بما يضمُّه هذا الفكر من حاجة إلى سلوكات وعادات جديدة، وإلى نبذ السلوكات والعادات القديمة، ولكننا ركبنا الآلة الجامدة ولم نتحلّ بالفكر العلميّ الذي صنعها، أو مهَّد لصناعتها وبناء حضارتها الحديثة. وما إنْ شرع المجتمع العربيّ يتكيّف مع الأشكال الأولى البسيطة للحياة الحديثة في ثمانينيّات القرن العشرين وتسعينيّاته حتى عصفت به رياح العولمة، بفضائيّاتها واقتصادها وأفكارها الغربيّة المسيطرة، المناهضة للفكر العربيّ، النابذة للمجتمع القديم الآمن والحديث الآخذ بالتَّشكُّل، الرّاغبة في أن تجعل الإنسان تابعاً ذليلاً لها. وهانحن الآن نترنَّح، فنعي قليلاً، وليس كثيراً، القيود التي فُرضَتْ على مجتمعنا في الاقتصاد وغيره، دون أن نكون قادرين على الاعتراض عليها، أو على تجلّياتها التي تبثُّها الفضائيّات، وتسعى من خلالها إلى غرس القيم الغربيّة في مجتمعنا العربيّ. أمّا اللُّغة العربيّة فموقفها أكثر قوّةً في مواجهة الحياة الحديثة؛ لأنها أثبتت، طَوَال القرن العشرين، قدرتها على ابتداع المصطلحات في العلوم والفنون والآداب كلِّها، ونجاحها في تدريسها وغَرْس مهاراتها والتّأليف فيها. وقد أثبتت الدِّراسات غنى اللّغة العربيّة ومرونتها وطَواعيّتها في العصر الحديث(2). ولا أظنُّ بأنّ شيئاً من ذلك كلّه يمكن أن يتغيَّر في أثناء مواجهتها رياح العولمة. بيد أنّ ذلك لا يعني الاطمئنان، بل يعني القلق؛ تبعاً لتوافر الارتباط بين هوية المجتمع العربي واللغة العربيّة. ويمكنني القول، بتعبير آخر، إن الخطر اللُّغويّ نابع من أن العولمة تُهدِّد هُويّة المجتمع العربيّ. فإذا كانت العولمة تشير إلى بداية تشكُّل الحضارة العالميّة(3) فإن المجتمع العربيّ، بتعدُّد دُوَله وتباينها، غير قادر على الاختيار بين الانغماس في العولمة أو عدم الانغماس فيها؛ لأن الدُّول الصغيرة مُجبرة غير مخيَّرة على مجاراة العولمة، ولكنها قد تجاريها فتبقى حيَّةً فاعلة، وقد تنتظر ما ستفعله بها فتدعسها وتجعلها تابعة ذليلة إنْ لم تمحقها. والفيصل في ذلك، كما نصَّ سعيد حارب، هو (صوغ الإنسان الجديد)(4). فالإنسان العربيّ في هذه الأيام بدأ يتصف، كلّيّاً أو جزئيّاً، بالصفات الآتية: 1- الإحساس بعدم المسؤوليّة عمّا يجري في المجتمع. 2- الانغماس في متع العصر الاستهلاكيّة في المأكل والملبس والسّلوك، أو التّطرُّف والابتعاد عن العصر بإيجابيّاته وسلبيّاته. 3- التَّرجُّح بين قيم العروبة الرّوحيّة والماديّة النابعة من العقيدة والثقافة، والقيم المادية النابعة من العولمة الاقتصاديّة. 4- الاعتقاد بأن المجتمع المثاليّ هو المجتمع الغربيّ بعاداته وتقاليده وديمقراطيّته، وأن المجتمع العربيّ متخلِّف لا يمكن إصلاحه ولا حفزه إلى اللَّحاق بالغرب المتقدِّم. 5- الإيمان بأن اللّغة الانكليزيّة هي لغة التقنية الحديثة، وأن العربية صعبة لا علاقة لها بهذه التقنية، ولا صلة تربطها بالحداثة، ولا أمل لها باللَّحاق بركب صانعي الحضارة العالميّة الجديدة. هذه الصفات الخمس بدأت تُبْعِدُ الجيل الجديد عن لغته، وتُشْعِره بالخواء الدَّاخليّ، وبضعف المواطنة، وبالتَّطلُّع إلى الهجرة من الوطن الصغير والكبير. ولهذا السبب ترى هذا الإنسان مستهيناً بلغته، لا يرغب في إتقان مهاراتها، ولا يهتمُّ بتاريخها ورجالاتها، وكأنّه ينتقم من مجتمعه حين يهمل اللغة العربيّة. فإذا حدّثتَه عن مرونة العربية وجمالها وتراثها هزَّ رأسه استهزاءً، وقدَّم لكَ من صُنْع يدكَ دليلاً معاكساً لما تطلبه منه، هو أنكَ تتشبَّث بالتعليم باللغة الأجنبيّة، فإذا كانت لغتكَ على هذا النَّحو من الأهميّة، كما تدَّعي، فاهجر التعليم باللّغة الأجنبيّة، وعلِّمني باللّغة العربيّة وحدَها. هذا المناخ الاجتماعيّ اللّغويّ السلبيّ تُعزِّزه القنوات الفضائيّة العربيّة بمسلسلاتها الأجنبيّة التي تنهال على رأس هذا الإنسان ليل نهار، فتزيد خواءه خواءً، ونفوره من المجتمع العربيّ نفوراً. ومن البديهيّ أن نعتقد بأن هذه الصفات السابقة أثرت تأثيراً سلبيّاً في هويّة المجتمع العربيّ، أو أنها ستؤثِّر في هذه الهويّة، في العِقد القابل، حين يتسنّم مقاليدَ الأمورِ الجيلُ الذي أشرتُ إلى صفاته الخمس، الجيلُ الذي رُبي في أحضان العولمة، ما لم تبادر التربية، بالمفهوم الواسع لها، إلى صوغ هذا الإنسان العربيّ صوغاً يجعله إنساناً جديداً قادراً على التخلُّص من الصفات الخمس السلبيّة، مبادراً إلى الحفاظ على هويّة مجتمعه العربيّ، كما هي حال صِنوه اليابانيّ والكوريّ والصِّينيّ والماليزيّ. إنكَ لتعجب من أن الدُّوَل التي حافظت على هوية مجتمعها الآن وليس غداً، ربَّت الإنسان في مجتمعها على احترام لغته قبل أن تربيه على إتقان العلوم والمعارف. ربته على أن لغته هي كيانه مهما تكن بسيطة أو صعبة أو ضعيفة أو مرنة أو غير ذلك، وعلَّمته أن لغته هي هويّته ووطنه وأمّته وحياته كلّها، قبل أن تربيه على تذوُّق الفنون والآداب، فلا شيء عندها يعلو على اللغة مهما يكن جليلاً في سلَّم القيم المعنويّة. لا شيء في نظرها أكثر أهميّة من إتقان مهارات الحديث والقراءة والكتابة والاستماع؛ لأنها تعلم علم اليقين أن لغتها عنوان هويّة مجتمعها، فإذا ضعفت اللغة ضعفت الهويّة، والعكس صحيح أيضاً. هل نحاكي هذه الدُّول، فنجعل التربية اللُّغويّة عنوان إعادة بناء الإنسان العربيّ؟. هل نعي جيِّداً، ونحن نسعى إلى إعادة تربية إنساننا العربيّ، أنّ قرآننا، وهو دستور عقيدتنا، نزل بلسان عربيّ مبين، وما زال حافظاً لهذه اللغة، وأن جيلنا لم ينفصل عن عقيدته، ولم ييأس اليأس الذي يجرفه بعيداً عن وطنه وأمّته. أكاد أقول: بلى، وأنا أعلم بأننا لا نحترم لغتنا، ونتغنَّى بحبّها لفظياً. والدّليل على ذلك أننا نُعلي من شأن اللّغة الأجنبيّة في عُقر دارنا، ونغضّ الطَّرْف عن حال اللغة العربيّة في مدارسنا ومؤسساتنا وحياتنا ومنازلنا. ونحن لا نعلي من شأن اللغة الأجنبيّة فحسب، بل نسعى جاهدين إلى إتقانها، وإلى حفز أبنائنا إلى تلقي العلم في مدارسها وجامعاتها، وننفق، كثيراً وليس قليلاً، على المؤتمرات واللقاءات الخاصّة بالتحبيب بها وإتقان أساليب تعليمها كتابةً وقراءةً. ولا نحترم، في الوقت نفسه، لغتنا العربية، لغة القرآن والحديث والتراث، فنبخل إذا طُلِب منا الإنفاق على المؤسسات التي تخدمها، ونتردَّد إذا دُعينا إلى احترامها وخدمتها. نرفض أن نجعلها كياننا وهويّتنا، فلا نُقرِّبها من الجيل الجديد، بل نخيفه منها، وننفره من مهاراتها، ونبعده عن نصوصها الجميلة في تراثها القديم والحديث، ونيسِّر له أمر النجاح في امتحاناتها دون عناء، ونسامحه على تهاونه بها وبمعلِّميها وأدبائها والعاملين على صوغ وجدانات الناس بوساطتها. كما نهمل تنمية رصيده اللغويّ، ونستهين بأساليب اعتزازه بها، ومباهاته بجمالها، والفخر بتاريخها وأعلامها. مثل هذا الإنسان يحتاج إلى تربية لغويّة تعينه على الارتقاء بهوية مجتمعه، وتزوِّده بالقوّة الدّاخليّة التي تبني كيانه، وتخلق في المجتمع مناخاً مواتياً للرقي والعزّة، وإن كانت المشكلات تحيط بهذا المجتمع، وتُضعفه، وتجعله يقترب من الموت في أثناء خوضه معركة العولمة. إن الحديث عن التربية اللُّغويّة ذو شجون، فلْننظر إلى بناء الإنسان العربيّ الجديد من نافذة هذه التربية، ولنربطه بوطنه وأمّته بوساطتها. ولكنْ، هل البناء حُلُم وأمانٍ عاطفيّة وأضغاث أحلام، أو هو إيمان باللّغة العربية، واستعداد علميّ لجعلها لغة الحياة والعلم؟. هل البناء اللُّغويّ مهمّة المدرسة وحدَها، أو هي مهمّة المجتمع كلِّه؟. أليست هناك حاجة إلى (تعريب) المجتمع الذي نعيش فيه؛ لنعيد إلى وسائل إعلامنا واتصالنا وتعبيرنا اللّغة العربية القادرة على ربط الإنسان الجديد بتراثه وعقيدته وفنونه وآدابه وعلومه؟. إن البناء اللّغويّ للإنسان العربيّ الجديد مهمّة حضاريّة، يعمل على تجسيدها الأفراد والمؤسسات والحكومات، بغية قيادة المجتمع إلى هدف واحد، هو (تجديد الهويّة الثقافية)(5)، على أن يُصبح هذا التجديد قضية تمس وجود الأمة، وتكشف الأخطار التي تهددها في عصر العولمة(6). ولا شكَّ في أن تعريب المجتمع هدف آخرُ سامٍ؛ لأنه يُسهم في تمين العلاقة بين اللغة العربية وهوية المجتمع، وفي تطوُّر الثقافة العربية و(تقدُّمها، وتطوُّر الحياة العلميّة في الوطن العربيّ، وفي إثراء اللغة العربية نفسها)(7). فإذا تحقَّق تعريب الحياة العربية سهل القول إن اللغة العربية أصبحت عنوان هوية المجتمع العربيّ وفكره واتصاله بحضارته وعقيدته. الإحالات: 1- د. عصام نعمان: (تجديد الفكر القومي أم الفكر العربي)، صحيفة الخليج، الشارقة، ع 10562، السبت 19/4/2008 (بتصرف) 2- انظر، على سبيل التمثيل لا الحصر، الكتب الآتية التي حلَّلت علاقة اللغة العربية بالقضايا والمشكلات التي طرحها القرن العشرون: - د. بنت الشاطىء ( عائشة عبد الرحمن): لغتنا والحياة (1971) - د. سمر روحي الفيصل: المشكلة اللغوية العربية (1992) - د. سمر روحي الفيصل: اللغة العربية الفصيحة في العصر الحديث (1993) - د. بن عيسى باطاهر: الدور الحضاري للعربية في عصر العولمة ( 2001) - د. رضوان الدبسي: أثر وسائل التقنية في تطوير تعليم العربية (2002) - د. سمر روحي الفيصل: قضايا اللّغة العربية في العصر الحديث (2007) 3- مركز زايد للتنسيق والمتابعة: العقل العربي بين مقدمات التنوير وإشكاليات تعريب قيم العولمة، أبو ظبي، 2001، ص 30 4- د. سعيد حارب: الثقافة والعولمة، دار الكتاب الجامعي، العين، 2000، ص 15 5- بن عيسى باطاهر: الدور الحضاري للعربيّة في عصر العولمة، جمعية حماية اللغة العربية، الشارقة، 2001، ص 58 6- المرجع السابق نفسه (بتصرف) 7- د. سعيد حارب: التعريب والتعليم العالي، جمعية حماية اللغة العربية، الشارقة، 2000، ص 44 جريدة الاسبوع الادبي العدد 1122 تاريخ 11/10/2008 | |
|