7 – حوار حول الصلاحية المنهجية للنموذج التحليلي المقترح:
هكذا، إذن، نصل –من خلال ما سبق عرضه- إلى دعم النموذج التحليلي المقترح، والذي يفترض أسبقية الآلية السياسية على الآلية الاقتصادية والثقافية في تحديد الأنساق المجتمعية في العالم الثالث، وبالتالي في تفسير وتحليل أوضاعها الراهنة. الأمر الذي يولي، بالاستتباع، أهمية شارطة للطرح السياسي لإشكالية التخلف والتنمية والتحديث في البلدان النامية، مع مراعاة اختلافاتها وتمايزاتها المتعددة.
غير أننا، وإن كنا نقر بنجاعة النموذج التحليلي الآنف، نظرا للحيثيات التي سبق أن قدمناها، فإن التشابك العلائقي المعقد لمجالات وأبعاد واختلافات المجتمع، أي مجتمع، يجعلنا نؤكد على ضرورة عدم الإغفال التام لتلك المجالات والأبعاد: البعد السياسي، البعد الاقتصادي-الاجتماعي، البعد الثقافي والإيديولوجي.
وإذا كنا مع الموقف الذي يرى أن مجتمعات العالم الثالث تتسم، بشكل أساسي، بهيمنة العلاقات السياسية، في المناخ الذي تقيمه الدولة الوطنية راهنا، على العلاقات الطبقية-الاجتماعية، والثقافية-الإيديولوجية؛ فإن هذا لا يعني، أبدا، أننا نرتكن إلى تفسير أحادي البعد، بل إن كل ما نرمي إليه هو، بالذات، التأكيد على أولوية نموذج تحليلي معين، وعلى نجاعته النظرية والمنهجية في إبراز محددات النسق ومكونات النسق الاجتماعي المبحوث. ونعتقد أن العديد من الأبحاث، والطروحات، والمقترحات النظرية لا تتنافى مع هذا الموقف، بل هناك تقارب متصاعد حول دعمه وتكريسه.
إن مشكل التخلف، بناء على النموذج الآنف، هو، في التحليل النهائي، مشكل سياسي يرجع إلى طبيعة الدولة الحالية في المجتمعات الثالثية، وهشاشة بنياتها المادية والرمزية، وما تكرسه من قيم وممارسات مهترئة وعاجزة عن القيام بأي إقلاع تنموي فعلي. إلا أن مشكل التخلف هذا لا ينحل، فقط، إلى علاقات سياسية موسومة باللاعقلانية في تدبير اختلافات الشأن المجتمعي العام، وبالاستغلال الطبقي، وضيق الأفق الإيديولوجي، وفقدان المشروعية وإعاقة أي مشروع طبقي-اجتماعي ومنعه من التبلور والانطلاق… أي إلى علاقات بنيوية داخلية وخاصة؛ بل يعود، أيضا، إلى عوامل خارجية مرتبطة، أساسا، بالاستعمار، بكل أشكاله ومستوياته ومستتبعاته.
وإذا كانت بعض المجتمعات النامية، مثل المجتمعات العربية، قد عرفت، منذ زمن طويل، مفهوما معينا وخاصا جدا لما يدعى بـ الدولة/الأمة التي شكلت حلفا وطنيا دافع ضد الأجنبي حفاظا على الهوية الذاتية المتميزة (كحالة المغرب ومصر فيما قبل عهود الاستعمار)؛ فإننا نرى، حاليا، أن اندماج التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية الثالثية في إطار علاقات التبعية، أو ما يسميه البعض: نمط الإنتاج الكولونيالي(21)، أو: التشكيلات الاجتماعية المحيطية(22) هذا الاندماج لم يتح لهذه المجتمعات فرصة التطور بالاتجاه الطبيعي نحو مآلات تاريخية يبدو من الصعب إمكان التنبؤ العلمي بمحدداتها مادمنا لا نتوفر على الشروط الكافية والموضوعية لمثل هذا التنبؤ.
بعيدا، إذن، عن اختزال مشكل التخلف والتنمية والتحديث في نمط الدولة الثالثية المعاقة، فإننا نتفق مع ما يدعى بـ: الاتجاه البنائي-التاريخي: L’orientation structuro-historique، والذي يرى "أن ظاهرة تخلف دول العالم الثالث تعود إلى نوعين من العوامل (أو الأسباب)، لا يزالان بحاجة إلى فهم عميق. العامل الأول خارجي مرتبط بالنظام العالمي الإمبريالي الذي يضمن للدول الراسمالية الصناعية المتقدمة مضاعفة احتكاراتها عن طريق استغلال الدول النامية والإبقاء على أوضاعها الراهنة… أما العامل الثاني فهو داخلي ومرتبط بطبيعة دول العالم الثالث وبناءاتها واستراتيجياتها، أي مرتبط بقدراتها على تحقيق الاستقلال الاقتصادي وإلغاء التبعية"(23).
وتأسيسا على ما سبق تتضح الأهمية المنهجية للمنظور الشمولي البنائي-التاريخي في تفسير واقع التخلف، كما تتضح أهمية الطرح السياسي لهذا الواقع في نفس الوقت. فالمشروع التنموي التحديثي هو، في العمق، قرار سياسي، واختيار اجتماعي ينبني على رؤية واضحة الأهداف مكرسة لجميع الفعاليات والإمكانات الاقتصادية والبشرية والتنظيمية لمحاربة التخلف والتبعية، وإحداث التغيرات التنموية والتحديثية المنشودة، في مختلف مجالات الإنتاج وتدبير الشأن المجتمعي العام.
"وهنا يبدو لنا الدور الهام الذي يمكن أن يلعبه الكادر السياسي في تحديد أهداف وأولويات النضال ضد التخلف، وتلك حقيقة إيديولوجية خالصة، ذلك أن النضال ضد التخلف مرتبط بتفاني الكادر السياسي في خدمة المصلحة القومية. وقد تفسر لنا هذه الحقيقة الركود الاقتصادي الذي تعاني منه كثير من الدول المتخلفة الغنية بالمواد الطبيعية. ولا يستطيع هذا الكادر السياسي أن يؤدي مهامه بنجاح دون مشاركة جماهيرية حقيقية، على أن يتم الارتفاع بمستوى وعي الجماهير إلى أقصى حد ممكن"(24).
ومن البديهي أن دولة ثالثية بكوادرها المتخلفة، ومرتكزاتها وامتداداتها، وبما ترسخه في المجتمع من قيم وإيديولوجيا وسلوك سياسي… لا تستطيع، بحكم ما توسم به مما قدمنا من سمات وخصائص، أن تسمو بالوعي الجماهيري إلى المستوى الذي تصبح معه قادرة على تكثيف هذا الوعي لصالح مسيرة تنموية تحديثية مدعومة بإيمان واقتناع الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة بأنها تخدم، في هذه المسيرة، قيما وممارسات ومصالح مشتركة. وبدل ذلك، تعمل دولة السلطات المطلقة هذه على إقبار كل المبادرات القاعدية المخالفة المتحفزة، وعلى إنهاك وإضعاف المجتمع المدني: Société civile بالعنف إلى حد التآمر ضده ضمانا لتأييد سيطرتها وإدامتها عوض أن تعمل على تقويته، وأن تكون سنده في تحقيق توازنه، وفض نزاعاته، وتوجيه طاقاته واختلافاته نحو الخلق والإبداع والمبادرة، وتكريسها لخوض الصراع ضد التبعية والتخلف بدل الصراع الذي تخلقه بين دولة استبعادية من جهة، ومجتمع متفكك متحلل، من جهة ثانية(25). وهكذا تفشل هذه الدولة في إيصال المجتمع إلى تحقيق أي توافق حقيقي بين مختلف شرائحه وتوجهاته الفكرية والسياسية والاقتصادية… الأمر الذي يبرز، على المستوى العملي، إخفاقها أيضا في بلورة أي صيغة عقلانية لتدبير عصري متحضر لدواليب ومكونات واختلافات ومصالح ومشكلات… المجتمع، وقضايا شأنه العام، كما يبرز ذلك، على المستوى الفكري، عجز هذه الدولة عن تأسيس أي ثقافة ديمقراطية معممة اجتماعيا، مكرسة لقيم الاختلاف والحوار والتبادل… ومتبناة من طرف مختلف المكونات والقوى الفاعلة في المجتمع.
وفي غمار أوضاع الانحلال الاجتماعي والخلقي هذه، وفي شرط غياب تلك الثقافة المجتمعية الآنفة الذكر، "تفقد كل القيم التقليدية والحديثة تماسكها وفعاليتها. وبفقدان هذه القيم، تفقد النشاطات جميعها معناها والفعاليات الاجتماعية والفردية بريقها. وعندما تفقد الحياة كل معنى، والنشاطات كل قيمة لا يرى الأفراد وسيلة لتحقيق ذواتهم لا في هذه المهنة ولا في هذا النشاط، لكن فقط في التوحد والتماهي مع السلطة، وفي طلب السلطة، وفي الصراع للوصول إلى أعلى قمة فيها. تصبح السلطة والتسلط هما القيم الوحيدة الممكنة، ويولد لدى كل فرد وفي روحه متسلط صغير. وفي هذه السلطوية المشتركة بين الأفراد والحكم يتحقق التماثل والتمثيل، وتجد ديكتاتورية الحاكم المطلق معناها"(26).
قد نؤاخذ من طرف البعض على هذه الصورة المأساوية –ولكنها الواقعية- التي قدمناها عن الدولة الثالثية. كما قد تنعت هذه الصورة بأنها تشاؤمية وتيئيسية في الوقت ذاته. غير أنه تجدر الإشارة إلى أن مجتمعات العالم الثالث –ومن ضمنها المجتمعات العربية بالطبع- لا تشكل كلا متجانسا ومتماثلا في تجاربه السياسية وأنماط الدول القومية/الوطنية القائمة.
ومع ذلك تبقى القواسم المشتركة التي ركزنا عليها حاضرة بكل ثقلها وتأثيراتها، منتظمة لأغلب دول العالم النامي، دون أن يمنع ذلك من وجود نماذج تنموية ثالثية رائدة لها مكانتها بالرغم من العوائق والكوابح الذاتية والموضوعية التي تعترض سبيلها(*).
ولعل الأوضاع الاجتماعية المهزوزة والمنحلة هي وقود الفكر النضالي الذي لا يعرف التشاؤم ولا اليأس أو التيئيس. ولعل في استعظام فداحة هذه الأوضاع ما يجعل النضال السياسي والثقافي والاجتماعي ممكنا، بل مشروعا وإلزاميا لبلورة إجماع وطني سياسي وثقافي عقلاني، وصياغة رؤية مجتمعية موحدة وهادفة للتغيير الذي يخدم المصلحة العامة المشتركة، ويحارب التفكك والانحلال. وبغير هذا النضال الواعي، الذي يبنغي أن يتحمل الجميع مسؤولية الانخراط فيه، سوف لن يتحقق لبلدان العالم الثالث أي إقلاع أو تنمية أو تحديث. أما كيفية تشكل هذا الوعي النضالي في ظروف الإحباط والتثبيط هذه، وما هي الشروط الضرورية لإنضاجه والدفع به إلى مداه البعيد؟ فتلك مسألة لم يكرس لها هذا البحث المجتزأ المحدود(27).
8 – تذكير ختامي:
نلح من جديد، بتحفظ شديد، وبحذر نظري ومنهجي مضاعف، على أنه إذا كانت هناك أهمية ما للنموذج التحليلي المقترح، والذي يعتمد الآلية السياسية كمحدد ومفسر للنسق المجتمعي العام، أي لأشكال وقنوات توزيع الاستفادة والمراتب: (المستوى الاقتصادي-الاجتماعي)، وتوزيع المعرفة والقيم والرموز:(المستوى الثقافي-الإيديولوجي) أقول: إذا كانت هناك أهمية ما لهذا النموذج، فإنه يجب، مع ذلك، إبعاد كل نظرة اختزالية لواقع المجتمعات الثالثية المبحوثة، والأخذ بمنظور تكاملي لكل أبعاد وجوانب المجتمع الأخرى غير الجانب الدولوي-السياسي. ذلك أن هذه الجوانب والأبعاد لا يقع الاختلاف، في تحديدها وتفسيرها للنسق المجتمعي، إلا في أهميتها النسبية، وعند مقاربة واقع اجتماعي عيني مشخص في الزمان والمكان. وإذا أدخلنا في الاعتبار كون مجتمعات العالم الثالث تتسم، كما سبق الذكر، بغياب مشروع مجتمعي واضح المقاصد والرؤيا، وبتنضيدات اجتماعية-طبقية غير بينة المعالم… اتضح لنا كم يكون مفيدا الأخذ بذلك المنظور التكاملي لشتى جوانب ومجالات المجتمع. وذلك حتى في إطار إعطاء الأولوية في التحليل والتفسير لجانب أو مجال دون آخر. إن هذا الهاجس النظري والمنهجي هو الذي كان يوجه –على مستوى الخلفية المنهجية- هذه الدراسة المتواضعة، والتي لم نكن نهدف من ورائها سوى إلى فتح حوار علمي حول قضية تعتبر، راهنا، من أبرز القضايا الشائكة في الفكر السوسيولوجي المعاصرn
المراجع:
أولا – المراجع العربية والمترجمة:
1 – إبراهيم سعد الدين (بإشراف): المجتمع والدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988.
2 – أحمد سمير (نعيم): (أثر التغيرات البنائية في المجتمع المصري خلال حقبة السبعينات على أنساق القيم الاجتماعية ومستقبل التنمية)، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، العدد الأول، السنة الحادية عشرة، مارس، 1983.
3 – الأزرق (مغنية): نشوء الطبقات في الجزائر…، ترجمة سمير كرم، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1980.
4 – أمين (سمير): المغرب العربي الحديث، دار الحداثة، بيروت، 1980.
5 – أمين (سمير): التطور اللامتكافـئ، دراسة في التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية المحيطية، ترجمة برهان غليون، دار الطليعة، بيروت، طبعة ثالثة، 1980.
6 – بادي (بيرتراند) – بيرنبوم (بيار): سوسيولوجيا الدولة، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة أولى.
7 – بالاندييه (جورج): الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، طبعة أولى، 1986.
8 – بركات (حليم): المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة ثالثة، 1986.
9 – بيوتي (جان مارك): فكر غرامشي السياسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1975.
10 – تورين (ألان): إنتاج المجتمع، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976.
11 – جماعة مؤلفين: السلطة والأساطير والإيديولوجيات، ترجمة كمال خوري، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980.
12 – جسوس (محمد): الدرس السنوي بالسلك الثالث، شعبة علم الاجتماع، تخصص النظريات الاجتماعية، الموسم الجامعي 1980-1981، (درس غير منشور، مع الاستئذان بالإشارة إليه).
13 – الحسيني (السيد): دراسات في التنمية الاجتماعية، دار المعارف بمصر، القاهرة، طبعة ثالثة، 1977.
14 – عامل (مهدي): أزمة الحضارة، أم أزمة البورجوازيات العربية، دار الفارابي، بيروت، طبعة ثالثة، 1981.
15 – العروبي (عبد الله): مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1981.
16 – غليون (برهان): (ملاحظات حول الدولة في المجتمعات النامية: آليات السيطرة والعنف)، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، عدد 14-15، آب-آيلول، 1981.
17 – غليون (برهان): بيان من أجل الديمقراطية، دار ابن رشد، بيروت، طبعة ثانية، 1980.
18 – غليون (برهان)، الوعي الذاتي، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، طبعة أولى، 1987.
19 – غليون (برهان): مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986.
20 – غليون (برهان): اغتيال العقل…، دار التنوير، بيروت، طبعة ثانية، 1987.
21 – شرابي (هشام): البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، طبعة أولى، 1987.
22 – شرارة، (وضاح): حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيين، دار الحداثة، بيروت، طبعة أولى، 1980.
ثانيا – المراجع الموضوعة باللغة الفرنسية:
1 - Bachrouch, T. : Les élites tunisiennes du pouvoir et la dévotion, Contribution à l’étude des groupes dominants : 1781-1881, Paris, 1972.
2 – Balandier, G. : Sens et puissances…, Ed. PUF, Paris, 1981.
3 – Balandier, G. : Sociologie actuelle de l’Afrique Noire, 3ème Edition, Paris, 1979.
4 – Balandier, G. : (Sous la direction…) : Sociologie des mutations, 3ème Edition, Paris, 1970.
5 – Berque, J. : Le Maghreb entre deux guerres, 3ème Edition, Seuil, Paris, 1962.
6 – Hermassi, B. : Etat et société au Maghreb…, Ed. Anthropos, Paris, 1975.
7 – Laroui, A. : Les origines sociales et culturelles du Nationalisme Marocain, Ed. Maspero, Paris, 1977.
8 – El Malki, H. : (Capitalisme d’Etat, développement de la bourgeoisie et problématique de la transition : le cas du Maroc), Revue juridique, politique et économique du Maroc. N°8 (Spécial), 1980.
9 – Miaille, M. : L’Etat de droit, Ed. Maspéro, Paris, 1976.
10 – Touraine, A. : Production de la société, Ed. Seuil, Paris, 1973.
11 – Touraine, A. : Les classes sociales dans une société dépendante, la société latino-américaine, Tiers-Monde, n°82 – 1975.