د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: اليسار المصري.. ويسار أمريكا اللاتينية! 28/10/2008, 2:05 pm | |
| اليسار المصري.. ويسار أمريكا اللاتينية! بقلم : د. وحيد عبدالمجيد تبدو أمريكا اللاتينية اليوم مختبرا يعاد فيه انتاج حركة اليسار بنجاح لا سابق له منذ مرحلة انتشار الاشتراكية في الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين. ولكن ما أبعد المسافة بين اليسار الآن في تلك المنطقة النابضة بالحيوية, ويسار الأمس, الذي هو أيضا يسار اليوم في كل ما عداها باستثناءات هنا وهناك.
ويستند يسار أمريكا اللاتينية علي حركته في أوساط الجمهور من خلال التنافس السياسي وصناديق الاقتراع. وبالرغم من أن مساحة الجمهور تختلف لدي يسار أمريكا اللاتينية من بلد إلي آخر, فهو أوسع نطاقا في كل الحالات من البروليتاريا التي دهمها التغيير, الذي حدث في الاقتصاد العالمي. ولايقل أهمية عن ذلك أن مرجعية يسار أمريكا اللاتينية هي في الواقع السياسي ـ الاجتماعي أكثر مما هي في المباديء الاشتراكية التي ثبت في هذا المختبر, أنها أكثر فاعلية, حين يتخذها المؤمنون بها بوصلة لحركتهم المفتوحة علي أفق واسع, وليس سجنا يمنع هذه الحركة أو يكبلها بما قد لاتطيقه. ومختبر هذا شأنه لابد أن يكون مفيدا لليسار في كل مكان خارج أمريكا اللاتينية. ولذلك فإذا صح أن فريقا من التحالف الاشتراكي في مصر يقوم بدراسة تجارب اليسار في أمريكا اللاتينية ستكون هذه خطوة في الطريق الصحيح بالنسبة إلي اليسار المصري.
ولكي تكون هذه الخطوة إلي الأمام فعلا ينبغي أن تكون الفروق بين أحزاب وحركات اليسار الناجحة في أمريكا اللاتينية واضحة بما يكفي.
فاليسار في هذه المنطقة متعدد المنابع والاتجاهات, كما أنه لايرتبط بمركز يتبعه ويدور في فلكه فلا موسكو هنالك ولا كومنترن. ولذلك نجد اختلافا واسعا بل هائلا في أوضاع البلاد التي يحكمها اليسار الآن, وفي أنماط القيادة فيها. فالرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا قد لايخطر في باله, مثلا أن يجري استفتاء من النوع الذي لجأ اليه رئيس أوكوادور رفائيل كوريا في آخر سبتمبر الماضي لتوسيع سلطته علي حساب البرلمان وزيادة أمد بقائه في الحكم.
وقل مثل ذلك عن رئيستي شيلي والأرجنتين اللتين لايستسيغ تكوينهما السياسي والفكري ما فعله رئيس فنزويلا, مثلا قبل مايقرب من عامين عندما سعي إلي تعديل دستور بلاده ليسمح بإعادة انتخاب الرئيس بدون حد أقصي. ولايعني ذلك أن هوجو شافيز الفنزويلي نسخة من كوريا الأوكوادوري. فتشاركهما في الميل التسلطي لايحجب افتراقهما في السياسات, سواء السياستين الاقتصادية والاجتماعية أو السياسة الخارجية. وقد يصعب فهم هذا الفرق في احد جوانبه الاساسية علي الأقل بدون ادراك المسافة بين فنزويلا الثرية بمواردها النفطية الهائلة وأوكوادور الفقيرة بل شديدة الفقر. ويبدو أن هذا الفقر يفرض علي اليسار أن يكون أكثر ابداعا في ابتكار آليات جديدة لمواجهته بخلاف ما قد يؤدي اليه الثراء من جمود وتكاسل وتفرغ للمعارك الدون كيشوتية التي يزداد اغراؤها في عصر ثورة الاتصالات. والحال أن الفضاء اليساري في أمريكا اللاتينية إنما هو أوسع مما يصل اليه خيال من يكتفي في مراقبة تجاربه بالعموميات. فاليسار في هذه المنطقة يجمع تحت لافتته الكثير من الفروق.. والفرقاء.
غير أن ما يصح الانتباه اليه ابتداء هو أن بين هذه الفروق الكثيرة فرقا لايمكن لراغب في الفهم, ومن ثم الاستفادة أن يغفله وهذا هو الفرق بين تيار اليسار الديمقراطي الذي يفترض أن يكون هو الأكثر الهاما وتيار اليسار القومي الشعبوي الأعلي صوتا.
التيار الأول الديمقراطي وصل إلي الحكم في بلاد أهمها البرازيل والأرجنتين والأورجواي وشيلي وبيرو. والتيار الثاني الشعبوي يحتل السلطة في فنزويلا وبوليفيا وأكوادور.
وهذا الفرق لايبدو أنه واضح بما يكفي لدي كثير من قوي اليسار في العالم, الأمر الذي يوقعهم في خطأ تأسيسي عندما يضعون يسار أمريكا اللاتينية كله في سلة واحدة, والخطأ هنا ليس فقط مفهوميا أو نظريا فإذا كان لليسار خارج هذه المنطقة أن يتفاءل بما يحدث فيها لابد أن يكون مبعث هذا التفاؤل هو صعود اليسار الديمقراطي وليس اليسار الشعبوي الذي مازال هو الأكثر إثارة لالهام كثير من اليساريين في مصر.
والعبرة هنا بالنتائج في علاقتها بالسياسات والآليات فإذا اخذنا مكافحة الفقر مثالا نجد ان اليسار الديمقراطي في البرازيل حقق نجاحا يفوق اليسار الشعبوي في فنزويلا بدون صخب ولاضجيج وبالرغم مما في هذه المقارنة من تبسيط ينبغي الاعتراف به يظل الفرق بين اداء لولا دي سيلفا وشافيز واضحا. وكم كان الرئيس البرازيلي اليساري العمالي الأصل ملهما لمن تابع حملته الانتخابية حين كان مرشحا لفترة ثانية في أواخر2006 وكم كان شجاعا وهو يعتذر لسكان المناطق التي لم تحظ ينصيب معقول في اصلاحاته الاجتماعية خلال فترة الرئاسة الأولي.
لم يملأ دي سيلفا الدنيا ضجيجا لنجاحه الكبير في خفض معدلات الفقر بمعدلات تجاوزت أقصي التوقعات. ولم يركز في خطابه الانتخابي علي انجازاته التي تستحق الاحترام. ولم يبحث عن شماعات إمبريالية وعولمية يعلق عليها الاخفاقات التي حدثت. وليس هذا هو فقط ما يميز اليسار الديمقراطي عن الشعبوي فالسياسة التعبوية التي ينتهجها كل من التيارين تختلف أشد الاختلاف من احدهما إلي الآخر. كما تتباين تفاصيلها من بلد إلي غيره. فاليسار الديمقراطي يعني قبل كل شيء بتعبئته قدرات وطاقات الشعب, وبالتالي رفع مستوي التعليم وإيجاد نخبة ممتازة علميا ومعرفيا وتشجيع المبادرات الخاصة وجذب الاستثمارات الأجنبية ضمن ضوابط معينة, بخلاف اليسار الشعبوي الذي يسعي إلي تعبئة مشاعر الشعب ضد الاعداء وشحن الجماهير بالغضب والسخط علي القوي المعادية.
ولكن عندما يتعلق الأمر بمواجهة حقيقية ضد هذه القوي, يكون فعل اليسار الديمقراطي أبلغ من كلام اليسار الشعبوي, إذ تسبب بعض سياسات البرازيل والأرجنتين ازعاجا لأمريكا مثلا يفوق كثيرا كل ما يترتب علي خطب شافيز وموراليس البوليفي.
ولاننسي من بين فروق كثيرة أخري أن بعض اليسار الشعبوي في أمريكا اللاتينية يعتبر قوميا متطرفا بالمعني العرفي أكثر مما هو يساري, كما هو الحال في بوليفيا حيث يعبر هذا اليسار عن طموحات الهنود السمر( السكان الأصليون) أكثر مما يحمل مصالح فقراء البيض في المناطق الشرقية. وليس هذا إلا غيضا من فيض فيسار أمريكا اللاتينية حافل بالتنوع مثلما هو شديد الالهام لمن يعكف علي در اسة تجاربه بعقل مفتوح ينفتح أيضا علي الاجتهادات الجديدة في الفكر الاشتراكي التي تهدف إلي تحرير كارل ماركس من تركة ورثته وتعيد قراءة فلسفته التي ابتذلت ومنهجه التي اختزل في المرحلة التي اطلق عليها انتصار الاشتراكية علي المستوي العالمي.
وفي تجارب أمريكا اللاتينية اساس يمكن الانطلاق منه لنصرة العدالة الديمقراطية في عصر قد لايطول انتظاره إذا أحسن اليسار وغير اليسار في مصر وبلاد أخري قراءة هذه التجارب. نشرت بجريدة الأهرام عدد 28/10/2008
| |
|