يا أهل مصر، يا من حافظتم علي تاريخكم محفوراً علي الجدران ومنقوشاً علي أوراق البردي، أنعي إليكم ابنكم ومؤرخكم رؤوف عباس، الذي أثري الحياة الأكاديمية في جامعتكم العريقة عقوداً طويلة، والذي بحث ودرس وكتب التاريخ الاجتماعي لأبناء عمال وطنكم، والذي جال وصال في كتابة تاريخ بلدكم، والذي كتب تاريخ جامعتكم الأم «جامعة القاهرة»، وأصدر كتابه القنبلة عن أوراق هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية، ودرس تاريخ الرأسمالية الزراعية في مصر، وقام بترجمة أعمال مهمة قدم لها بفكره الثاقب وأضافت تعليقاته علي هذه التراجم بعداً آخر رفع من قيمة العمل وأوضح أهميته ونقائصه.
لقد قضي ابنكم رؤوف عباس عشرات الساعات كل يوم لصيق كتبه، يقرأ ويفحص ويدقق ويبتكر من فنون التحليل والبناء العلمي ما جعله أكاديمياً عظيماً فذهب إلي اليابان ليقدم دراسة عن فترة مهمة في تاريخ اليابان ويؤسس مدرسة علمية هناك، ومنها سافر إلي الولايات المتحدة وهناك قام بالتدريس، وفي كل هذه الأماكن كان رؤوف عباس هو ابنك البار الذي حمل اسمك وكان خير ممثل لجامعتك الأم.
يا أهل الجامعة: أنعي إليكم أستاذاً ومعلماً أنشأ مدرسة أكاديمية جذورها عميقة في جامعة القاهرة، وفروعها منتشرة في كل جامعات مصر، إن أبناء رؤوف عباس أصبحوا أساتذة كباراً في كل مكان يحملون راية العلم والبحث، وكلهم يتكلمون عن الوتد الثابت في أرض مصر مدافعاً عن الأصول الأكاديمية وعن الحق أمام كل قوي الجهل والظلم والسطحية.
يا أهل مصر: أنعي إليكم أحد البنائين الكبار الذي قاد بمهارة وحنكة الجمعية التاريخية المصرية عبر سنوات لتحافظ علي مكانتها ومكتبتها العريقة، ووثائقها المهمة في زمن تم بيع كل شيء فيه. وكان لمكانته العلمية وسمعته ناصعة البياض، وتاريخ الجمعية التاريخية المصرية الأثر الأكبر في دعم شيخ إمارة الشارقة لبناء دار حديثة للجمعية في مدينة نصر، وهي الجمعية التي - تحت قيادة ابنك العزيز - قدمت الكثير والكثير لك يا مصر.
يا أهل مصر: أنعي إليكم المواطن البسيط رؤوف عباس الذي كتب سيرته الذاتية: مشيناها خطاً فكانت قنبلة أدبية اجتماعية تاريخية لها دوي شديد، أعيد طبعها مرات كثيرة لبساطتها وعمقها، لقد فضحت يا ابن مصر البسيط فساد الجامعة المرتبط بالفساد الأكبر في نظام الحكم، وأثرت ضجة كبري حتي قام بعض من ذكرتهم في كتابك باللجوء للقضاء الذي أصدر حكماً ببراءتك لأنك كنت دائماً المؤرخ الأمين الذي لا يقول إلا الحقيقة.
كانت هذه السيرة الذاتية بمثابة احتكاك كبير بين رؤوف عباس وشعبك يا مصر بعد أن كان محصوراً في دائرة الأكاديميين والمثقفين، فأصبح ملكاً لرجل الشارع الذي تفاعل معه وأحبه.
ومنذ تكوين مجموعة ٩ مارس كان رؤوف عباس عضواً بارزاً بها وكان صاحباً لعدد من الأفكار العظيمة التي نفذتها المجموعة، وكان رؤوف عباس - رحمه الله - مقرراً للجنة التي نظمت مؤتمر ٩ مارس السنوي في هذا العام وكان صاحب فكرة كتاب ٩ مارس عن استقلال الجامعة، وكان هو المحرر الرئيسي للكتاب، وبالرغم من اكتشاف المرض الخبيث في هذه الفترة فإن رؤوف عباس جلس ساعات طويلة متحملاً آلاماً رهيبة، لينهي تحرير الكتاب الذي صدر في ميعاده في ٩ مارس ٢٠٠٨.
أنعي إليكم رؤوف عباس الأستاذ والعالم والمؤرخ والوطني العظيم الصامد كالجبل في وجه تزييف التاريخ وقبل ذلك هو المصري البسيط والإنسان الجميل الذي يشعر بالمواطن الفقير ويحس بآلامه ويعبر عنه، وأخيراً هو الزميل العزيز في ٩ مارس الذي أعطانا أفكاراً وأحلاماً ورؤية للأمام.
إلي صديقي رؤوف عباس أقدم لك الاعتذار لأنني لم أتشرف بمعرفتك عن قرب إلا منذ سنوات قليلة، وداعاً أيها الرجل الجميل وسوف نفتقدك كثيراً.
نشرت بجريدة المصرى اليوم عدد الأثنين ٣٠/٦/٢٠٠٨