د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| |
د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| |
د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: رد: ذكرى الشاعر الكبير أمل دنقل 21/5/2009, 10:30 pm | |
| تـــابع - أمل دنقل بقلم: هانى ضوَّه بين يدي زرقاء اليمامة !! ويستمر أمل دنقل يصارع الواقع العربي بإنتاج شعري وكانت هزيمة يونيو 1967(النكسة) بداية الإنعطافة الحقيقية لدنقل نحو الشهرة ونحو الشعر، وفي الأيام الأولى للنكسة أو الهزيمة كان أمل دنقل يقرأ قصيدة ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) قبل النشر وهي قصيدة جريئة أكدت خطواته على طريق الشعر ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمرة بعد، متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا من ذي قبل في كثير من قصائده، وكانت عنواناً لأهم دواوينه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وكان بعضهم يحذره من نشر القصيدة، وفيما تبقى من عام 1967 وإلى أوائل السبعينات كانت القصيدة على كل لسان، فقد كانت تعبيراً عميقاً وصادقاً عن الموقف فيقول: أيتها العرافة المقدسة جئت اليك مثخنا بالطعنات والدماء أزحف في معاطف القتلي، وفوق الجثث المكدسة منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء أسأل يا زرقاء كيف حملت العار ثم مشيت، دون أن أقتل نفسي، دون أن أنهار ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة أعادت هذه القصيدة إلى الأذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الابداع الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام 1967 (النكسة) فلم يصدقه أحد إلا بعد أن حدثت الكارثة، وإذ أكد (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر تأتي التساؤلات في القصيدة لتجسد صوت المواطن العربي الذي ذبحته الهزيمة من جهة، وصوت الشاعر الذي خذلوه بعد أن حذرهم من جهة أخري، فتحدث الأبيات عن ذلك العبد العبسي البائس الذي دعي إلى الميدان والذي لا حول له ولا شأن، فانهزم وخرج من جحيم هزيمته عاجزاً، عارياً، مهاناً، صارخاً، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه، وإذا كان صوت هذا العبد العبسي شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة -العرافة المقدسة- شاهد على ما يمكن أن يفعله الشعر في زمن الهزيمة، خصوصا من حيث هي صورة أخرى من هذه العرافة: يرى ما لا يراه الآخرون ويرهص بالكارثة قبل وقوعها، وينطق شهادته عليها وقوعها، ويتولى تعرية الأسباب التي أدت إليها، غير مقتصر على الإدانة السلبية في سعيه إلى استشراف أفق الوعد بالمستقبل الذي يأتي بالخلاص . ويستمر الرفض.. وبعد ثلاثة أعوام تقريبا من وقوع الهزيمة التي مزقت حياة العرب المعاصرين رحل جمال عبد الناصر، وكانت وفاته أو بالأصح كان غيابه في الساحة العربية في مثل تلك الظروف الفاجعة هزيمة أخرى، وبعد رحيل عبد الناصر بأربعين يوماً التقى الشعراء العرب من مختلف الأقطار العربية لتأبين الزعيم الراحل وفي الاستراحة الجانبية للقاعة الكبرى للاتحاد الاشتراكي كان عدد من الشعراء والنقاد يقطعون الوقت في انتظار لحظة افتتاح الاحتفال التأبيني… انفجر أمل في الشعر الحديث بهدوء؛ لكن بنوع مرير من السخرية لم تتوفر كثيراً في هذا الشعر، وصارت هذه الخاصية من أرقى ملامح شعره، فيقول: (قيل لي أخرس) فخرست، وعميت وائتممت بالخصيان ظللت في عبيد "عبس" أحرس القطعان أجز صوفها أرد نوقها أنام في حضائر النسيان طعامي: الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة وها أنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان دعيت للميدان أنا الذي ما ذقت لحم الضان أنا الذي لا حول لي أو شان أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان أدعى إلي الموت .. ولم أدع إلي المجالسة يتحدث هذا الجزء من قصيده البكاء بين يدي زرقاء اليمامة عن عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة، وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه الى (زرقاء اليمامة) التي يعتبرها أمل كاهنه المستقبل ، كي ينفجر في حضرتها شعراً . ويواصل أمل دنقل في عهد السادات أقسى درجات رفضه الاجتماعي والسياسي, خصوصاً في ما سمي عام الضباب, وتأتي اتفاقية كامب ديفيد فيكتب أمل دنقل : "لا تصالح"، فيقول فيها: لا تصالحْ ! .. ولو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟ هي أشياء لا تشتري !!! لا تصالح على الدم .. حتى بدم لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ ؟ …. أقلب الغريب كقلب أخيك ؟ أعيناه عينا أخيك ؟! وهل تتساوى يدٌ .. سيفها كان لك بيدٍ سيفها ………. أثْكَلك ؟ وكان أمل بدأ يكتب (لا تصالح) من قبل توقيع الاتفاق النهائي, لا لأنه يرفض السلام وإنما لأنه يرفض الاستسلام, ويتطلع إلى سلام عادل يعيد جميع الحقوق لأصحابها, وإلا فلا لزوم له, ولا مفر من مواصلة الكفاح من أجل استعادة الأراضي السليبة كلها، وما أسرع ما تحولت (لا تصالح) إلى قصيدة قومية يرددها كل الرافضين للتنازلات التي قدمها السادات ثمناً للصلح مع إسرائيل، وكانت حِدَّة رفضه السياسي في ذلك الوقت مقرونة بالسخرية التي كانت تدفعه إلى كتابة أسطر من قبيل: أيها السادة: لم يبقَ انتظارْ قد منعنا جزيةَ الصمت لمملوكٍ وعَبْدْ وقطعنا شعرةَ الوالي (ابن هند) ليس ما نخسره الآنَ… سوى الرحلة من مقهى لمقهى ومن عارٍ لعَارْ!! وفي عام 1971 ينشر أمل دنقل ديوانه الثاني: "تعليق على ما حدث" ثم يأتي نصر 1973 وعجب الناس من موقف أمل دنقل الذى لم يكتب شعراً يمجد هذا النصر حيث يصدر ديوانه الثالث "مقتل القمر" عام 1974 دونما قصيدة واحدة تحدثنا عن النصر بل أنه يحذر ويتنبأ : ماذا بعد النصر؟، وفي 1975 يصدر ديوانه "العهد الآتى" الذى وصل فيه للقمة فى الشعر. وفي أحد أيام ربيع عام 1976 يلتقي أمل دنقل بالصحفية "عبلة الرويني" التي كانت تعمل بجريدة "الأخبار" فتنشأ بينهما علاقة حب قوية تتوج بالزواج 1978، ولأن "أمل" كان كثير التنقل والترحال فقد اتخذ مقرًا دائما بمقهى "ريش"، وإذا بالصحفية "عبلة الرويني" زوجة الشاعر الذي لا يملك مسكناً، ولا يملك مالاً يعدّ به السكن تقبل أن تعيش معه في غرفة بفندق، وتنتقل مع زوجها من فندق لآخر، ومن غرفة مفروشة لأخرى. أمل وبداية النهاية أصيب أمل دنقل بمرض السرطان الخبيث عام 1979 لكنه كان صاحب إراده عالية فى صراعه مع المرض، ودخل أمل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك مالاً للعلاج الباهظ الذي يحتاجه في مرضه، وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل الأصدقاء والمعجبين، وكان أولهم "يوسف إدريس" الذي طالب الدولة بعلاج أمل على نفقتها، وبالطبع كالعادة لم توافق الدولة على علاج الشاعر المعارض المشاغب لكن أصدقاءه أقاموا حمله لمساعدته فطلب أمل منهم التوقف عن حملة المساعدة. وظل أمل دنقل يكتب الشعر في مرقده بالغرفه رقم 8 بالمستشفى على علب الثقاب وهوامش الجرائد، ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه، حتى إنه يتم ديوانا كاملا باسم "أوراق الغرفة 8" نشرته زوجته بعد أربعين يوماً من وفاته بمساعده وزاره الثقافة ووصولاً إلى المحطة الأخيرة الأكثر خطورة حياة وشعراً, في (غرفة رقم بمعهد الأورام وهنا تبدو مفارقة أخرى في رحلة المفارقات الشعريّة عند أمل دنقل, مفارقة كما يقول النقاد تبدو قليلة في تاريخ الإبداع والمبدعين; وهي الكتابة على عتبة الموت القادم حتماً, حيث الشخص الموشك على الإنطفاء النهائي, ينهي مسار تحديّاته للحياة والزمن ويستكين إلي قَدره; وإذا ثمة كتابة فليست أكثر من شكوى قدريّة وبوح واسترحام بالمعنى البائس الذي يرتد إليه الكائن في لحظة الانكسار النهائي، في (غرفة رقم نقرأ كتابة مختلفة لأمل دنقل, استمراراً للرحلة الإبداعية برهافة وإشراق أكبر، خفّت تلك الجَلَبة في النص, وتعمق مكانها تأمل وجودي أكثر حضوراً عن ذي قبل في الحياة والموت والطبيعة. ومن الطفولة يتذكر (هل أنا كنت طفلاً أم أن الذي كان طفلاً سواي? هذه الصورة العائليّة كان أبي جالساً وأنا واقف تتدلى يداي رفسة من فرس تركت في جبيني شجا وعلمت القلب أن يحترس) ويمضي دنقل في تأمل الموت من خلال المشهد المحيط به, فيقول في قصيدة زهور حيث تتحدث له الزهرات الجميلة عن ساعة إعدامها لحظة القطف: تتحدث لي الزهرات الجميلة أن أعينها اتسعت –دهشة لحظة القطف لحظة القصف لحظة إعدامها في الخميلة *** تتحدث لي أنها سقطت من على عرشها في البساتين ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين أو بين أيدي المنادين حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة كل باقة بين إغفاءة و إفاقة تتنفس مثلي -بالكاد- ثانية .. ثانية و على صدرها حملت راضية اسم قاتلها في بطاقة !! توفى أمل دنقل يوم 21 مايو عام 1983 ودفن بمسقط رأسه فى "قفط" فى مقابر أسرته وأقيمت له جنازة بسيطة بحسب وصيته التى كانت أقصر وأشهر وصيه فى التاريخ الأدبى المعاصر .. سطرين فقط لا غير قال فيهما : "لا حزن ولا بكاء فقد حزنت وبكيت فى حياتى ما يكفى .. أوصيكم بأن تكتبوا على قبرى هذا قبر فلان ابن فلانه بن فلان وكل من عليها فان" تولت زوجته الوفيه عبلة الرويني الاشراف على طباعة ما أتمه من أجزاء جديد من قصيدته المطوله (البكاء بين يدى زرقاء اليمامة) بعنوان جديد هو (أقوال جديدة عن حرب البسوس) فى ديوان كامل صدر عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة عام 1985 التي أشرفت السيده عبله على أكثر من طبعة لها. صفات أمل الشخصية المتأمل لشعر أمل دنقل وقصة كفاحه يستطيع أن يستشف بعضاً من صفات هذا الشاعر المتبتل في محراب الشعر، فأهم ما يميز أمل دنقل الحس العالي بالرجولة, الكرامة التي لا تقبل التنازل مهما كان هيناً, الاعتزاز بالنفس إلى أبعد حد, الترفع عن الصغائر, الوفاء النادر, الإخلاص الحقيقي, المحبة الخالصة, النهم المعرفي الذي لا يهدأ, روح الانطلاق التي لا تعرف السكون, رغبة المغامرة التي لا تخشى شيئاً, الوعي السياسي القومي الذي لا يقبل المهادنة ويرفض الاستسلام, احتقار المال على رغم الحاجة إليه, تقديس الشعر بصفته الفرح المختلس الذي يمنح الحياة معنى, الجسارة المتناهية في كتابته, والشجاعة القصوى في التعبير عن الرأي أو السلوك مهما كانت العقبات. كان أمل دنقل يرى عبر أقنعته وأساطيره التي يمتاز بها شعره ما سيؤول إليه الوضع العربي, من رعب وانحدار تتواضع أمامه أعتى المآسي في التاريخ وأكثرها هولاً. رومانسية أمل دنقل يظن الكثيرون أن شعر أمل دنقل كان سياسياً فقط، غير أن شعر أمل الرومانسي يقترن دائما بتوهج لحظات الحب القليلة التي مر بها، والتي جعلته يدرك أهمية المرأة في حياته، ويخلص لها ويغفر لها زلاتها، ما ظل مقتنعا بطيب عنصرها، ومؤمنا بالامكانات الخلاقة التي تنطوي عليها، ولذلك كانت المرأة التي أحبها هي الحضور الدائم الذي يمنح الحياة بهجتها، رغم كل عذاب الحياة، وكل إخفاقات الحب في الوقت نفسه، فنجدة يقول : دائما أنت في المنتصف أنت بيني وبين كتابي وبيني وبين فراشي وبيني وبين هدوئي وبيني وبين الكلام ذكريات سجني وصوتك يجلدني ودمي قطرة ـ بين عينيك ـ ليست تجف نجد في شعر أمل الرومانسي معاني جميلة، وتعبيرات مؤثرة، فيقول في قصيدة طفلتها من ديوان مقتل القمر بعد أن مرت خمس سنوات على وداع حبيبته وفجأة.. رأى طفلتها: لا تفّري من يدي مختبئة .. خبت النار بجوف المدفأة أنا.. (لو تدرين) من كنتِ له طفله لولا زمان فجأة كان في كفي ما ضيعته في وعود الكلمات المرجأة كان في حبي لم أدر به .. أو يدري البحر قدر اللؤلؤة؟ إنما عمرك عمر ضائع من شبابي في الدروب المخطئة "ضدّ من" عنوان قصيدة لدنقل يلخص فيها معاناة البشر بقوله "ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟"، في القصيدة يحتار دنقل بين السواد والبياض ومدلولاتهما وهو على سرير الموت والمرض، ولكنه يستقر مؤخراً على لون الحقيقة.. لون تراب الوطن: في غرف العمليات كان نقاب الأطباء أبيض لون المعاطف أبيض تاج الحكيمات أبيض الملاءات لون الأسرة , أربطة الشاش والقطن قرص المنوم , أنبوبة المصل كوب اللبن كل هذا يشيع بقلبي الوهن كل هذا البياض يذكرني بالكفن فلماذا إذا مت يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد هل لأن السواد هو لون النجاة من الموت لون التميمة ضد الزمن بين لونين استقبل الأصدقاء الذين يرون سريري قبرا يرون حياتي دهرا وأرى في العيون العميقة لون الحقيقة لون تراب الوطن كان هذا هو أمل دنقل شاعر الفقراء والمهمشين في الحياة, إنه الأيقونة في عصر فقد براءة الأشياء وركض خلف السراب .. أمل دنقل الشاعر العربي المصري الذي غاب عنّا منذ 33 عاماً تاركاً لنا "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة","تعليق على ما حدث","مقتل القمر","العهد الآتي","أقوال جديدة عن حرب البسوس","أوراق الغرفة 8" وهي آخر مجموعة شعرية مصارعا الموت بالأمل والصمود . | |
|
د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| |