غداة تنصيب الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي، كأول رئيس أيرلندي كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية عام 1960، علق شقيقه روبرت كيندي بأنه خلال ثلاثين عاما سيتمكن أميركي أفريقي أن يفوز ويحتل هذا المنصب. لكن هذا التوقع أو التنبؤ استغرق حوالي خمسين عاما ليأتي بعد ذلك باراك أوباما ويدخل البيت الأبيض كأول رئيس أميركي من أصل أفريقي، ويفتح فصلا جديدا من التاريخ الأميركي.
يرى الكاتب أريك جي. ساندكويست، مؤلف كتاب «حلم كنغ»، أنه من جانب كانت هناك انتصارات وإصلاحات تقدمية، ومن جانب آخر هناك خشية من أن «يتكلس حلم مارتن لوثر كنغ» وتقف العقبات والمشاكل حائلا أمام تقدم السود. ستون عاما مضت على عمليات العزل العنصري حينما كانت أغلب المدارس تمارس العزل بين السود والبيض، ولا يسمح إلا لقلة قليلة من السود بالانتخاب، وتسعة وعشرون ولاية، من أصل ثمانية وأربعين، تحظر الزواج بين السود والبيض، كالذي حصل بين والد أوباما وزوجته الأميركية. في الواقع، ليس بوسع أحد أن يتصور فوز أوباما دون ذكر القوانين التي وضعت حدا للتمييز العنصري السابق في القوات المسلحة عام 1948، على الأقل شرعيا إن لم يكن دائما، ثم قوانين التعليم الرسمي لعام 1954، وقانون الحقوق المدنية لعام 1964، وقانون حقوق الانتخاب لعام 1965، ثم تطورها لاحقا عبر المكاتب الحكومية والتجارة والتعليم. ويعزو الكاتب كل هذه القوانين التي تحققت إلى الدور المهم الذي لعبته التظاهرة الضخمة التي بلغ عدد المشاركين فيها ما يقرب من ربع مليون ملوّن وأبيض أميركي، التي اتجهت نحو واشنطن العاصمة في أغسطس (آب) 1963، وخطاب مارتن لوثر كنغ الشهير، «لدي حلم..». هذه التظاهرة وهذا الخطاب لم يزلا يُستشهد بهما حتى الآن كلما دار الحديث عن التمييز العنصري في أميركا.
في الثمانينات من القرن الماضي قامت مجموعة من الأساتذة رفيعي المستوى من الجامعة الأميركية، باستفتاء على خطاب كنغ «لدي حلم» فوجدوا أنه حصل على ثمانية وثمانين في المائة من مجموع الأصوات التي تم استفتاؤها، فيما حصل خطاب غيتسبيرغ لإبراهام لنكولن على أربعة وسبعين في المائة، واستقلال أميركا على ستة وستين في المائة. وفي عام 2008، كان من الممكن أن يحصل خطاب كنغ على ثمانية وتسعين في المائة بين أوساط الشباب الأميركيين.
إن تسليط الضوء على الجذور التاريخية واستمرار نضال السود شكلا ومضمونا واستخدام خطاب كنغ، هي العناصر التي تميز الكتاب الجديد لساندكويست، الذي أنجز حقا واحدا من أهم الكتب التي تتعلق بموضوع المساواة العنصرية ابتداء من الأيام الأولى للجمهورية الأميركية وحتى قرارات المحكمة العليا الحالية.
إن نشر «حلم كنغ» على غلاف مجلة «نيشن» الليبرالية اليسارية، الذي نشرته وقت تنصيب جورج دبليو بوش رئيسا للولايات المتحدة الأميركية في ولايته الأولى عام 2001، تظهر صورة رمزية عن رؤيا كنغ. إنها تصور حلم كنغ وقد تحوّل إلى كابوس حينما ضمّ بوش إلى إدارته كولن باول وزيرا للخارجية وكونداليزا رايس مستشارة للأمن القومي كأول أسودين في الإدارة الأميركية. إن ذلك يعني، بالتأكيد، أن كنغ، وهو في قبره، سوف لا يرتعب فقط بسبب انتخاب بوش رئيسا، ولكن أيضا، وبشكل خاص، بسبب تعيينه أسودين محافظين في إدارته. يكتب ساندكويست «إن الوجود الفعلي للسود مثل باول ورايس، يبدو هنا مناقضا للتوقع بأن العنصر - على الأقل إن كان ذلك الشخص أميركيا أفريقيا - هو الذي يحدد معتقدات الفرد ورؤاه السياسية»، أي أن هذه النسخة «نسخة بوش» من حلم كنغ تحظر التنوع الآيديولوجي بين العناصر وتهمش الشخصية بسبب اللون وتناقض ما يقوله مارتن لوثر كنغ من أن الأطفال ينبغي أن لا ينظر إليهم «من خلال لون البشرة، وإنما من خلال محتوى ومضمون شخصيّاتهم».
الجدير بالذكر أن كنغ ارتجل معظم فقرات خطاب «لديّ حلم»، التي لم تكن موجودة في نص خطابه الأصلي المعد مسبقا بالاتفاق مع الكنيسة الأفريقية - الأميركية. لذا فإن حلم كنغ، مثلما هو حلم الأميركيين ذاته، ظلّ قيد التفسير والتفنيد حتى اليوم، سواء من قبل اليمين أو اليسار، وذلك بسبب أن هذا الحلم يتمتع بحضور زمني دائم، وفي نفس الوقت أن كنغ نفسه كان قد تكلم بأصوات وأوقات مختلفة.
فريدريك دوغلاس، وهو أحد الأسلاف الأميركيين - الأفريقيين القدامى رسم بشكل جيد الحال التي كان عليها إبراهام لنكولن «على ضوء عملية إلغاء حقيقي للرق، يبدو السيد لنكولن بطيئا، باردا، معتما ومختلفا، ولكن من منظور رأي بلده، وهو رأي ارتبط به كرجل دولة، يبدو متحمسا، متطرفا وعازما».
في عام 1864، كتب لنكولن إلى رئيس تحرير صحيفة «كنتوكي»، ألبرت هوجز، قائلا «من الطبيعي أنني ضد العبودية.إن كانت العبودية ليست خطأ، إذن فليس هناك من شيء خطأ». ومن هنا، وجد لنكولن نفسه مرتبطا من خلال الدستور بمعارضته للعبودية. وهكذا فعل من بعده مارتن لوثر كنغ في معارضته للتمييز العنصري. وكانت الأغلبية الساحقة من الأميركيين الأفارقة تشارك مارتن لوثر كنغ وإبراهام لنكولن رؤيتهما. ففي عام 1963، نظمت مجلة «نيوزويك» استفتاء حول الأميركيين الأفارقة، فكان موقع مارتن لوثر كنغ الأول بين أربعة عشر زعيما أسود، إذ حصل على نسبة ثمانية وثمانين في المائة من مواطنين عاديين، وخمسة وتسعين في المائة من زعماء سود آخرين. ومعروف أن السود دائما ما أعطوا أصواتهم وبشكل ساحق للمرشحين الجمهوريين من لنكولن وما بعده حتى انتخاب كيندي عام 1960.
إن تحركات كنغ لم تنل النجاح، ليس بسبب مثلها العليا وأحقيتها فقط، وإنما أيضا بسبب تكتيكاتها الناجعة. ويشير المؤلف إلى أن كنغ «جاء في عصر الأخبار التلفزيونية»، واستطاع مع الرئيس كيندي أن يدرك سريعا الأهمية السياسية للإعلام، وأن يستفيدا من ذلك إلى أقصى حد. إن قوة الحلم تحتاج إلى قوة صور التلفزيون، مثل صور كلاب شرطة ألاباما وهي تهاجم تظاهرات الحقوق المدنية السلمية لكي تهز مشاعر الرأي العام الذين يقفون خلف التظاهرات. مثل هذا التفكير شجع على الشروع بوضع خطة تظاهرة واشنطن نفسها من قبل كنغ وزعماء آخرين مثل بايرد رستين «العقل المدبر المنطقي للتظاهرة». إن رستين وآخرين أبدوا اهتماما كبيرا حول كيفية تغطية الإعلام للحدث «التظاهرة»، وأصروا على أن التظاهرة ينبغي أن تتجنب العنف وأنواع الشعارات المتطرفة التي يمكن أن تبعد الدعم الشعبي. وكان منظمو التظاهرة من مختلف الأجناس والديانات، وكان ثلث الجمهور يتألف من البيض. مثل هذا المزيج من الناس كان بالتأكيد يتناسب وجوهر خطاب كنغ بمضمونه «كلكم أبناء الله، سود وبيض بروتستانت وكاثوليك...».
في الفصل الأخير والمثير، يروي الكاتب قصة صراع أميركا الطويل مع الحقوق المدنية والمساواة العرقية منذ البدء وحتى الآن، متناولا بشكل خاص مواضيع التفرقة العنصرية وتطورها، منذ التركيز على مسألة تساوي الفرص وحتى مسألة التعويضات التي كثيرا ما ينظر إليها على أنها «تفضيل عرقي». ويجد ساندكويست ثمة إشارة إلى ما يمكن أن يكون عليه موقف كنغ الآن من خلال قراءاته رسالة من كنغ كان قد بعثها إلى محرر بيانه الرسمي حول «لماذا لا نستطيع أن ننتظر». ويقول فيها «أية وثيقة لحقوق السود ترتكز على مبدأ المعالجة التعويضية، يجب أن تعطي تأكيدا كبيرا على تخفيف الأثر الاقتصادي والثقافي العكسي على قسم من العمال البيض ممن لم تتغير ظروفهم الاقتصادية بذلك الشكل الذي تغيّرت به ظروف إخوانهم السود». نشرت بجريدة الشرق الأوسط عدد 14/2/2009