من منا لم يحب ؟
من منا لم تمسه النعمة الإلهية – ولو مرة واحدة على الأقل – فى حياته لمجرد أنه أحب ؟، من منا لا يتذكر تلك اللحظات السعيدة فى حياته حينما يشعر بأنه يحيا من أجل شخص ما ؟ ، من منا لا يعرف تلك الحياة العميقة المليئة بالخصب التى كنا نحيا فيها لنحب ونحب لنحيا ؟ ، من منا لم يشعر يوماً أن لحظات الحب القصيرة المختلسة من عمر الزمن هى وحدها التى استطاعت أن تخلع على حياته الوهمية الخادعة كل ما تنطوى عليه من حقيقة ومعنى وقيمة وحيوية ؟ ، من منا لا يعود بذاكرته فى سعادة على تلك الواحات الضائعة من الطهارة والنضارة والسحر والشعر، لكى يستمتع بعذوبة تلك الذكريات الجميلة التائهة فى بيداء الروتين اليومى الفظيع، وكأنما هى جنات من السحر والبراءة والصفاء فى وسط صحراء الكذب والتصنع والرياء ؟ ، من منا لم تتفتح عيناه يوماً لتريا أن الحب هو الحياة ؟.
إن الحب أشبه ما يكون بالنور؛ جميعنا يعرفه، ولكن أحداً منا لا يستطيع أن يقطع على وجه التحديد بالعناصر المكونة والحب هو السر الأعظم فى وجود كل الموجودات، والحب كما يقول الشاعر الإيطالى العظيم "دانتى" قوة كونية كبرى لأنه هو الذى يحرك الشمس وباقى الأجرام السماوية. الحب هو مركز الحياة، ومنبع المعنى والسعادة، وهو الجواب الوحيد على إشكالية الوجود. والحب هو المبدأ والمنتهى فى قصة الحياة، وهو القيمة الوحيدة التى تخلع على كل القيم كل ما لها من قيمة !!.
الحب هو سر الوجود، حتى أننا يمكن أن نقول أن تاريخ البشرية باسرها يمكن ان يكتب بلغة الحب. فكل الديانات السماوية جاءت لتنادى بالحب والسلام، وليس هناك فيلسوفاً أو أديباً أو صوفياً لم يغن للحب ويكتب له وعنه وبه، وليس هناك شاعر إلا وصنع من الحب أجمل لوحات شعره الخالدة.
وما أكثر المحبين فى تاريخ البشرية، والذين وعتهم ذاكرة التاريخ: أنطونيو وكليوباترا، عطيل وديدمونة، إيزيس وأوزوريس، روميو وجولييت، قيس وليلى، كُثِّير وعزة، عنترة وعبلة، جميل وبثينة، حسن ونعيمة، وغيرهم كثيرون وكثيرون ممن عبروا جسور المحبة دون أن يتركوا وراءهم بطاقة تحمل توقيعهم.
ولكن رغم كل هذا، وكل هؤلاء، فما من أحد استطاع ان يدلنا على ذلك السر الغامض الذى يجعل من الحب قوة خفية قادرة على صنع المعجزات وتغيير وجه التاريخ، حتى أن ابن حزم الأندلسى عندما أراد تعريف الحب لم يملك إلا أن يقول: (دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك إلا بالمعاناة) !!. نعم فإنه لا يدرك سر الحب إلا من عاش للحب، واختلط بدقات قلبه وخالط أنفاسه ودموعه ودماءه، لا يعرف معنى الحب إلا من ذاق الحب. والحب كما يقول "بلزاك" مفتاح كل ما هو عظيم فى الحياة الإنسانية، وسر أسرار الوجود، الذى سيظل مغلقاً أمام أعداء المحبة ولا تتفتح كنوزه إلا لمن أحب، أو كما يقول الصوفية: (من ذاق عَلِم).
وربما كان أعجب ما فى الحب – كما يقول الدكتور زكريا إبراهيم فى كتابه (مشكلة الحب) – أنه جماع ما فى الوجود من متناقضات؛ فالمحبون يميلون إلى العزلة، وينصرفون عن الناس وينأون عن العالم، ومع ذلك فإن الحب وحده هو الذى يسمح لنا أن نفهم العالم وندرك الطبيعة ونحب سائر البشر، وربما كان التناقض الأكبر الذى يقع المحبون فريسة له هو تناقض اليأس والأمل أو الموت والحياة أو الألم والسرور، فالمحبون من جهة يشعرون أن اليأس حليف الحب، وأن كل حب عظيم وثيق الصلة بالموت والفناء، ومع ذلك فإننا نلاحظ من جهة أخرى أن المحبين يقرنون حبهم بالأمل ويحيون من أجل المستقبل، ويربطون سعادتهم بسعادة الآخر أو الحبيب.
ولعل من أجمل ما كُتب عن الحب ما ذكره الشاعر والصوفى الكبير جلال الدين الرومى حيث يقول: سأقول لك كيف خُلق الإنسان من طين، ذلك ان الله – جل جلاله – نفخ فى الطين أنفاس الحب. سأقول لك لماذا تمضى نجوم السماء فى حركتها الدائرية، ذلك أن عرش الله – سبحانه – يملؤها بانعكاسات الحب. سأقول لك لماذا تهب رياح الصباح، ذلك لأنها تريد دائماً أن تعبث بالأوراق النائمة على شجيرات الحب. سأقول لك لماذا يتشح الليل بغلائله، ذلك أنه يدعو الناس إلى الصلاة فى محراب الحب. إننى لأستطيع أن أفسر لك كل ألغاز الخليقة، فما الحل لكل الألغاز سوى الحب.
(نشرت فى جريدة الأهرام المسائى المصرية بتاريخ 8/11/1998م) ص 8