د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: الشخصية المصرية وموروثات التاريخ والجغرافيا 3/12/2008, 10:59 pm | |
| الشخصية المصرية وموروثات التاريخ والجغرافيا دراسة بقلم/ د. محمد رياض - أستاذ الجغرافيا كلية الآداب- جامعة عين شمس
موضوع الشخصية من الموضوعات شديدة الصعوبة لأنها تقيس اتجاهات بدون مقياس ودون متوسط فوقه أو تحته. كما انها تسجل انفعالات قد تكون وقتية لفرد واحد ويمكن تغيرها لنفس الفرد في ظل مجموعة ظروف أخري في مواجهة نفس المواقف. ومع ذلك يمكن مراقبة نفس الانفعالات لشخصيات عديدة تمثل مجموعة بشرية سواء كانت عائلة أو مجموعة قرابة نسب أو عشيرة أو قبيلة أو سكان إقليم معين. بمعني أن عملية إدخال الفرد في مجموعة حياتية أو ما يمكن أن نطلق عليه انضمام الفرد لمجتمعهSocialization هي أساس تكوين الشخصية للفرد والمجتمع معا. وقد يحل التعليم الحديث أو الأيديولوجيات السائدة لمجتمع ما محل تلك المدخلات, مؤسسة بذلك علي نطاق خارج علاقة الدم والنسب, كالدين أو المذاهب أو النظام الفكري الذي يربي عليه الأفراد. وقد نجترئ فنقول أن الشخصية هي جمع التفاعلات التي تحدد حركة وفعل تجاه مواقف معينة معظمها معنوي مثل الكرامة, الرجولة, الخنوع, الذل, الإهانة, الثأر, الخ.. وهذه التفاعلات تحدد شخصية الفرد أو الجماعة أو مجموعة إقليمية أو أقلية أو الأمة بأسرها أو مجموعة شعوب داخل إقليم متشابه الظروف الحياتية والعقيدة. وهناك أيضا مجموعة تفعيلات لفرد أو جماعة تستمر وتصبح منوالا موروثا للاتجاهات والأفعال مثل قوة البأس أو شهوة السلطة والتفرد أو سيادة الروح العسكرية مع تبجيل قيمة العنف الامبريالي أو قوة المال والسيطرة الاقتصادية, مما ينجم عنه سمة لشخصية شعب ما. وكثيرا ما وصفت الشعوب بشخصيات معينة كالسويسريين بأعمال البنوك والإنجليز بالتفكير النفعي والألمان بالدقة العلمية والتنظيمية, أو في الماضي استناد الأقليات الي التميز بقوة ما, كالمال أو البراعة الحرفية أو استناد قوي الاستعمار الي قوة عسكرية وإدارية وتابعية اقتصادية معا مثل الامبراطورية الرومانية. وهذه كلها أضافت عفويا و تلقائيا شخصية معينة لهذا الشعب أو ذاك. فالهولنديون فلاحون وملاحون والفينيقيون وسطاء وبحارة والاغريق مدنيون وتجار مهاجرون متوطنون والمصريون فلاحون علومهم تجريبية نفعية... الخ. ونضيف في الوقت الحاضر تأثيرالالتحاق والقناعة بمؤسسة ناشطة في اتجاه أو آخر كالعدالة والمساواة أو حقوق المرأة أو أيديولوجية فكرية وحزبية أو استعادة جذور الماضي' الجميل'... الخ. وهذه المجموعة الأخيرة من مؤثرات الشخصية تتسم بأنها عالمية أكثر منها قومية أي أنها تعبر الحدود الوطنية إلي إطارات إقليمية واسعة كالعالم العربي او الغربي أو الإسلامي أو النامي وبالتالي تتعدد الشخصيات داخل الدولة الواحدة بين الانفتاح والانغلاق.
الشخصية المصرية المحلية: وفي مصر شخصيات عامة ومحلية. الشخصية المصرية المحلية هي تلك التي نجدها تختلف إقليميا أو محليا بين سكان المدن والريف أو بين سكان الدلتا والصعيد وبين سكان المواني( الإسكندرية ودمياط وبورسعيد والسويس), وسكان مدن الداخل كطنطا أو الزقازيق ودمنهور وبين أسيوط وغيرها من المدن المجاورة. ويتلخص كل هذا في بعض مصطلحات معروفة تصف شخصيات ذات سمات محلية كالصعايدة- البحاروة- المصاروة( القاهرة)- السوايسة- الدمايطة- المناصرا- الأسايطا- الفييامية... الخ. ولسنا في حاجة الي كثير من الشرح في هذا المجال. فكلنا يعرف الكثير عن اختلاف الشخصية المصرية المحلية عبر عشرات الأمثال والأقوال والنكات مما لا يحتاج لحصر. وليست هذه صفة مصرية بل هي غالبة علي كل الشعوب. علي سبيل المثال بين الشامي( الدمشقي) والحمصي والحموي والحلبي في سوريا وبين الطرابلسي والبيروتي والزحلاوي في لبنان وبين البافاري والسكسوني في ألمانيا والفيناوي والتيرولي في النمسا وبين الإنجليزي والويلشي في بريطانيا وبين اليانكي والديكسي في الولايات المتحدة والماندرين والبكيني في الصين, وهكذا دواليك.
الشخصية المصرية العامة: الشخصية العامة غالبا هي تلك السمات التي تنسجم مع الأطر الوطنية بمعني أنها لا تظهر طوال الوقت, بل تبدو خامدة ثم تتقد مرة واحدة في حالات الدفاع عن الوطن وكيانه الخارجي والداخلي. الكيان الخارجي واضح كأن ندافع عن استقلال الوطن عسكريا وسياسيا, وكأن نحس بالظلم نتيجة ممارسة القوي الكبري مواقف غير عادلة تجاه قضايا الوطن. لكن الاحساس بالظلم لا يبني شيئا إذا كان انفعالا وقتيا غير منظم, وبالتالي هو انفعال غير مفيد مثل مقاطعة بضائع أو خلافه. لكنه يصبح قوة مفيدة تسند سياسة الدولة في مواجهة مشاعر الظلم إذا انتظمت مشاعر الناس وتضخم الإحساس بها حتي يصبح موجة شعبية قد تؤدي الي تعديل الموقف ولو جزئيا. وعلي وجه العموم فإن الأحاسيس والمشاعر حسابها قليل في السياسات الخارجية لكتل العالم المختلفة, فالسياسة لا قلب لها ومن ثم قد تجرحها موجات الغضب مرحليا لكنها لا تعدلها ما لم تتغير أسس السياسة' نسبيا' بتغير أوضاع تلك القوي, كأن يأتي الديموقراطيون بدل الجمهوريين في أمريكا أو العمال بدل المحافظين في بريطانيا. أما الكيان الداخلي للدولة, فهو المجال الأكبر للشخصية المصرية لأنه يتعامل مع مواقف ومؤسسات قائمة, وبالتالي فهي محسوسة بصور مختلفة بين الناس لأن الجميع يعرف تلك المواقف ويتحرك بردود فعل إزاءها, مثلا كالموقف ازاء أزمة القضاة. أيا كان التنظيم المسئول عن هذا التساند للقضاة, فإن الأغلب أن كثيرا من المساندين كانوا يرون أنها قضية هامة في البناء الداخلي. كما أن هناك عداء معروفا لدي جانب غير يسير من الناس ضد العسكر, وهو عداء قديم لأسباب أكثرها غير مدرك بكفاية لكنه تراث لأن العسكر هم قوة الضغط من جانب الدولة, إما علي الحرية أو دفع الضرائب أو حجز الأفراد بسبب أو بدونه.
| |
|
د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: رد: الشخصية المصرية وموروثات التاريخ والجغرافيا 3/12/2008, 11:03 pm | |
| تابع .. الشخصية المصرية وموروثات التاريخ والجغرافيا ثقافات وشخصيات فوق بعضها: في مصر حيث تاريخ الاستيطان للمصريين طويل جدا, أصولهم غالبا أصول سكان شمال أفريقيا( السابقين للبربر) دخلت عليهم جماعات مختلفة الأصول من أفريقيا وآسيا( العهود القديمة) ومن آسيا وأوروبا( آشوريون وفرس وإغريق ورومان وعرب وكرد وجركس وترك), لكنهم تداخلوا وهضمتهم مصر الأرض والحضارة. ولا شك أن كل هؤلاء تركوا بصمات علي الشخصية, لكنها تذوب مع الأصل وتتشكل من جديد علي الدوام بحيث لا تظهر سوي بصمات الجماعات الأحدث في بعض مظاهر الشخصية وبخاصة المجموعة العثمانية التي ضمت أتراكا وأرمن وأكرادا وجركس. ومعظم هؤلاء سكنوا المدن وأثروا فيما عرفناهم في القرن الماضي باسم أولاد البلد بتنظيمات وخصائص لغوية وفتونة وشهامة وعصبية الحارة( ومنها شيخ الحارة), إلا أن ذلك ذاب منذ أربعينات القرن الماضي في خضم انتشار التعليم وفقدان العصبية المكانية بالسكن في أحياء جديدة خارج بولاق والقاهرة المملوكية من باب الشعرية والدرب الأحمر الي الخليفة والسيدة. ومثل ذلك في المدينة الكبري الثانية حيث كانت منطقة الرمل سكنا للأجانب مقابل أحياء الإسكندرية القديمة في الأنفوشي والمنشية وكوم الدكة والقباري وكوم الشقافة, حيث أولاد البلد الذين زحفوا علي الرمل تدريجيا الي أن صارت للأسكندرية لهجتها وأمثالها الخاصة. وهكذا يمكن تتبع مؤثرات الشخصية في المدن القديمة كدمياط والفيوم واسيوط وجرجا وأسوان مع اختلاف أصول التجمعات المدنية.
إذن تختلف بعض مظاهرالشخصية بين المدينة والأخري وبين المدينة والريف وبين الدلتا والصعيد بشكل أوضح. وبالمناسبة من هم أهل الصعيد؟ جغرافيا من جنوب الجيزة الي أسوان, لكن صفات الصعيدي الجاد: الرجولة والعصبية والحمية والثأر علي سبيل المثال قد تكون أظهر ما يكون من المنيا حتي الأقصر وإسنا, بينما تقع بني سويف في ظل القاهرة الكبري والفيوم فريدة بما فيها من تراكيب الواحة حيث بعض سكانها بدو متريفيون. وتستحق محافظة أسوان أن نفرد لها أسطرا لأنها قد تمثل لنا مرحلة أولية من مراحل تاريخ اندماج الجماعات العديدة في أطر الشخصية المصرية. هنا في أسوان علي ضيقها الزراعي والعمراني( نتيجة البيئة الطبيعية) نجد الشخصية تتفرد بين الجعافرة والصعايدة والعبابدة والنوبيين, لأن هذه المجتمعات ما زالت تعيش جنبا الي جنب دون أن تذوب معا لظروف شديدة الخصوصية علي رأسها استمداد الأصول من طبقة الأشراف بين الجعافرة الحسينية والحسانية, وبدو العبابدة الذين استقروا مازالو يستمدون تفردهم من وحي البداوة السابقة والتجارة مع شمال السودان, والصعايدة سكنوا معظم منطقة كوم امبو بعد استصلاحها وتركيز زراعتها حول اقتصاديات قصب السكر ومصنعه. ويمثل النوبيون( من كنوز وعليقات وفديجة) إضافة جديدة للسكان حول حوض كوم أمبو بعد تهجيرهم من بلاد النوبة التي غرقت بانشاء السد العالي. وأخيرا فإن سكان مدينة أسوان يمثلون مزيجا تاريخيا يمتد آلاف السنين وما زال يتقبل إضافات جديدة بحكم أنها أكبر مركز عمراني في جنوب مصر وبحكم التجارة المستمرة مع السودان قرونا طويلة( شاركها في ذلك مدينة دراو مركز العبابدة التاريخي التجاري). وحاليا فإن السياحة هي صناعة أسوان الأساسية لأن بيئتها فريدة ساحرة: حيث النهر المندفع في زرقة يمشط أمواجه الزبد الأبيض بين الجزر الجرانيتية الداكنة والرمال الحمراء علي البر الغربي ترتفع في بهاء تتوجه قباب, وفنادقها العائمة, و'بولفار' الكورنيش الجميل ممشي تحت أشجار عين تحفة للناظرين, وأجمل فنادقها' كتراكت' بألوانه البنية وأفاريزه البيضاء يفترش مع' تراسه' الجرانيتي أجمل بقعة تطل علي النيل الخالد والأشرعة البيض لمئات الفلايك تغدو وتروح كالحمائم فوق هذا الفيض من البهاء والبهجة ذات الألوان.
فالحقيقة الأولي أن اختلاف التاريخ لأي جماعة يساوي اختلافا في تكوين أسس الشخصية حتي لو كان هذا التاريخ سطحيا أو عميقا, شفاهيا أو مكتوبا. والموضوع الأول هو أن تراكيب مجتمعية معينة وشخصيات تاريخية هي التي تبدأ بالتغاير بين مجموعة وأخري حتي لو تجاورت مكانا في ذات القرية أو الاقليم. فقصص قبيلة العبابدة وأبطالها القدامي والمحدثون تختلف تماما عن قصص مجموعة الجعافرة وعن قصص الهوارة وقصص العرب في جنوب مصر. هذه القصص تمثل الروابط التي تؤدي الي حدوث انقسام بين مجموعات من الناس يعيشون علي نفس الأرض ويمارسون الفلاحة أو ريادة الصحراء أو الاتجار فيما يهم السياح من سلع وبضائع بعضها كنوز حقيقية وغالبها معالج علي النسق الفرعوني من أجل الاتجار.. وسكان الصعيد الأوسط منقسمون أيضا بين تراث الفلاح المجيد وبين تراث القبائل الغربية كالجوازي والفرجان والباسل التي دان لسطوتها الفلاحون قرونا ثم نفضوا عنهم ذلك التراث, وأصبح المثل الأعلي هو الحصول علي درجات من العلم تصل بهم الي المناصب المرموقة بديل التباهي بالأصول الماضية. ونفس القصة نجدها في قنا والفيوم والبحيرة والشرقية. إذن التعليم هو سنة التغيير في بلورة الشخصية. ولكن إلي جانب ذلك هناك عوامل أخري علي قدر من الأهمية: من بينها التجنيد العسكري وهجرة العمل في دول البترول العربية. فالتجنيد يؤدي الي ارتباط المجند برباط محكم مع زملاء له سواء كانوا من نفس المحافظة أو من غيرها. وهو مثل التعليم في مراحله العليا حيث يختلط الطلبة ببعضهم من أصول مختلفة من مصر. هنا يعمل الالتحام الطوعي للأفراد علي أن يكونوا أكثر تقبلا للغير من مجرد الالتجاء الي النسب.
أما هجرة العمل فتؤدي الي تفتح علي آفاق أوسع بحكم العمل مع شخصيات متعددة الثقافات من عرب وهنود وباكستانيين وإيرانيين وفلسطينيين ولبنانيين وشوام. وحين يعود المهاجر يكون قد اكتسب إلي جانب المدخرات المالية بعضا من الثقافات قد تضيف الي الريف والمدينة تنوعا ثقافيا وشخصية شبه دولية مما قد يجعلهم قنطرة للعبور إلي عالم غير تقليدي وسط عالمهم التقليدي السابق. لكن هناك أيضا الشخصية التي تنبني علي الوضع الاجتماعي ومن ثم هناك ثقافة الفقراء وثقافة الأغنياء, وفيما بينهما ثقافة الطبقة الوسطي التي تميل إلي الانحدار والتفكك بين صعود بعضها الي الطبقة العليا وسقوط غالبها الي الطبقة الدنيا. لا يحدث هذا دفعة واحدة بل بدرجة كبيرة من التدريج بحيث لا تظهر علي السطح كظاهرة اجتماعية. ولا ينقضي وقت طويل حتي يفقد المجتمع ثقافة التوازن بسقوط الطبقة الوسطي واضمحلالها وتصبح كفتا الميزان بين ثقافة الطبقة العليا والطبقة الدنيا, وإن كان جاه التعلم والتوظف في مناصب حاكمة يحفظ للطبقة الوسطي بقية وجود. ولكن بميزان المال, فإن وجود الطبقة الوسطي ربما هو أقل من بعض أفراد من الطبقة الدنيا. كما يحدث انتقال مالي مادي لبعض أفراد من الطبقة الدنيا إلي ثقافة العليا بدون مؤهلات سوي التغير المرتقب للجيل الجديد من أبناء تلك الطبقة. هل هم الـ' نوفو ريش', كما كان يطلق علي أغنياء الحرب أم هم بحكم قدرات أهاليهم وقدرات تعلمهم جزء جديد يضاف للطبقة العليا. وفي كلتا الحالتين نحن أمام متغيرات في السمات الثقافية وبالتالي في الشخصية.
تغيرات الاقتصاد والشخصية: في الماضي غير البعيد كانت هناك شخصية الريف بكل ما يعنيه الريف من قيم وأحكام. صحيح أنه كانت هناك تفاوتات, ولكن كان يعبر عنها بجملة توضح أسس الشخصية الريفية, ألا وهي' الأرض عرض', بمعني أن ثقافة الريف كانت لصيقة بما يملكه الشخص من الأرض حتي لو كان صغيرا. كان مجتمع القرية بصورة عامة مجتمعا متساندا ليس فقط في مظاهر المشاركة في الأفراح والأحزان, ولكنه متساند بحيث يعطي الغني إمكانات عمل للفقير أيا كانت أقوال الناس عن الاستعباد وغير ذلك من المصطلحات المدوية, فإن التساند هنا هو تماما مثل التساند الرأسمالي حيث يتيح صاحب المصنع للبروليتاريا مجال عمل غالبا بخسا مهما كان نوع ما يؤديه من عمل ماهر أو غير ماهر. ومثل ذلك كثير في مجتمع الماضي والحاضر حيث يعمل الناس في أجهزة الحكومة والقطاع العام والخاص من شركات صناعية وتجارية وهيئات خدمية علي نفس القيم لا أقل ولا أكثر, أي أن الأجور هي محددة تعسفيا من قبل الادارات الحكومية ومجالس ادارات الشركات المساهمة وأصحاب المال في الأعمال الصغيرة, وعلي الموظف أو العامل أن يقبلها أو يرفضها بضمانات أو بدونها. صحيح أن في مجتمعنا بعض ضمانات للعاملين بينما لاتوجد مثل هذه الضمانات بالنسبة للفلاحين. ولكن في الحالتين يجد العامل في الشركات والريف نفسه عاطلا في معظم الأوقات.
وكان لدينا الي وقت قريب مثل شائع منطوقه' إن فاتك الميري إتمرغ في ترابه', لكن لم يعد لهذا المثل أي معني لدي الكافة, فقد سقط مدلوله وحل محله اتجاه الي العمل في مؤسسات وهيئات تضمن أجورا شهرية غير منقطعة إلا في حالات الافلاس, أو مؤخرا في حالات تخصيص وبيع الشركات العامة التي لا يلتزم فيها الملاك الجدد بالتزام كتابي حول توفيق أوضاع العاملين ولكنه في الحقيقة يعني فصلهم مع بعض التعويض. وربما يكمن السبب في ذلك في تحديث المصانع وعدم الحاجة إلي أعداد كبيرة من العمالة التي كانت ضرورية في ظل نظم الانتاج القديمة. وفي أحيان تغيير الصفة الأساسية للشركات من إنتاج إلي آخر, وبالتالي تحدث تصفية عمالة. التوازنات المجتمعية بإجمال يصيبها كثير من عدم التوافق باستمرار كإحدي آليات المجتمع النامي الذي يسعي إلي التحديث. كثير من السلع والمنتجات تنخفض قيمتها وهي التي لم يعد الناس في حاجة لها لأن سلعا أحدث قد أزاحتها من العرض في حين ترتفع أسعار المعروض الجديد. وكل هذا يحدث مع ذبذبات تميل في مجموعها الي ارتفاع الأسعار, وهو ما أفقد التوازن بين الدخول والأجور وبين منتجات سلع الحياة. وإلي أقل من نصف قرن كان الموظف أو العامل الذي يتقاضي30 جنيها شهريا يعتبر ميسور الحال, وحينما ارتفع سعر كيلو اللحم الي جنيه واحد, شاعت النكتة أن فلانا مرتبه30 كيلو لحم, وآخر20 كيلو! وهكذا عبرت هذه المقولة عن اهتزاز كبير في توزانات الحياة. ولست أدري ماذا يفعل الناس لتدبير احتياجاتهم من الخبز اليومي بعد أن استبعدت اللحوم. وماذا عن مصاريف التعليم والدروس الخصوصية ومصاريف الانتقال بالباص والميكروباص بعد أن فقدنا الترام, ومصاريف الملبس المتجدد الموضه, وفاتورة الكهرباء بعد إدخال قيمة رفع' الزبالة' علي الفاتورة رغم أنها مازالت ترفع فعلا بواسطة المحترفين السابقين.. الخ. ومهما قيل أو حدث من رفع الأجور والمرتبات بأي نسبة, فإن مجرد إطلاق مثل هذه الشائعة ترفع أوتوماتكيا أسعار السلع الضرورية للحياة بحيث تزيد عن الزيادة المرتقبة أضعافا بحيث فينطبق عليها القول الشائع' كأنك يا أبو زيد ما غزيت!'
تجليات الشخصية المصرية: كل هذه المتغيرات المجتمعية الاقتصادية لها أصداء علي الشخصية المصرية العامة التي قد تظهر في' الشدة' كتكاتف الناس في إعانة أهالي ضحايا عبارة البحر الأحمر, أو تساند مجتمعي في قضية استقلال القضاء. فليس كل من ساندهم وعركته عصي الشرطة, متآمر ضد الحكم بل هو مد شعبي غالبه غير منظم. ولو كان المساندين للقضية متآمرين مدسوسون لما وجدنا حشود الشرطة كما صورتها أجهزة الإعلام ولما قرأنا عن مئات المعتقلين. إذن فالشدة هي التي تلم الناس, وبالتالي فإن الشدة هي التي تبرز الشحصية المصرية وتدفعها للتساند وتحمل هراوات الجنود. هوية الشخصية هنا كثيرة الدوافع والأسباب بعضها منظم من قبل الأحزاب ولكن غالبها ينطلق من أسباب شخصية تري أن هذه معركة من يستند الي الحائط, ولم يعد هناك ما يخسره نتيجة ضيق الحياة التي تأخذ بالخناق في أشكال شتي أبرزها حرية التعبير عن الرغبة في التغيير. والقضاء هو الفيصل بين الظلم والعدل. وقديما ما زال القول المعلن علي اللافتات:' العدل أساس الملك( أو الحكم)' فإذا انهارت هذه المعتقدات, فأين المفر. في الزمان القريب كان الأزهر وشيوخهم مركز القوة( لاعتبارات كثيرة علي رأسها أنهم رجال القضاء) في مواجهة الاحتلال الفرنسي.. وضد الإنجليز وقف الأزهر والكنيسة والمثقفون معا في سيمفونية رائعة.. وضد استبداد الملكية وقف المثقفون علي اختلافهم من رجال دين وعلمانيين وقفة أهلت مصر لمتغيرات عبر بها شباب الجيش الي إنهاء النظام الملكي. هذه كلها مواقف الشدة التي تظهر فيها بجلاء الشخصية المصرية بقوة دماء جديدة. ولا شك في أن هذه الوقفات الشجاعة قد ارتكزت علي مناصب القضاء والحكم لرجال الدين( القضاء الشرعي) والمثقفين( القضاء المدني) معا في القرون الماضية. وكذلك اليوم أيضا.
الشخصية بين الكمون والانفعال: الشخصية المصرية ربما تكون بطيئة الانفعال ولكنها تبرز بقوة حين وقت الحسم فتفاجأ المراقبين وتذهلهم بعد أن كانوا يعتقدون أن الشعب خانع خائف مستسلم. هذه هي سمة الشعوب في العالم مكانا وزمانا. فالثورة الفرنسية لم يتصورها أحد بهذا الشمول والقوة والتمادي في الديموقراطية الفجة غير المنقاة, غير المنظمة. لكنها ثورة تجمعت خيوطها علي مهل كما فوق كم حتي اكتمل الانفعال, فانقض مدمرا واحدة من أعتي الملكيات وأقواها وأغناها وأكثرها ترفا ونزقا. صحيح أن نابليون وجيشه ومارشالاته قد حول الجمهورية الي امبراطورية لكنها لم تعش طويلا, فعادت ملكية البوربون بعد سقوطه في الفترة ما بين عام1815 و1848, ثم عادت الجمهورية لكن الرئيس نابليون الثالث استغل رئاسته وحولها الي ملكية عام1852 حتي سقطت الملكية نهائيا في فرنسا في1870. ومثل هذه الثورة البلشفية في روسيا القيصرية, ثم أجلت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة مفاسد أولجارشية النظام الذي أصابه الوهن والتعفن ثم انتقل الوضع الي إعادة تأهيل نظام للحكم متعدد الأحزاب. لسنا بسبيل المقارنة لكننا بالمعرفة نصبح أقدر علي تبني أساليبا أقل حدة في معالجة الضغوط التي يتحملها الناس, فليس من مصلحة مصر حدوث ردود فعل عنيفة: مخزون الطعام اليومي محدود ومليء بالثغرات والشهوات وأطماع التجار الكبار, ومصير الحركة والانتقال داخل مدينة مختنقة كالقاهرة سوف يخنق الجميع, والأحزاب كلها لا تستطيع ضبط الأتباع والمؤيدين وأولئك من الطغمة التي يشار إليهم حديثا بالبلطجية. وحتي التنظيمات القوية الملتحفة بالدين لا تستطيع السيطرة علي كثير من الاندفاعات التي تعربد ما حلا لها نشاطها المدمر أن تفعل ذلك.!!.
المفروض التعقل من كل الأطراف. ففي أوقات الشدة سوف تظهر الشخصية المصرية مرة أخري ويمكن أن تصبح أداة فاعلة إذا نالت حرية التعبير واطمأنت إلي العدالة الاجتماعية والعدالة القانونية والعدالة التشريعية. وإذا كانت التعددية سمة المجتمع بغض النظر عن اختلاف الاتجاهات الحزبية والجماعات المختلفة, فإن الكل سيتأسس علي أن مصلحة مصر أعلي من مصلحة الحزب. وبالتالي فإن حق السماح بتداول السلطة هو الملاذ حتي لا تركد في الماء الآسن وتنذر بشرور ولو مستصغرة. كل هذا واجب قومي يجب أن يعرفه ويتداوله كل المهتمين من الأحزاب ومؤيديهم في ظل العولمة التي تشكل هاجسا كبيرا لدي الناس لعدم المعرفة الدقيقة ومن ثم, تضارب المفاهيم. فنحن نعيش فعلا داخل العولمة ولسنا في موقف اختيار أو معارضة. فاقتصادياتنا الرئيسية هي جزء من نسيج معولم: البترول والغاز الطبيعي وقناة السويس والسياحة والقمح والقطن والسكر والشاي والبن والسلع الزراعية البيولوجية والمنسوجات القطنية وصناعة الدواء.. الخ لكن لا يزال لدينا رصيد من الانتاج غير معولم كالخضر والفاكهة والأرز وربما الذرة وغذاء الماشية وصناعة الملابس والأسمنت والمخصبات الكيمائية.. الخ, وهنا تبرز حدود مخططاتنا القومية في القدرة علي التوفيق في الاستهلاك المحلي وربما أيضا فائض للتصدير. علما بأن الشعار الحالي هو' أنا أصدر فأنا أعيش' وهو شعار علي نسق الشعار القديم للفيلسوف ديكارت' أنا أشك إذن أنا موجود'.
أما منبر معارضة العولمة ورفضها فهو بالأساس قائم علي العناصر الاجتماعية المصرية: اللغة والدين والأعراف والأسرة والسلوكيات وأحكام المجتمع في الزواج والطلاق بل أيضا في تباين الزي بحيث ليس لدينا لباس قومي كالهند أو بعض أفريقيا. وستظل هذه العناصر محك تجربة فردية وجماعية حسب الانتماءات الايديولوجية والمعتقدات إلي أن تثبت مناسيب وسط تسمح بتداخلات أعلي أو أدني من المتوسط- تماما كما يحدث الآن. من خلال كل هذه التفعيلات التي نرجو أن تمر سلميا علي المصريين سوف تعاود الشخصية المصرية الظهور بوضوح بحيث تكون عاملا فاعلا في الابقاء علي الحوار البناء بين الجميع مع شعور الانتماء لجميع المصريين, ومن ثم ظهور مصر كقوة واضحة الشخصية في مجالاتها الإقليمية والعالمية. | |
|
علي كامل
أكاديمى
عدد الرسائل : 77 العمر : 66 التخصص : علم الاجتماع الدولة : العراق- مقيم بليبيا تاريخ التسجيل : 21/08/2008
| موضوع: رد: الشخصية المصرية وموروثات التاريخ والجغرافيا 24/12/2008, 3:39 pm | |
| تحية تقدير واجلال للأستاذ الدكتور محمد رياض، وهو يعيد إثارة موضوع الشخصية القومية أم الوطنية أم الاجتماعية أم غيرها من المداخل؛ من خلال تناول الشخصية المصرية، والشكر الوافر للأستاذ فرغلي بإعادة النشر عبر هذا المنتدى العامر بإذنه تعالى؛ وإن كنا نأمل التوثيق والإحالة. موضوع الشخصية الوطنية، ما زال موضوعاً إشكالياً تقيده الانطباعات أكثر منه الاعتبارات الامبيريقية وفعلية الاحتكام إلى الواقع.. خاصة فيما يخص الشخصية المصرية التي إنطبعت بتوصيفات قصاصي التاريخ والبلدانيات واصبحت حقيقة ولا ندري إين موقعها من الواقع. نأمل من الأساتذة والأخوة المهتمين إعادة مناقشة الموضوع مصرياً، أم عراقياً، وأظن أن الخوة في تونس كانت لهم نظرة للموضوع منذ أيام الحبيب بورقيبة وقد أصدروا لذلك أعمال ندوة.. الإلحاح ضوروري سيما وأن أستاذنا الدكتور سمير نعيم كانت تمهيدات نظرية أظنها في مطلع ثمانينيات القرن الفائت عندما تناول الشخصية الوطنية من خلال توليفة نقدية ماركسية - فرومية وأعتذر مسبقاً إن لم أكن دقيقاً بالاعتماد على الذاكرة، منبهاً إلى أن ما نشره الاستاذ نعيم صار يوماً مرجعاً لازماً للمعنيين في هذا الموضوع.. وأتمنى على من يهمه الأمر وتعينه عمومية المنفعة أن يصلنا بهذا البحث الذي نشر حينها على مجلة العلوم الاجتماعية الكويتية.. أطال الله بعمر الاستاذ سمير نعيم.. ونأمل عطفه بالإضافة. وكنت راغباً في أيام سابقات، إعادة مناقشة أطروحة الاستاذ الدكتور جمال حمدان - تغمده الله برحمته - حول شخصية مصر، والحقيقة أني من جانبي يزعجني عنوان أطروحته بإلحاق عبقرية الإنسان بعبقرية المكان في مصر وارى في ذلك ظلماً يصيب الشخصية المصرية ويجردها من البعد الإرادي والقصدي - بالتعبير المعتزلي - وربما تباين التخصص يجعلني أحكم بما ليس مقبولاً من مناصري المرحوم حمدان. دعوة لمناقشة الموضوع سيما في هذه السياقات التي نعيشها.. ونقول: إن شاء الله ستكون هناك استجابة.. وعلى بركة الله.. وما أوردت كان على المباشر دون مراجعة، ملتمساً العذر إن أتت بعض الأخطاء. | |
|
د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: رد: الشخصية المصرية وموروثات التاريخ والجغرافيا 24/12/2008, 10:20 pm | |
| يا أهلاً بالتعليقات الجادة
التى تثرى وتضيف سنحادث الدكتور سمير نعيم بشأن أبحاثه السابقة حتى يعم النفع إن شاء الله وإن كانت الاستجابات الباهتة من الأعضاء وقلة المشاركات الفاعلة لا تشجع عموماً فى انتظار مراجعاتك لنستفيد من خبراتك دمت آمناً فى سعادة ولك خالص محبتى | |
|