د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: أن تكون كاتباً فى هذا الزمن 2/9/2010, 3:48 pm | |
|
أن تكون كاتباً فى هذا الزمن بقلم/ د. سليمان عبدالمنعم مأساة أن تكون كاتباً فى هذا الزمن، وفى مصر على وجه التحديد.. وللمأساة أسباب، أول هذه الأسباب هو السؤال المؤرق الكبير عن جدوى الكتابة، فالأمر يبدو أشبه بمن يحرث فى البحر. كل هذا الكم من الكتابات اليومية ولا حياة لمن تنادى. يتسلل الشك إليك وتتصاعد أبخرة الأسئلة: هل فقدت الكتابة صدقها أم يعيش الكتّاب أزمة مصداقية أم هو جمهور القراء الذى لم يعد تستهويه اللعبة، أقصد الكتابة، فانصرف تحت وطأة الأعباء المعيشية ليواصل معركته الأكثر شراسة ونبلاً فى التصدى للغلاء وتعليم الأولاد والبحث عن وظيفة أو مسكن أو علاج؟!.. يتساءل المرء أحياناً حول لماذا نكتب، وكيف يمكننا أن نقيس جدوى الكتابة فى حياة الناس؟!
(١) يفترض أننا نكتب لغايات متنوعة أسماها وأنبلها السعى لتغيير مجتمعنا إلى الأفضل وربما العالم كله إلى ما نعتقد بصدق وإخلاص أنه الحق والخير والعدل والجمال، هذه هى رسالة الكلمة الأخلاقية والاجتماعية وهى أنبل غايات الكتابة. وقد نكتب لمجرد إرضاء هذا النداء الداخلى المسحور، الذى يعتمل فى دواخلنا ويدفعنا للكتابة لأنها قيمة جمالية فى حد ذاتها، مثل رجل وحيد يرسم لوحة رائعة الألوان مع أنه يعلم أنه قد لا يراها أحد، وهذه غاية رومانسية وزاهدة. وقد نكتب لتحقيق الذات وكسب العيش وهذه غاية براجماتية ومعيشية للكتابة، ليس فيها ما يشين فى ذاته متى كنا لا نفرط فى المبادئ والقيم النبيلة التى تفرضها رسالة الكلمة. وقد نكتب، أخيراً، لكى نسخّر الكلمة لأهداف انتهازية، فتصبح الكتابة أداة - مجرد أداة - لتحقيق غاية أنانية تضلل أكثر مما ترشد وتتخفى وراء المصلحة أكثر مما تبحث عن الحقيقة.
الحاصل اليوم أن معظم هذه الغايات قد تداخلت وتشابكت، فلم نعد نعرف على وجه اليقين لماذا نكتب! اخترقت السياسة كتاباتنا وتسللت المصالح إلى حروفنا وكلماتنا، وامتلكت النرجسية ناصية أقلامنا، فبدا معظم كتاباتنا أقل نقاء وصدقاً وتلقائية. كتاباتنا تبدو اليوم مرهقة وحائرة ومتوترة وهى تئن تحت وطأة المأزق السياسى، الذى تمر به مجتمعاتنا فى مرحلة مخاضها الشاق العسير لولادة دولة الديمقراطية والحرية والعدالة. كان المفروض والمتوقع أن يفرز هذا المناخ السياسى كتابة نقية بنقاء المعادن النفيسة، التى يتم صقلها فى أفران الحرارة العالية، لكن يبدو أن الاستقطاب السياسى، الذى تعيشه مصر والعالم العربى كله قد أرهق الكتابة وأربك الكتّاب. تمترس كل فريق خلف عقائده السياسية وربما قبيلته وارتباطاته وتحالفاته ومصالحه ما بين عولميين مازالوا يعتقدون أن القادمين من وراء المحيط وعبر المتوسط سيمطرون بلادنا رغداً ورخاء وحريات، وما بين عروبيين ووطنيين مازالوا قابضين على أحلام أوطانهم فى الكرامة والوحدة والتقدم كما القابض على الجمر.
ثمة استقطاب سياسى محلى آخر ما بين فريق أول يتشبث بالأوضاع القائمة دون أن نعرف ما إذا كان تشبثه عن خوف مبرر وحقيقى من البديل الذى يقال إنه سيصادر حريته مع أن هذه الحرية مازالت حتى اللحظة محل شك كبير، أو ما إذا كان هذا التشبث عن رغبة فى الاستفادة من بقاء الأوضاع على حالها، حيث ارتباط المصالح يوجب وحدة المصير! وفريق ثان يسعى إلى التغيير وينثر الأحلام والوعود، لكن المقلق والغريب أن أطراف هذا الفريق يتنازعون منذ الآن ويتبادلون الاتهامات حتى من قبل أن يجنوا عوائد النضال.. فهل تحافظ الكلمة على رسالتها فى مثل هذه الكتابة المسيّسة تسييساً؟!
(٢) هو إذن سؤال مؤرق محيّر: هل أثمر النضال السياسى من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة عن كتابة ملهمة وسامية وسامقة، أم أنه خلق حالة من الاستقطاب وشباكاً من المصالح حادت بالكلمة عن وجهتها.. هل بقى هذا النضال السياسى على نقائه أم أنه كان واجهة لصراعات وحسابات حزبية وقبلية وطائفية فأصبحت الكلمة أحياناً مثيرة للفتن والتشرذم والكراهية؟
مأساة أن تكون كاتباً فى هذا الزمن، خاصة أنه فى ظل هذا الاستقطاب السياسى لا يخرج الأمر عن أحد فرضين: أن تكون منتمياً لأحد أطراف هذا الاستقطاب السياسى من موالاة ومعارضة وجماعات دينية ومجموعات مصالح، فيصبح لك سند وآلة للتسويق والترويج وقوى خفية تحميك عند الاقتضاء. والفرض الثانى ألا تكون منتمياً لأحد هذه الأطراف الأربعة. حسبك أنك باحث عن الحقيقة تنشدها أينما كانت. هنا يبدو طريقك صعباً محفوفاً بالتجاهل وربما الشكوك. الموت وحده يمكن أن يعيد لك شيئاً من تقديرك الأدبى وقيمتك الفكرية فى مجتمع يجيد فنون الاحتفاء بالموتى منذ آلاف السنين.
والكتابة السياسية تزيد من أهميتك وترفع معدلات توزيع صحيفتك أو كتابك، لأن الكلمة المكتوبة أصبحت إحدى أدوات الصراع السياسى والحزبى فى مجتمعات بلا سياسة ولا أحزاب!! فكأنما المبارزة هى للفوز بما هو غير موجود أصلاً. والكتابة السياسية على ما فيها من إثارة تثير إعجاب جمهور متعطش لأن يقرأ كلمة «لا»، وأن يشمت فى سلطة يرى أنها تذيقه الهوان والقهر، فيبدو القراء أشبه بمشاهدى لعبة مصارعة المحترفين وهم ينهضون ويصرخون إعجاباً بمن أسقط خصمه وأشبعه لكماً. صحيح أننا لا نعرف أحياناً ما إذا كانت مباريات المصارعة الحرة التى نشاهدها مباريات حقيقية أم أنها استعراضات خادعة تنطوى على التظاهر والتمثيل. المهم هو التنفيس عن غرائز وانفعالات الجمهور، لكن فقط فى الحلبة المعدة سلفاً. هكذا، تضعك الكتابة السياسية فى قلب المشهد الجماهيرى وتجعل منك فى هذا الزمن نجم شباك بلا منازع!
(٣) أصبحنا نكتب فى السياسة أكثر مما نكتب فى الاجتماع أو الثقافة أو الأخلاق أو العلم، وتضاءلت فى الصحف اليومية مساحة الكتابات الفكرية والاجتماعية والثقافية.. ربما يرى البعض أن السياسة هى التى تصنع كل ذلك وتوجهه، لكننا ننسى فى المقابل أن كل معرفة اجتماعية وثقافية وعلمية وأخلاقية إنما تسهم فى إذكاء الوعى السياسى لدى الناس بل تثيره ليصبح قوة رشيدة وعاقلة وجسورة تعرف جيداً طريقها ووسائلها إلى الإصلاح، فالتنوير كان الأسبق تاريخياً على فكرة الثورة. مأساة أن تكون كاتباً فى هذا الزمن أنك حتى حين تكتب فى السياسة، فليس المهم كيف تكتب، ولا أن تتحلى بأمانة التحليل ودقة التشخيص وتجرد الاستنتاج.. ليس مطلوباً ولا محبذاً أبداً أن تمتلك تواضع الباحث أو المفكر أمام حقيقة مركبة معقدة تعالجها فى كتابتك، ومكروه أن يكون لكتابتك طابع علمى فى بلاد تمقت العلم، المطلوب أن تكون كتابتك مسليّة خفيفة وسهلة. ولو عاد طه حسين وعباس العقاد والمازنى وعبدالرحمن الشرقاوى وزكى نجيب محمود، لما قرأ لهم أحد ولربما انزوت كتاباتهم، مهجورة فى الصحف دون أن يعلق عليها «تفاعلى» واحد. هؤلاء كانوا كتّاباً حقيقيين يكتوون بمعاناة البحث عن الحقيقة، لا عن الجمهور!
(٤) يقول الشاعر الراحل أمل دنقل: «... حين سرت فى الشارع الضوضاء واندفعت سيارة مجنونة السائق تطلق صوت بوقها الزاعق فى كبد الأشياء تفزعت حمامة بيضاء كانت على تمثال نهضة مصر تحلم فى استرخاء...»
نشرت بجريدة المصرى اليوم عدد ٢/ ٩/ ٢٠١٠
| |
|