عدد الرسائل : 46 العمر : 76 التخصص : شاعر وباحث الدولة : سورية تاريخ التسجيل : 12/05/2010
موضوع: المرأة في الغزل الصوفي (5ـ2) عبد القادر الأسود 25/5/2010, 10:12 am
تابع .. المرأة في الغزل الصوفي للشاعر: عبد القادر الأسود
تابع الباب الخامس
* وهذه قصة في العشق والبطولة والفروسيّة يرويها واحد من فرسان العرب المعدودين الصحابي الجليل عمرو بن معد يكرب الزبيدي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب { رضي الله عنهما} . روى عن الشعبـيُّ قال : دخل عمرو بن معد يكرب على الخليفة الراشد الثاني : عمر بن الخطاب ، فقال له : يا عمرو أخبرني عن أشدِّ من لقيت ، فقال : نعم يا أميرَ المؤمنين : خرجت مرّة أريدُ الغارة . فبينما أنا أسير إذا أنا بفرسٍ مشدودٍ ورمحٍ مركوزٍ وإذا رجلٌ جالسٌ ، وهو كأعظم ما يكون من الرجالِ خَلْقاً ، وهو مُحْتَبٍ بسيفٍ . فقلت له : خذْ حِذْرَك فإنّي قاتلُك ، فقال : ومَن أنت ؟ قلت: أنا عمرُو بنِ مَعْدِ يَكرِبَ ، فشهق شهقةً فمات . فهذا أجبن مَن رأيت يا أمير المؤمنين . وخرجت يوماً حتى انتهيت إلى حيّ . فإذا أنا بفرس مشدودٍ ورمحٍ مركوزٍ وإذا صاحبُه في وَهْدَةٍ يقضي حاجةً . فقلتُ : خُذْ حِذْرَك فإنّي قاتلُك ، قال: من أنت ؟ قلتُ : أنا عمرو بن معد يكرب ، قال : أبا ثور ، ما أنصفتَنـي ، أنتَ على ظهرِ فرسِك ، وأنا في بئر ، فأعطِنـي عهداً أنّك لا تقتُلَنـي حتى أركبَ فرسي وآخذَ حِذْري ، فأعطيتُه عهداً أنْ لا أقتله حتى يركب فرسَه ويأخذ حِذْرَه . فخرج من الموضع الذي كان فيه حتى احتبى بسيفه وجلس . فقلت له: ما هذا ؟ فقال : ما أنا براكب فرسي ولا بمقاتلك ، فإن نكثتَ عهدَك فأنت أعلم ، فتركـتُه ومضيت . فهذا يا أمير المؤمنين أَحْيَلُ مَنْ رأيت ، ثم إني خرجت يوماً آخر حتى انتهيتُ إلى موضع كنت أقطع فيه . فلم أرَ أحداً فأجريت فرسي يميناً وشمالاً فظهر لي فارس . فلما دنا منـي إذا هو غلام قد أقبل من نحو اليمامة. فلما قرُب منـي سلَّم فرددت عليه وقلت : من الفتى ؟ قال : أنا الحارث بن سعد فارس الشهباء ، فقلت له : خُذْ حِذْرَك ، فإني قاتلُك . فقال : الويلُ لك من أنت ؟ قلت: أنا عمرو بن معد يكرب ، قال : الحقير الذليل؟ والله ما يمنعنـي من قتلك إلا استصغارُك ، فتصاغرتْ نفسي إليّ وعظُم عندي ما استقبلنـي . فقلت له : خُذْ حِذْرَكَ ، فو الله لا ينصرف إلاّ أحدُنا ، قال : اغْربْ ، ثكلتك أمُّك فإني من أهل بيت ما نكِلْنا عن فارس قطّ ، فقلت : هو الذي تسمع ، قال : اختر لنفسك ، إمّا أنْ تَطرُدَ لي، وإمّا أنْ أَطرُدَ لك ، فاغتنمتُها منه ، فقلت : اِطرُدْ لي ، فأطْرَدَ وحملتُ عليه ، حتى إذا قلتُ إنّي وضعتُ الرمحَ بين كتفيه ، إذ هو قد صار حِزاماً لفرسِه { أي التفّّ على بطنها }، ثم اتّبعنـي فقرع بالقناةِ رأسي ، وقال: يا عمرو ، خُذْها إليك واحدة ، فو الله لولا أنّي أَكرهُ قتلَ مثلَك لقتلتُك فتصاغرت إليّ نفسي ، وكان الموت والله يا أمير المؤمنين أحبَّ إليّ مما رأيت ، فقلت : والله لا ينصرف إلا أحدُنا ، فقال : اختر لنفسك فقلت : اطردْ لي ، فأطرد لي . فظننت أني قد تمكنت منه واتّبعتُه حتى إذا ظننتُ أنّي قد وضعتُ الرمح بين كتفيه ، فإذا هو قد صار لَبياً لفرسه {أي التفّ حول عنقها} ، ثم اتّْبَعنـي فقرع رأسي بالقناة وقال : يا عمرو، خذها إليك اثنتين ، فتصاغرت إليّ نفسي فقلت : والله لا ينصرف إلا أحدنا ، فقال : اختر لنفسك ، فقلت : اطرد لي ، فأطرد حتى إذا قلت إني وضعت الرمح بين كتفيه وثب عن فرسه فإذا هو على الأرض ، فأخطأتُه ومضيت ، فاستوى على فرسِه واتّبعنـي فقرع بالقناة رأسي وقال : يا عمرو ، خذها إليك ثالثة ، ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك ، فقلت له : اقتلنـي ، فإن الموتَ أحبُّ إليّ ممّا أرى بنفسي وأن تسمع فتيانُ العرب بهذا ، فقال : يا عمرو إنمــــــا العفو ثلاث ، وإني إن استمكنت منك الرابعة قتلتك ، وأنشأ يقول: وكَّدْتُ أغلاظاً من الأيمـــــــــــــانِ إن عدتَ يا عمرٍو إلى الطِّعـــان لتوجرنَّ لهب السِّنــــــــــــــان أولا،فلستُ مِن بنـي شيبان فلما قال هذا ، كرهت الموت ، وهِبْتُه هيبةً شديدةً ، وقلت : إنّ لي إليك حاجة ، قال : وما هي ؟ قلتُ : أكون لك صاحباً ــ ورضيتُ بذلك يا أمير المؤمنين ــ قال : لستَ من أصحابي ، فكان ذلك والله أشدَّ عليَّ وأعظم مما صَنَع . فلم أزلْ أطلب نهايةً إليه حتى قال : ويحك ، وهل تدري أين أريد ؟ قلت : لا ، قال : أريد الموت عياناً ، فقلت : رضيتُ بالموت معك ، فقال : امضي بنا ، فسرنا جميع يومنا وليلتِنا حتى جننَّا الليلُ وذهب شطرُه . فورَدْنا على حيٍّ من أحياء العرب ، فقال لي : يا عمرو في هذا الحيِّ الموت ، ثم أومأ إلى قُبّةٍ في الحيِّ فقال : وفي تلك القُبّة الموتُ الأحمر ، فإمّا أنْ تمسك عليّ فرسي فأنزل فأتي بحاجتـي، وإمّا أن أمسك عليك فرسُك فتنزل فتأتينـي بحاجتـي ، فقلت : لا ، بل انزل أنت ، فأنت أعرف بموضع حاجتك ، فرمى إليّ بعِنان الفرس ونزل ، فرضيت لنفسي يا أمير المؤمنين أن أكون له سائساً . ثم مضى حتى دخل القبّة فاستخرج منها جاريةً لم تر عيناي قطُّ مثلها حسناً وجمالاً ، فحملها على ناقةٍ ، ثم قال : يا عمرو ، قلت : لبيك ، قال : إما أنْ تحميَنـي وأقودُ أنا ، وإما أن أحميك وتقود أنت ، قلت : بل تحمينـي أنت ، وأقود أنا ، فرمى إليّ بزمام الناقة ، وسرنا بين يديه وهو خلفنا حتى أصبحنا ، فقال لي : يا عمرو ، قلت : لبيك ، ما تشاء ؟ قال : التفتْ فانظُرْ هل ترى أحداً ؟ قال: فالتفت ، فقلت : أرى جمالاً ، قال : أَغِذّ السيرَ ، ثم قال لي : يا عمرو ، قلت : لبيك ، قال : انظر ، فإن كان القوم قليلاً فالجَلَدُ والقُوَّةُ والموت ، وإن كانوا كثيراً فليسوا بشيء ، قال : فالتفتُّ ، فقلتُ : همْ أربعةٌ أو خمسةٌ ، قال: أَغِذَّ السير ، ففعلت ، وسمعَ وقعَ الخيل ، فقال لي : يا عمرو ، قلتُ : لبّيك قال : كن عن يمين الطريق ، وقِفْ وحوّلْ وجوهَ دوابّنا إلى الطريق ، ففعلت، ووقفت عن يمين الراحلة ووقف هو عن يسارِها . ودنا القوم منّا، فإذا هم ثلاثة نَفَرٍ فيهم شيخ وهو أبو الجارية وأخواها غلامان شابان ، فسلموا فرَدَدْنا السلام ، ووقفوا عن يسار الطريق . فقال الشيخ: خَلِّ عن الجارية يا ابن أخي ، فقال : ما كنت لأخلّيَها ، ولا لهذا أخذتُها ، فقال لِأَصغرِ ابنَيْه : اخرجْ إليه ، فخرج وهو يجرّ رِمحَه وحمل عليه الحارثُ وهو يقول: من دون ما ترجوه خضبُ الذابلِ من فارسٍ مستلئـــــمٍ * مقـــــــــــــــــاتلِ ينمي إلى شيبــــــــــــــــــــان خيرِ وائـلِ ما كان سيرى نحوهـــــــــــــــــا بباطــــــلِ * مستلئم :أي لابس عُدّةَ الحرب ثم شدَّ عليه فطعنه طعنةً دقَّ منها صُلبَه ، فسقط ميتاً . فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه يا بنـيَّ ، فلا خير في الحياة على الذُلِّ ، فخرج إليه وأقبل الحارث يقول : لقـد رأيت كيف كانت طعنتي والطعنُ للقِـــــــرنِ الشديــــــــــــدِ هِمَّتـي والموت خــــيرٌ مــن فـِـــــراق خـــلّتـي فقتــلتـي اليـــــــــــوم ولا مَــــــــــــذلَّــتـي ثم شدّ عليه فطعنه طعنةً سقط منها ميتاً . فقال له الشيخ : خلِّ عن الظعينة يا ابن أخي ، فإني لست كمن رأيت ، قال : ما كنتُ لأخلِّيها ولا هذا قصدتُ ، فقال له الشيخ : اختر يا ابن أخي ، فإن شئت طاردتك ، وإن شئت نازلتُك ، فاغتنمها الفتى ونزل . ونزل الشيخ وهو يقول : ما أرتجي بعدَ فنــــــــــــاءِ عُمري ؟ سأجعلُ السِــتِّينَ مثـلَ الشهرِ شيخٌ يحامي دون بيضِ الخِـــــدرِ إنِ استباحَ البِيضُ قصمَ الظَّهرِ سوف ترى كيف يكون صـبري فأقبل الحارث وهو يقول : بعد ارتحـــــالي وطويل سَفْري وقد ظفرتُ وشفيتُ صَدري والموتُ خيرٌ من لِباسِ الغدرِ والعـــــــــــارَ أُهـــــديه لحيِّ بكرِ ثم دنا فقال له الشيخ : يا ابن أخي ، إن شئت نازلتك ، وإنْ بقيتْ فيك قوةٌ ضربتنـي ، وإن شئتَ فاضربْنـي ، فإن بقيتْ فيَّ قوةٌ ضربتُك ، فاغتَنمَها الفتى فقال : أنا أبدؤك ، قال : هات ، فرفعَ الحارثُ السيفَ ، فلما نظر الشيخ أنّه قد أهوى به إلى رأسه ، ضرب بطنَ الحارثِ ضربةً فَقَدَّ مِعاه ، ووقعتْ ضربةُ الحارثِ في رأس الشيخ . فسقطا ميّتين . فأخذتُ يا أميرَ المؤمنين أربعةَ أفراسٍ وأربعةَ أسيافٍ ، ثم أقبلتُ إلى الناقةِ فعقدتُ أعنّةَ الأفراسِ بعضَها إلى بعض وجعلتُ أَقودُها . فقالت الجارية : يا عمرو ، إلى أين ؟ ولستَ لي بصاحب ، ولستَ كمن رأيت ، ولو كنتَ صاحبـي لسلكتَ سبيلَهم فقلت : اسكتـي ، قالت : فإن كنتَ صادقاً فأعطنـي سيفاً ورمحاً ، فإن غلبتنـي فأنا لك وإن غلبتُك قتلتُك، فقلت لها : ما أنا بمعطيك ذلك ، وقد عَرَفْتُ أصلَك وجُرأةَ قومِك وشجاعتَهم ، فَرَمَتْ بنفسها عن البعير وهي تقول : أ بعـــــــــدما شيخي وبعد إخوتي أطلب عيشاً بعدَهمْ في لَذَّةِ ؟ هـــــلاّ تكون قبل ذا منيَّتـي ؟ وأَهْوَتْ إلى الرُّمح فكادت تنتزعه من يدي . فلما رأيتُ ذلك خفتُ إنْ هي ظفرت بي أنْ تقتلنـي ، فقتلتُها . فهذا أشدُّ ما رأيتُه يا أمير المؤمنين. فقال: عمر بن الخطاب : صدقت يا عمرو . (18 )
* ومنهم هذا العاشق الذي لم يعرف اسمه والذي قتل الأسدُ حبيبته وهي في طريقها إليه فما كان منه إلاّ أن مات ودفن إلى جانبها بعد أن ثأر لها من الأسد ، وقصته كما رواه جَبَلةُ بنُ الأسود ، قال : خرجت في طلب ضالةٍ لي فوقعتُ على راع عنده غنم يرعاها ، وقد اتخذ بيتاً في كهف هناك فسألتُه القِرى فرحّب بي وأنزلنـي، ثم جاء بشاة فذبحها وجعل يشوي ويقدم إليَّ ويحادثنـي حتى اكتفيت . فلما جَنَّ الليلُ إذا بفتاة كأحسن ما يكون من النساء قد أقبلت إليه ، فجلسا يتحادثان حتى طلع الفجر فمضت وسألتُه الذهاب فأبى ، وقال الضيافة ثلاث فأقمت ، فلما جاء الليل رأيته يقوم ويقعد متضجراً ثم أنشد: ما بال (( ميّـــــــــة )) لا تأتي كعــــادتهــا أعاجهــــــــــا طرب أم صُدّهـــــــا شُغُـلُ لكنّ قلبـي عنــــــــــــكم ليس يَشْغَلُــــــهُ حتى الممـــــات وما لي غيركم أمـــــــــــلُ لو تعلمـــــــــين الذي بي من فراقكـــــم لمَا اعتــــذرتِ ولا طابتْ لكِ العِلَلُ نفسي فداؤك قد أحْلَلْتِ بي سَقَماً تكـــــــاد من حَرِّهِ الأعضــــــــاءُ تنفصــلُ لو أنَّ غاديــــــةً منــــه عــــــــلى جبـــــلٍ لمَادَ و انْهـَـــدَّ مِـــن أركانِــــــــهِ الجــبـــــلُ فسألته عن شأنه فقال هذه ابنة عمي وأنا أحبّها فخطبتُها من عمّي فأبى عليَّ لفَقري وزوَّجها من رجلٍ وقد حمَلَها إلى هذا الحي فخرجتُ عن مالي ، وعملت راعياً لهم ، فهي تأتينـي على غفلة من زوجها ، فأنظر إليها ونتحادث ليس غيرَه ، والآن قد قلقت لفوات ميعادها، وفي الطريق أسدٌ قد كَسَرَ وأخاف أن يكون أصابها ، فعلى رِسْلِك حتى أعودَ وأخذ السيف ومضى قليلاً ثم عاد يحملها وقد أصابها الأسدُ فطرحَها ثم غاب ورَجَع يجُرُّ الأسدَ مقتولاً، فطرحه وانكب يقبلها ويبكي، ثم قال لي أسألك بالذمّة إلا ما دفنتنـي وإياها في هذا الثوب كتبتَ على القبر هذا الشعر فإني لا بقاءَ لي بعدَها ، ثم انكبَّ عليها ، فإذا هو ميْتٌ ، وقيل انكبَّ على السيف فخرج من ظهره . وفي رواية ونمنا إلى الصباح فوجدتُه ميتاً فلففتُهما ودفنتُهما وكتبتُ على القبر الشعر الذي أوصى به وهو: كنّا على ظهرِها والدهرُ في مَهَلٍ والعيشُ يجمعنـــــــــــا والدارُ والوطنُ ففرّق الدهرُ بالتصريفِ إلْفَتَنا فاليوم يجمعُنـا في بطنِهــــــــا الكفنُ ثم فرّقتُ الغنمَ ومَضَيْتُ إلى عمّه فأخبرتُه بذلك فكاد أن يقضي أسفاً، على عدم الجمع بينهما . (19)
وهذا ابن ملك المناذرة يهوى ابنة عمّه ويحول أبوها بينهما حتى يكون هذا العشق سبباً لهلاكهما ، وهو عمرٌو بنِ كعبٍ بنِ النعمانَ ابنِ المنذرِ بنِ ماءِ السماءِ ، ملكِ العربِ المشهور ، قال ابنُ عساكر : وكان من فرسانِ العربِ وحماتِها وكرمائِها وشجعانِها ، وإنَّ جَدَّهُ النعمانَ صاحبَ الخُوَرْنقِ { اسم قصر بناه النعمان كان على غاية من الجمال والعظمة } هو الذي كفِلَه حين مات أبوه وهو صغير ، فلمّا زهد النعمان في الملك ، كما هو مشهور ، ضاع أمرُ الغلام . فأخذه عمُّه أبو النِجاد ، فلما بلغ عنده وكان له بنتٌ تُعرف بالعَقيلة ، وهي من أجملِ نساءِ العرب وأعلمِهنَّ بالأدبِ وأحوالِ العرب ، أياماً ووقائعَ، فعَلِقت نفسُ عمرٍو بها ، واشتّد وُلوعُهُ وزادَ غرامُه ، وخطبَها إلى عمّه فطلب منه مهْراً يَعْجِزُ عنه، فأشار عليه بعض أصحابه بالخروج إلى (اِبرويزَ ) بنِ كسرى ، لِما كان بين جدودهما من الوصلة . فلما ذهب في الطريق مرَّ بعرّافٍ ، فبات عنده فاستعلم منه الأمرَ، فأخبره أنّه ساعٍ فيما لا يُدْرِك ، فعاد فوجدَ عمّه قد زوّج العقيلةَ لفَزاريٍّ ، فهام على وجهه إلى اليمامة ، فلما بنى بها الفَزاريّ ـ وكان عندها من العشق لعمرو أضعافُ ما عنده لها ــ فكانت تَشُدُّ الفَزاريَّ إذا جَنَّ الليلُ إلى كَسْرِ البيتِ وتَبيتُ في الخِدْر ، فإذا أصبحَ الصبحُ تُطْلِقُهُ فيَسْتَحيي أنْ يخبرَ العربَ بذلك، فأقام على هذا الحال سبعين ليلةً . فلمّا كَثُرَ توبيخُ العربِ له واختلافُ ظُنونِهم به ، خرج لا يَدري أين ذهب وأقامت العقيلة ببيتِ أبيها لا تتناول إلاّ الأقلَّ مما يمُسك الرمقَ ، ودأبُها البُكاء على عمرو وهو كذلك ، ولم يمُكنْهما الاجتماعُ . قال الغِربابيّ ،في عجيب الاتّفاق في تطابق أحوال القيامة ، فمرض عمرٌو مرضاً كاد أن يأتي على نفسِهِ فكان لا يُرى إلاّ شاخصاً إلى السماء ، متمسّكاً بسببٍ قد عَلَّقَه بيديْه من العِشاءِ إلى الصباح وهو ينشد : إذا جَنَّ ليلي فاضت العينُ أَدْمُعـــــاً على الخَدِّ كالغُــــــدران أو كالسحائب أَوَدُّ طُلوعَ الفجرِ والليـــــــــــــــلُ قائلٌ لقـــد شُدَّتِ الأفــــــلاكُ بعد الكواكبِ فمـــا أسفي إلاّ على ذوبِ مهجتي ولم أَدْرِ يومــاً كيف حالُ الحبائبِ فلما كان بعد أيام دخل عليه صديقُه فوجدَه غاصّاً بالضحِكِ مستبشراً فسأله فقال : لقد حدثتنـي النفسُ أنْ سوف نلتقي ويُبْــــدَلَ بعد بَيْنِنـــــــــــــا بتــــــــــــداني فقد آن للـــــــــدهرِ الخَـــــــؤون بانّــــــــــهُ لتــــأليف مــــــا قـد كان يلتئمـان ثم شهق شهقةً فاضت نَفْسُهُ فيها ، قال الغربابي فضبط اليوم الذي مات فيه فوجد موتُ عقيلةٍ في ذلك اليوم أيضاً . ( 20) وأخرج المصنِّفُ عن ابنِ دريدٍ عن الفرزدق ، قال: خرجتُ في طلبِ غلامٍ آبِقٍ، فلمّا صِرْتُ على ماءٍ لبني حنيفةَ جاءت السماءُ بالأمطارِ فلجأتُ إلى بيتٍ مِن جَريدِ النخلِ فيه جاريةٌ سوداءُ ، فأنزلتنـي فلم أَلبَثْ إلاّ ريثما أخذتُ الراحةَ وقد دخلتْ لي جاريةٌ كأنّها القمرُ ، فحيّتْ ثمّ قالت : ممن الرجلُ ؟ قلتُ تميميٌّ. قالت: من أيّها قبيلةٍ ؟ قلت: مِن نَهْشَل بنِ غالبٍ ، فقالت: إذاً أنتم الذين يقول فيكم الفرزدق: إنّ الذي سمك السماء بنى لنــا بيـتــاً دعائمُــــــــــهُ أعَزُّ وأطــــــولُ بيتـاً زُرارةُ مُحْتَبٍ بفِنــــائــــــــهِ ومُجاشِـــــعٌ وأبو الفوارس نَهْشَلُ قلت: نعم ، قالت: قد هَدَمَهُ جريرٌ بقوله: أخزى الذي سَمَكَ السماءَ مُجاشعاً وأحــــلَّ بيتَك بالحضيضِ الأوْهَدِ قال: فأعجبتنـي فلمّا رأت ذلك في عينـي قالت: أين تَؤمُّ؟ قلتُ : اليَمامةَ ، فتنفّست الصُعَداءَ ثمَّ قالت : تَذَكَّرتُ اليمامــــةَ إنّ ذكــري بها أهلَ المروءةِ والكرامَهْ ألا فاسقِ المليكَ أجَشَّ جَوْناً تجودُ بصحــــةٍ تلك اليمــامَـهْ أُحَيي بالســـــــــلامِ أبا نجيــــــدٍ فأهلٌ للتَحيّــــةِ والسلامَـــهْ قال: فأنِسْتُ بها فقلت: أَذاتُ خِدرٍ أمْ ذاتُ بَعْلٍ؟ فقالت : إذا رَقَدَ النيــــــامُ فإنّ عَمْراً تُؤرِّقُهُ الهمومُ إلى الصبـــاحِ تُقَطِّعُ قلبَه الذكرى وقلبـي فلا هو بالخَليِّ ولا بِصـــــاح سقى اللّه اليمامةَ دارَ قومٍ بها عَمْرٌو يحِنُّ إلى الرَّواح فقلت لها من عمرو فأنشدت: إذا رقد النيـــــــامُ فإنّ عَمْراً هو القمرُ المنـيرُ المستنيرُ وما لي في التَبَعُّلِ من بَراحٍ وإنْ رُدَّ التَبَعُّلُ لي أســــيرُ ثم سكتت كأنّها تسمع كلاماً ثمّ أنشأتْ تقول: يخيّلُ لي أبا كعبَ بنَ عَمرٍو بأنّك قد حملت على سـريرِ فإن يـــكُ هكذا يا عمرُو إني مبكرةٌ عليـــــك إلى القبـــــــورِ ثم شهقت شهقة فماتت . (21) قال الأخفش سعيد بن مسعدة ، خرجتُ في طلب ضالّةٍ لي، فوقفت على هذا البيت ، أو قال نَزَلنا على ماءٍ لِطيءٍ فإذا أنا بخيمةٍ منفردةٍ فقصدتُها، وأخرج الحكايةَ في نديمِ المسامرةِ عن أبي عمرٍو بنِ العَلاءِ عن تميميٍّ، فأسنَدَها إلى الأصمعيِّ ، وأخرج الدقّاقُ عن الأسديِّ أنّ المباشِرَ للحِكايةِ هو الأصمعيُّ ، وعلى كِلا التقديرين، فمَحلُ الاتِّفاقِ أنّ الرجلَ حين انتهى إلى البيتِ رأى عجوزاً عليها بقيّةٌ من جمالٍ ساهيةً متفكِّرةً ، وفي كَسْرِ البيت شخصٌ كالخَيالِ مُسَجًّى عليْه قطيفةٌ . قال: فسألتُها عنه ، فقالت: هو ولدي وشأنُه كذا .. وأعادت القصّةَ ثم قالت: هل لك أن تَعِظَهُ؟ فوعظتُه وزَهَّدتُه حتى قلت له : أنّها امرأةٌ كغيرِها، ألا تَرى كيف يَقول كُثَيرٌ ؟: هل وصــــلُ عَزَّةَ إلاّ وصلُ غانيةٍ في وصلِ غانيةٍ مِنْ وَصْلِها خلفُ فقال: هو مائقٌ (( يعني أحمق )) وأنا وامِقٌ (( يعنـي صادق الألفة )) فلستُ كهوَ إنمّا أنا كأخي تميمٍ (( يعنـي جميلَ بثينةٍ )) حيث يقول: ألا لا يَضيرُ الحُبُّ ما كان ظاهـــراً ولكنَّ ما أخفى الفـــــــؤادُ يَضـيرُ ألا قاتَلَ اللّهُ الهوى كيف قادني كـمــــا قِـيـدَ مغلولُ اليدين أسيرُ ثم أنشــــــد: ألا ما للمليحــةِ لا تعــــــــــــــــود أبخــلٌ بالمليحــةِ أمْ صُـــــــــدود؟ مرضتُ فعادني عُوّادُ قومي فما لَكِ لم تُرَيْ فيمن يَعـــود؟ فقَدْتُكِ بينَهمْ فبكيتُ شـوقاً وفَقْدُ الإلْفِ يا أملي شديـدُ فلو كنتِ المريضةَ، لا تكوني لَعُدْتُكُمُ ولو كَثُرَ الوعيـــــــــــــــدُ ولا استبطأت غيرك فاعلميـــه وحولي من ذوي رَحِمي عــــديدُ ثم فاضت نفسُه فجزعت ، فقالت العجوز : لا تخَفْ فقد استراح مما كان فيه ، ولكن إنْ أحببتَ كمالَ الصنيعةِ فانْعَهُ إلى الأبياتِ ، ففعلتُ، فخرجت جاريةٌ عليها أَثَرُ العُرْسِ وهي أجملُ مَن رأيتُ فتخطَّتْ رقابَ الناسِ حتّى وقفتْ عليه فقبّلتْه وأنشدت : عَــــــداني أن أزورك يا مُنـــــــــايا مَعاشِـــرُ كلهم واشٍ حَسودُ أذاعوا ما علمتَ من الدواهي وعـابونا وما فيهم رشيـــــــــدُ فأمّـــــــا إذْ حَلَلْتَ ببطنِ أَرْضٍ وقصرُ الناسِ كلِّهمُ اللُّحودُ فلا بقيتْ ليَ الدنيــــــــــا فُواقاً* ولا لهــمُ ولا أثَري عـديـــــــدُ * فَواقُ الناقة وفُواقُها : هو القتُ مابين الحَلْبَتْين ثم خرت ميّةً فخرج شيخٌ وهو يقول لئن لم أجمعْ بينَكما حيّين لأجمعن بينكما ميّتين ودفنَهما في قبر واحد . ( 22 )
ومن هذه القصص الشهيرة قصة ليلى الأخيلية وعاشقها توبة الخفاجي، وهي طويلة نروي منها ما كان بين ليلى والحجاج لما فيها من فائدة نتوخّاها . فقد جاء في الأمالي لأبي عليٍّ القالي أنّ ليلى الأخيليّةَ دخلت على الحجّاج يوماً فلما رآها الحجاج طأطأ رأسَه حتّى ظُنَّ أنّ ذقنَه قد أصاب الأرضَ ، فجاءت حتى قعدت بين يديه يقول الراوي فنظرت فإذا امرأةٌ قد أسنّت حسنةُ الخُلِقِ ومَعَها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيليّة ، فسألها الحجاجُ عن نَسَبِها فانتسبت له ؛ فقال لها : يا ليلى ، ما أتى بك ؟ فقالت : إخلافُ النجوم، وقلةُ الغيوم؛ وكَلَبُ البرد، وشدّةُ الجَهْد، وكنتَ لنا بعدَ الله الرِفْدَ. فقال لها: صِفي لنا الفِجاج؛ فقالت: الفجاجُ مغبرَّةٌ، والأرضُ مُقْشَعِرّةٌ؛ والمَبْركُ معتلٌّ، وذو العيال مُخْتَلٌّ، والهالكُ للقِلّ؛ والناس مُسنتون ، رحمةَ الله يرجون؛ وأصابَتْنا سنون مُجْحِفَةٌ مبلِطةٌ، لم تدع لنا هَبْعاً، ولا ربعاً؛ ولا عافطةً ولا نافطةً؛ أذهبت الأموالَ، ومزّقت الرجال وأهلكت العِيالَ ؛ ثم قالت : إني قلت في الأميرِ قولا ؛ قال: هاتي؛ فأنشأت تقول: أَحجّاجُ لا يَقلُلْ سلاحُكَ إنَّها الـــــــــ ..مـنايا بكف الله حيث تراها إذا هبط الحجّاجُ أرضــــــاً مريضــــــــةً تتبّع أقصى دائهــــــــا فشفاهــــــــــــــــــا شفاها من الداء العضال الذي بهــــــا غُــــــلامٌ إذا هزَّ القنـــــــاةَ سقاهـــــــــــا سقاها فروّاهـــــا بشربِ سِجالِـــــــــــــه دماءَ رجالٍ حيث مــال حَثــاهــــــــــا إذا سمــــع الحجّاج زر كتيبـــــــــــــــــــــةٍ أَعَدَّ لهـــــا قبل النزول قراهـــــــــــــــــا أعَدَّ لهــــــــــــــــــــــا مسمومـةً فارسيّــــــــــــة بأيدي رجال يحبسون صراهــــــــــــــــــــا فمــــــا وَلَدَ الأبكارُ والعُونُ مثلـــــــــــــــــــــه ببحــر ولا أرضٍ يجفُّ ثراهـــــــــــــــا فلما قالت هذا البيت قال الحجاج : قاتلها الله ! والله ما أصاب صفتـي شاعرٌ مذ دخلتُ العراقَ غيرُها، ثم التفت إلى عنبسة فقال: والله إني لأُعِدُّ للأمر عسى ألا يكون أبداً؛ ثم التفت إليها فقال: حسبك؛ قالت: إني قد قلت أكثر من هذا ؛ قال: حسبك ! ويحك حسبك ! ثم قال: يا غلام، اذهب إلى فلان فقل له: اقطع لسانها؛ فذهب بها فقال له: يقول لك الأمير: اقطع لسانها؛ قال: فأمر بإحضار الحَجّام ، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمُّك ! أما سمعت ما قاله ، إنّما أمرك أن تقطع لساني بالصِلَة؛ فبعث إليه يستثبته؛ فاستشاط الحجاج غضباً وهم بقطع لسانه وقال: ارْدُدْها ، فلما دخلت عليه قالت : كاد وأمانةََ الله يقطع مِقْولي ، ثم أنشأت تقول: حجّاج أنت ا لذي ما فوقـــــــــــــــه أحــــــــــــــدُ إلا الخليفــــــــــــــــــــةُ والمستغفَرُ الصَمَـــــــــــــــــــــــدُ حجّاجٌ أنتَ شِهابُ الحربِ إنْ لقحَتْ وأنت للنــــــــــــــــــاس نورٌ في الدُجا يَـقِــــــــــــــدُ ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه ؟ قالوا: لا والله أيها الأمير ، إلا أنّا لم نَرَ قَطُّ أفصحَ لساناً، ولا أحسنَ محاورةً ، ولا أملَحَ وجهاً ، ولا أَرْصَنَ شِعراً منها ! فقال: هذه ليلى الأخيليّة التي مات توبة الخَفاجيُّ من حبها! ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعضَ ما قال فيك توبة؛ قالت: نعم أيها الأمير ، هو الذي يقول: وهل تبكين ليلى إذا مت قبلهــا وقام على قبري النســـــــاء النوائـــحُ كما لو أصاب الموتُ ليلى بكيتُهــــــــا وجاد لها دمـــــــــعٌ من العــين سافـــــــح وأُغبَطُ من ليلى بما لا أَنالُـــــــــــــــــــــه بلى كل ما قرّت به العــــــين طائـــــح ولو أنَّ ليلى الأخيليّـــــــــــةَ سلّمَـتْ عليَّ ودوني جنـــــــدل وصفــــائـــــــــــــح لسلّمتُ تسليمَ البشاشةِ أو زقـــــــــا إليها صدى من جانب القبر صائح فقال : زيدينا من شعره يا ليلى ؛ قالت : هو الذى يقول: حمامــــــــــــــــــــةَ بطنِ الواديين ترنّمي سقاك من الغُرِّ الغوادي مَطيرُهــــــــا أَبينـي لنــــــا لا زال ريشُك ناعمـــــــاً ولا زلت في خضراءَ غضٍّ نَضيرُهــا أبينـي لنـــا لا زال ليلى تبرقعت فقـــــد رابني منها الغداة سفورهـــــــــــــا وقــــد رابني منها صدودٌ رأيتُـــــــــــــــــــه وإعراضهـــا عن حاجتـي وسرورهــــــا وأشرف بالقُورِ اليَفـــــــــــــــاع لعلنـي أرى نار ليلى أو يراني بصـيرهــــــــا يقول رجالٌ لا يَضيرك نأيُهــــــــــــــــــا بلى كل ما شفَّ النفوسَ يَضيرها بلى قد يَضيرُ العينَ أنْ تُكثرَ البُـــكا ويمنع منها نومهـــــــا وسرورهــــــــــــــــا وقد زعمت ليلى بأني فاجــــــــــــــر لنفسي تُقاها أو عليها فجورهــــــــــــــــا فقال الحجاج : يا ليلى ، ما الذي رآه من سفورك ؟ فقالت : أيها الأمير ، كان يُلِمُّ بي كثيراً ، فأرسلَ إليَّ يوماً إنّي آتيك ؛ وفطن الحيُّ فأرصدوا له ؛ فلمّا أتاني سَفَرْتُ عن وجهي ؛ فعلم أنَّ ذلك لشرٍّ فلم يَزِدْ على التسليم والرجوع فقال: لله درك ! فهل رأيت منه شيئاً تكرهينَه ؟ فقالت: لا والله الذي أسأله أنْ يُصلِحَك، غير أنّه مرّة قولاً ظننتُ أنّه قد خضع لبعض الأمر ، فأنشأت تقول: وذي حاجـــــــــــــةٍ قلنا له لا تَبُحْ بهــا فليس إليها ما حييت سبيـــــــل لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونَـــــــــه وأنت لأُخرى صاحبٌ وحليلُ فلا والله الذى أسأله أن يصلحك ، ما رأيت منه شيئاً حتى فرق الموت بيني وبينه ؛ قال: ثم مَهْ ! قالت: ثم لم يلبث أن خرج فى غزاة له فأوصى ابن عم له : إذا أتيت الحاضر من بنى عبادة فناد بأعلى صوتك: عفــا الله عنها هل أبيتن ليلةً من الدهر لا يسري إليَّ خيالُها وأنا أقول: وعنه عفا ربى وأحسن حاله فعزّتْ علينا حاجةً لا ينالهــــــا قال: ثم مَهْ ! قالت : ثم لم يلبث أن مات فأتانا نعيه؛ فقال: أنشدينا بعض مراثيك فيه ؛ فأنشدت لتبْـــكِ عليه من خَفاجَةَ نِسْوةٌ بمــــاء شؤونِ العَبْرَةِ المتحَدِّرِ قال لها: فأنشدينا، فأنشدته: كأنَّ فتى الفتيان توبــــــةَ لم يُنــخْ قلائصَ يَفْحَصْنَ الحَصى بالكراكر فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي - وكان من جلساء الحجاج : من الذي تقول هذه هذا فيه ؟ فو الله إني لأظنُّها كاذبة ؛ فنظرت إليه ثم قالت: أيها الأمير ، إن هذا القائل لو رأى توبةَ لَسَرَّهُ ألاّ تكون فى داره عذراءُ إلاّ هي حاملٌ منه؛ فقال الحجاج : هذا وأبيك الجواب وقد كنتِ عنه غنياً ، ثم قال لها: سلى يا ليلى تعطي ؛ قالت : أعطِ فمثلُك أعطى فأحسن ؛ قال : لك عشرون ؛ قالت: زد فمثلُك زاد فأجمل ؛ قال : لك أربعون ؛ قالت : زِدْ فمثلُك زاد فأكمل ؛ قال : لك ثمانون؛ قالت: زد فمثلك زاد فتمم ؛ قال: لك مائة ، واعلمي أنّها غنم ؛ قالت: معاذ الله أيها الأمير ! أنت أجود جوداً، وأمجدُ مجداً ، وأورى زَنْداً، مِن أنْ تجعلَها غَنَماً؛ قال: فما هي ويحَك يا ليلى ؟ قالت : مئةٌ من الإبلِ برعاتِه ؛ فأمر لها بها ، ثم قال: ألك حاجةٌ بعدَها ؟ قالت: تَدفع إليَّ النابغةَ الجَعديِّ قال : قد فعلت ، وقد كانت تهجوه ويهجوها ؛ فبلغ النابغةَ ذلك ، فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك ؛ فاتّبعتْه إلى الشام؛ فهرب إلى قتيبةَ بنِ مسلم بخُراسان، فاتبعتْه على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة ، فمات بقَوْمس . وحكي :أنّه لما مات توبة ومضى على ذلك زمان وتزوجت محبوبتُه ليلى الأخيليّة مرت مع زوجها يوماً بقبر توبة فقال: ألا تسلمين عليه لننظر هل صدق في قوله: ولو أنّ ليلى الأخيليّـــــــــــةَ سلّمت عليّ ودوني جَنــــــــــدلٌ وصفائــــــــــــح لسلّمت تسليمَ البشاشــــــــــةِ أوْ زَقا إليها صَدًى مِن جانِبِ القبرِ صائحُ فسلّمتْ عليه فنَدَّتْ هامَةٌ من ناحية قبرِهِ وصَرَخَتْ ، فنفرَ جملُها وسقطت فاندقَّ عُنُقُها فماتت فدُفِنت بجانبه . (23)
--------------------------------------------------------- شرح بعض مفردات ليلى الأخيلية: قوله القُور : أكوم التراب ، اليفاعُ : المرتفعة . زَرَّ الشيءَ : جمعَه جمعاً شديداً . يَزُرُّ الكتائب بالسيف:يشلها ، قولها :إخلاف النجوم ، تريد : أخلفت النجوم التي يكون بها المطر فلم تأت بمطر . وكَلَبُ البَرْدِ : شِدَّتُه ، والرفد : المعونة ، والرِفدةُ العطيّة ، ويقال: رفدته من الرفد وأرفدته إذا أعنته على ذلك ، الفجاج : جمع فج، والفج ، كل سعةٍ بين نشازين ، وقولها: والمبرك معتل، أرادت الإبل فأقامت المبرك مكانها لعلم المخاطب إيجازاً واختصاراً ، كما قالوا: نهارُه صائم وليلُه قائم . وقولُها: وذو العِيالِ مختلّ، أي محتاج ، والخلة الحاجة . وقولها: والهالك للقِل،ّ أي من أجل القلة. وقولها : مسنتون ، أى مقحطون ، والسَنَة : القحط ، ومجحفة : قاشرة . وقولها : مبلطة ، أي ملزقة بالبلاط ، والبلاط : الأرض الملساء ، وهو الهالك الذي لا يجد شيئاً . والهيع : ما نتج في الصيف. والربع : ما نتج في الربيع . وقولها : ولا عافطة ولا نافطة ، أي لم تدع لنا ضائنة ولا ماعزة ، والعافطة ، الضائنة : والعفط : الضرط ، يقال: عفطت تعفط عفطاً إذا ضرطت ، فهى عافطة . والنافطة : الماعزة ، والنفط: العطاس ، يقال: نفطت تنفط إذا عطست ، فهي نافطة . القلاص : جمع قَلوص ، وهي الناقة الفتية طويلةُ القائم ، وهي أسرع الإبل . يفحصن : يَقْلِبْنَ . الكراكر الجماعات ، واحدتها كركرة .