عدد الرسائل : 46 العمر : 76 التخصص : شاعر وباحث الدولة : سورية تاريخ التسجيل : 12/05/2010
موضوع: المرأة في الغزل الصوفي (5ـ3) عبد القادر الأسود 25/5/2010, 10:15 am
تابع .. المرأة في الغزل الصوفي للشاعر: عبد القادر الأسود
تابع الباب الخامس
* وإتماماً للفائدة نختم هذا الباب بقصّةٍ قرآنيةٍ تدور أحداثها في قصر ملك مصر بين زوجه زُليخا ونبي الله يوسف بن يعقوب { عليهما السلام } وهي قصّةٌ مليئة بالعبر إضافة للتشويق والجذب . حكيَ أنّ زُلَيْخا كانت من أجملِ النِساءِ ، وكانت بنتَ سلطانِ المَغْرب واسمُه طَيْموس فرأتْ ذات ليلةٍ في المنام غُلاماً على أحسنِ ما يكون من الحُسنِ والجمالِ ، فسألتُه عن اسمِه فقال : أنا عزيزُ مِصْرَ ، فلمّا استيقظتْ افتتنت بما رأت ، وأدّى ذلك إلى تَغيُّرِ حالها ، ولكنّها كتمت حالَها عن الناس دهراً . وكان قد خطبها عددٌ من الملوكِ فأبت إلاّ عزيزَ مصر ، فجَهَّزَها أبوها بما لا يحصى من العبيد والجواري والأموال وأرسلها إلى مصر ، فاستقبلَها العزيزُ بجمعٍ كثيرٍ في زينةٍ عظيمةٍ ، فلمّا رأتْه زُليخا فوجئت أنّه ليس الذي رأتْه في المنامِ وأسقِطَ في يدها فأخذَتْ تبكى وتتحسّرُ على ما فات من المطلوب . ونزلت زُليخا في دارِ العزيزِ ، وكان العزيزُ عِنِّيناً لا يقدر على المواقعة فبقيت زُليخا بِكراً . ثمّ كان ما كان من حسدِ إخوةِ يوسُف وإلقائه في الجبِّ والتقاطِه من قِبَلِ أحدِ التُجّارِ وعرضه للبيع كعبدٍ رقيق في سوق النخاسة في مصر ، فلما رأتْه زُلَيْخا ، امرأةُ العزيز علمت بأنّه هو الذي رأته في منامها،وطلَبَتْ من زوجها أنْ يَشْتريَه . رُوي أنّ يوسُف كان يأوي إلى بُستانٍ في قصرِ زُليخا يَعبُد الله فيه ، وكان قد قَسَّمَ نهارَه ثلاثةَ أقسامٍ : ثًلُثاً لصلواتِهِ وثُلُثاً يَبكى فيه وثلثاً يُسبِّح اللهَ فيه ويَذْكُرُه ، فلمّا بَلَغَ مبلغَ الرجال جعلتْ زُليخا تُراودُه عن نفسِه وهو يهرُبُ منها إلى البستان ، فلمّا طال عليها الصدُّ ، ونارُ العِشقِ تتأجّجُ في صدرِها قرّرت أنْ تَبنى لهُ بيتاً مُزيَّناً بكلِّ ما تَقدر عليه من الزينة والطيب ليكون وسيلةً إلى صُحْبَةِ يوسف واستدْعَتْ مزيّنين فزيّنوه بكلِّ ما يمكن من الزينة ولما فرغ الصُنّاع والفنانون دَعَتْ العزيزَ فدخل القصرَ فأُعجب بَه غاية الإعجاب لكونه على أسلوبٍ عجيبٍ فريد ، واقترح عليها تسْميّتَه بيتَ السُرور ، ثم خرج فتزيّنت ولبست أحسن ما عندها ، وكانت بيضاءَ حسناءَ بين عينيها خالٌ يتلألأُ حُسْناً ولها أربع ذَوائبَ قد نظمتَها بالدر والياقوت وأرسلتْها على صدرِها، وجاءوا بيوسف ، فلمّا دخل عليها في القسم الأوَّلِ من البيت غافلتْه وأَغلقتْ الأبوابَ وراودتْه عن نفسه بكل ما أوتيت من فتنة وحيلة ، ثم أدخلته في القسم الذي يليه فاغلقتْه أيضاً وراودته بكل ما يمكن فلم يستجب لها ، ودفعها لبعدها عنه ، إلى أن انتهيا إلى القسم السابع فاغلقته أيضاً وفعلت به كما فعلت في الأقسام السابقة وذلك قولُه تعالى { وغلّقتِ الأبوابَ} عليها وعليه وكانت سبعة أبواب ، ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل الدالّةِ على الكثرة {وقالت : هَيْتَ لك}وهَيْتَ اسمُ فعلٍ معناه أَقْبلْ وبادِرْ وفي قراءةٍ هئتُ لك أي تهيّأتُ لك ، واللامُ للبيانِ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ ، أي لك أقول هَيْتَ . و عن ابن عباسٍ { رضي الله عنهما } قال: كان يوسف إذا تبسّم رأيتَ النورَ في ضواحكه ، وإذا تكلّم رأيتَ شعاع النور في كلِمه . فقالت له : يا يوسف إنّما صنعتُ هذا البيتَ المزيََّن من أجلك . فقال يوسف: يا زُليْخا إنّما دعوتِِنـي إلى حرام وحسبـي ما فعل بي أولادُ يعقوب ، ألبسوني قميصَ الذُلِّ والحزنِ. يا زُليخا إني أخشى أنْ يصبح هذا البيتُ الذي سمّيْتِهِ بيتَ السرورِ أخشى أن يصبح بيتَ الأحزان والثُبورِ وبُقعةً من بِقاع جهنّم . فقالت زُليخا: يا يوسف ما أَجملَ عينيك . قال: هما أوّلُ ما يسيلُ إلى الأرضِ مِن جَسدي بعد الموت . قالت: ما أبهى وجهك . قال: هو للتراب . قالت : ما أَحسن شعرك . قال: هو أول ما ينتثرُ من جَسدي . قالت : إنّ فراش الحرير مبسوطٌ قمْ فاقضِ منـي وطرَك . قال: إذاً يَذهب نصيبـي من الجنة . قالت : إنَّ طَرْفي سكران في محبّتك ، فارفع طرفَك ومتِّعه بحسنـي وجمالي . قال: صاحبُك أحقُّ بحسنِك وجمالِك منـّي ، قالت : هيتَ لك { قال : معاذ الله } و{معاذ} هو من جملة المصادر التـي ينصبُها العرب بأفعالٍ مُضْمَرةٍ ولا يُظهرونها ، كقولهم : سبحانَ اللهِ وغفرانَكَ اللهمَّ وعونَك {معاذ}أي أعوذ بالله مَعاذاً مما تَدعونَنـي إليه من عصيانٍ وخيانةٍ ثمّ علّل الامتناع بقوله { إنّه } أي العزيز { ربي } أي سيّدي الذي اشتراني { أحسن مثواي} أي أحسن تعهدي ورعايتـي وحيث أكرمنـي فما جزاؤه أن أسيء إليه بالخيانة في حرَمِهِ ،{ إنّه لا يفلح الظالمون } {ولقد همت به } الهمّ عقْدُ القلبِ على فعلٍ ، خيراً كان أوشرّاً، أي همّت بمخالطتِه ومجامعتِه ، وعزمت عزماً جازماً على ذلك ، ولعلّها بادرت بأفعالٍ من مثلِ بَسْطِ يَدِها إليه أو محاولةِ المعانقةِ وغيرِ ذلك مما اضطرّه إلى الهربِ نحو الباب {وهَمَّ بها لولا أن رأى برهان ربّه } أقول وبالله التوفيق وعليه السداد والتصويب ، لولا حرفُ امتناعٍ لوجود ، أي امتنع عن الهَمِّ بها لوُجودِ البرهان مسْبَقاً ، والبرهان هو الوحي الذي نزل عليه في الجب أوَ لم يقل: { وأوحينا إليه لتنبّئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ؟}وقد صِيغت الآيةُ{ وهمَّ بها لولا...} في غايةٍ الإتقان وناصع البيان للدلالة على عظيم الفتنة وشدّة الإغراء ، فهي سيّدتهُ أوّلاً ومن عادة العبدِ المملوك أنْ يحرص على إرضاءِ سيِّدِهِ ومالِكِهِ أو سيّدَتِهِ طمَعاً بالحُظوةِ عنده ، وهما ــ ثانياً ــ في بيتٍ واحدٍ منفرديْن وراء سبعةِ أبوابٍ بعيدين عن أعين الواشين والرقباءِ ، بحيثُ لا يمكنُ لمخلوقٍ أنْ يطلع على ما يكون بينَهما ، في جوٍّ تأججت في العاطفة والتهب فيه القلب بالشوق وهو أمرٌ في غاية من الفتنة والإغراء ، فهي قبل ذلك وبعده امرأةٌ حسناء في منتهى الزينة والروعة والجمال ، وهو في ريعان الشباب وذروة ثورة الغريزة ، كلّ هذه المعاني بما فيها من فتنة وإغواء وإغراء اختصرته الآية الكريمة { وهمَّ بها لولا .. } فتنة لا يمكن الإفلات من شركها إلاّ لمن عصمه الله ، فهو لو لم يكن قد رأى برهان ربّه {الوحي}مسبقاً لكان همَّ بها ،وإنّما عُبّر عنه بالهمّ لمجرد وقوعه في صُحبة همِّها في الذكر بطريق المشاكلة لا لِشُبْهةٍ به ولقد أشير إلى تباينهما بأنّه لم يَقُلْ ولقد همّا بالمخالطة ، أو هَمَّ كلٌّ منهما بالآخر ، وإنّما فُصِل بين همها وهمه لاتفاقهما في اللفظ واختلافهما في المضمون واللهُ أعلم . وقيل{ وهمّ بها } أي هَمَّ للطبيعةِ القاضية بذلك لكنَّه قَمَعَ مُقتضاها ولم يُطعْ حُكْمَها ومؤدّاها ، لأنَّ عدم حصول مقتضى الطبيعة نُقصان ، بل الكمالُ أنْ توجد الطبيعة البشريّة ولكن لا يطاع حكمُها معَ قوّة الهيجان غايةِ التَوَقان ، فيترقّى بذلك الإنسانُ ويَنالُ المراتبَ العالية عندَ الرحمن . ألا ترى أنّ العِنّين لا يُمْدَحُ عند تَرْكِ الجِماع ؟ ولا المتعفِّفُ عند الفقد ؟ . قال الشافعيُّ {رضي الله عنه } أربعةٌ لا يَعبَأُ اللهُ بهم يوم القيامة : زُهْدُ خَصِيٍّ، وتقوى جنديٍّ ، وأمانةُ امرأةٍ ، وعبادةُ صَبـيٍّ ، و هو محمولٌ على الغالب ــ كما في المقاصد الحَسَنة . وجاء في الخبر أنّه ليس من نبـي إلاّ وقد أخطأ أو هَمَّ بخطيئة ــ غيرَ يحيى بنِ زكريا ــ ولكنّهم كانوا معصومين عن الفواحش . فمن نَسَبَ إلى الأنبياء الفواحش كالعزمِ على الزِنا ونحوِه ، الذي يقوله بعضُهم في يوسُفَ كُفْرٌ لأنّه شتمٌ لهم وانتقاص من قدْرهم . {كذلك } الكاف منصوب المحل وذلك إشارة إلى الإراءة المدلول عليها بقوله تعالى { لولا أن رأى برهان ربه } أي مثل ذلك التبصير والتعريف عرّفناه برهاناً من قبل { لنصرف عنه السوءَ } أي خيانة السيّدِ { والفحشاء} والزنا لأنّه مفرطٌ في القبح . وفيه آيةٌ بيّنةٌ وحِجّة قاطعة على أنّه لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجّهَ إليها قلبُه قطّ ، وإلاّ لما قيل لِنَصرف عنه السوء والفحشاء وإنمّا توجّه إليه ذلك من خارجٍ فصرفَهُ تعالى عنه بما فيه من موجبات العفّة والعصمة كما في الإرشاد { إنّه من عبادنا المخلَصين } الذين أخلصهم الله لطاعة بأنْ عصَمَهم مما هو قادحٌ فيها . وفيه دليل على أنّ الشيطان لم يجِدْ إلى إغوائه سبيلاً . ألا ترى إلى قوله{ فبعزتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادَك منهم المُخلَصين }؟ قال في بحر العلوم واعلم أنّه تعالى شهد ببراءته من الذنب ومدحه بأنّه من المحسنين وأنّه من عباده من المخلَصين ، فوجب علينا أن لا نتوقف في نزاهته وطهارة ذيله وعفّتِه في مواقع العِثار . حكي عن علي بن الحسن {رضي الله عنهما } أنّه كان في البيت صنمٌ فقامت زُليْخا وسترتْه بثوبٍ فقال: لها يوسُُف : ِلَم فعلتِ هذا ؟ قالت: استحيَيْتُ منه أن يراني على المعصية ، فقال يوسف: أتستحين ممن لا يَسمع ولا يُبْصرُ ولا يَفقَه ؟ وإنّما الأحقُّ أنْ أستحيي من ربي الذي خلقنـي فأحسن خَلْقي . {واسْتَبَقا الباب } بحذفِ حرْفِ الجّرِّ ، أي{ تسابقا إلى الباب} الذي هو المخرج من الدار ، يوسف للفِرار ، وهي لتمنعَه من فتحه والخروج {وقَدَّتْ قميصَه من دُبُرٍ } أي جذبته من خلفِهِ فانشقَّ القميصُ طولا ًنصفين ،وهو القَدُّ أمّا الشَقُّ عرضاً فهو القَطُّ { وألفيا } وجدا{ سيِّدَها } زوجها لأن المرأة ــ في العادة ــ كانت تقول لزوجها سيِّدي ، ولم يقلْ سيدَهما لأنّ مُلْكَه يوسُفَ لم يَصِحَّ ، فلم يكن له سيِّداً على الحقيقة { لدى الباب } مقبلاً ليدخل ، و قيل كان جالساً مع ابنِ عمٍّ لزُليخا يقال له يمليخا . روي عن كعب الأحبار { رضي الله عنه } أنّه لمّا هرب يوسف جعل فراشُ القُفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب . {قالت } منزِّهةً نفسَها { ما جزاءُ مَن أراد بأهلِك سوءاً } من زِنًى ونحوِه ، وما نافية أي ليس جزاؤه { إلاّ أن يُسجن أو عذابٌ أليم } إلاّ السجنُ أو العذاب الأليم ، مثل الضرب بالسوط ونحوِه ، و {إلا } استفهاميّة أيْ : أيُّ شيءٍ جزاؤه غير ذلك ؟ كما تقول مَن في الدار إلاّ زيدٌ ؟. قال العزيز : مَن أراد بأهلي سوءاً ؟ قالت : زُليخا كنتُ نائمةً في الفراش فجاء هذا الغلامُ العِبرانيُّ وكشف عنّـي ثيابي وراودني عن نفسي، فالتفتَ العزيزُ إليه وقال: يا غلام أهذا جزائي منك حيثُ أحسنتُ إليك وأنت تحزنـنـي؟ وكأنّّه قيل فماذا قال يوسف حينئذ؟ فقيل { قال } دفاعاً عن نفسه وتنزيهاً لعِرضِه { هي راودتنـي عن نفسي } طلبتنـي للمواقعة والمعاشرة . فقال العزيز : لا أقبل قولك إلاّ ببرهان، وفي روايةٍ نظر العزيزُ إلى ظاهر قولِ زُليْخا وتَظلُّمِها فأمرَ أنْ يُسجن يوسُفُ . وعند ذلك دعا يوسفُ اللهَ بإنزال براءته . وكان لزُليخا خالٌ له ابنٌ في المهد عمره ثلاثةُ أشهرٍ ، أو أربعةٌ ، أو ستّةٌ ، على اختلافِ الروايات ، فهبط جبريل إلى ذلك الطفل وأجلسَه في مهدِه وقال له : اشهد ببراءة يوسُف ، فقام الطفل من المهد وجعل يسعى حتى قام بين يدي العزيز ، وكان في حِجرِ أمِّه كما قال الله تعالى { وشهِدَ شاهدٌ مِنْ أهلِها } أي ابنُ خالِها الذي كان صبيّاً في المهدِ وإنّما ألقى الله الشهادةَ على لسان من هو من أهلها ليكون أوجبَ للحجّة عليها وأوثقَ لبراءةِ يوسف وأنفى للتهمة عنه . ــ وليست هي المرّةُ الأولى التـي يتكلّم فيها طفل في مهده بإذن الله ، فالله الذي أنطق الكبار وأخرس بعضهم قادر على أن يُنطق الصغارَ وحتى الجمادَ إن شاء ، وقد فعل فخرق العادة إظهاراً لحقٍّ أو إنفاذاً لحكمةٍ يعلمُها ، سبحانه ، فقد تكلَّم في المهد ــ فيما نعلم ــ جماعةٌ . منهم شاهد يوسف هذا . ومنهم نبيُّنا محمد {صلى الله عليه وسلم} فإنّه تكلّم في المهد في أوائل ولادته ، وكان أوّل كلامه أنْ قال ( الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) ( 22 ) كما روى الواقدي والبيهقي وغيرُهما كثير ومن الذين تكلَّموا في المهد سيدنا عيسى {عليه السلام} وقد نصَّ على ذلك القرآنُ الكريم في سورة مريم بقوله {سبحانه}{فناداها من تحتها ألاّ تحزني قد جعل ربُّك تحتَك سريّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) } ثم { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} . ومنهم مريم والدة عيسى {عليهما السلام}. ومنهم يحيى {عليه السلام} . ومنهم إبراهيم الخليل {عليه السلام} فانّه لمّا سقط على الأرض استوى قائماً على قدميه وقال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد، الحمد لله الذي هدانا لهذا. ومنهم نوح { عليه السلام } فانّه تكلّم عُقيْبَ ولادته حيث ولدته أمّه في غارٍ خوفاً على نفسها وعليه ، فلمّا وضعتْه وأرادت الانصراف قالت: وا نُوحاه، فقال: لا تخافي أحداً عليّ يا أمّاه فإنّ الذي خلقنـي يحفظنـي . ومنهم موسى {عليه السلام} فإنّه لمّا وضعتْه أمّه استوى قاعداً وقال: يا أمّاه لا تخافي ، أي مِن فرعون إنّ الله معنا . ثمَّ إنَّ سيدنا يوسف {عليه السلام} تكلم في بطن أمّه فقال : أنا المفقود والمغيّب عن وجه أبي زماناً طويلاً فأخبرت أمُّه والدَه بذلك فقال لها: اكتمي أمرك . ومنهم مبارك اليمامة ؛ قال بعضُ الصحابة { رضي الله عنهم } دخلتُ داراً بمكة فرأيتُ فيها رسولَ الله وسمعتُ منه عَجَباً ، جاءه رجلٌ بصبـيٍّ يوم ولادته وقد لفّه في خُرقةٍ فقال النبـيُّ { عليه السلام } : « يا غلام مَنْ أنا » قال: الغلام بلسان طَلْقٍ أنت رسولُ الله ، قال(صدقتَ بارك اللهُ فيك)) (23) ثمّ إنّ الغلام لم يتكلم بعدها بشيء آخر في طفولته فكنّا نسمّيه مبارك اليمامة ، وكانت هذه القصة في حَجَّة الوداع . ومنهم جريج الراهب فقد روى الحكيم الترمذي عن أبي هُريرة {رضي الله عنه } أنّ رسول الله { صلى الله عليه وسلم } قال : ((إن جُريجاً الراهب كان متعبداً في صومعة زمن بني إسرائيل ، وكان له أمٌّ تأتيه فتقول: يا جريج فتقطع صلاتَه فيكلّمها ، فأتتْه يوماً فجعلت تُنادى يا جريج ، فجعل لا يكلمها ولا يقطع صلاتَه ويقول يا ربِّ أمّي أمي وصلاتي فلا يكلّمها ، فلمّا رأتِ العجوزُ ذلك خرجت وقالت اللهمّ إنْ كان جريجٌ يسمع كلامي ولا يكلّمني فلا تُمِتْهُ حتى ينظرَ في أعينِ المومِسات ، وكانت راعيةٌ وراعِ يأويان إلى ديرِه فواقعََها الراعي فحمَلتْ . وكان أهلُ القرية يُعْظِمون الزنا إعظاماً شديداً فلمّا ولدت أخذها أهل القريةِ فقالوا : ممن فقالت من جُريج الراهبْ نِزل فوقع بي فحملت فأتاه قومه فنادوه يا جريج فجعل يقول يا رب قومي وصلاتي وجعل لا يكلمهم فلما رأوا ذلك ضربوا صومعته بالفؤوس فلما رأى ذلك نزل إليهم فقال مالكم ؟ قالوا : ذكرت هذه أنّها ولدت منك فضحك ثمّ صلى رَكعتين ثمّ وضعَ يدَه على رأسِ المولودِ فقال مَن أبوك قال الراعي الذي كان يأوي معها إلى ديرِك فلمّا رأى قومُه ذلك جَزِعوا ذلك مما صنعوا به وقالوا دعْنا نَبْني صومعتَك من ذهبٍ وفضّةٍ قال : لا أعيدوها على ما كانت . قال له قومُه ولم ضحكت ونحن نريدُ بك ما نريد من القتل والشتم قال ذكرتُ دعوةَ والدتي ألاّ أموتَ حتى أَنظُرَ في أعين المومسات . فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والذي نفسي بيده لو دعت الله أنْ يخزيه لأخزاه ، ولكنَّها دعت أنْ ينظر فنظر )) . (26 ) ومنهم غلام الأخدود وَالأُخْدُودُ حُفْرَةٌ فِي الأَرْضِ . وَأَصْحَابُ الأُخْدُودِ هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ يَهُودِ اليَمَنِ عَمَدُوا إِلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِدِينِ المَسِيحِ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الارْتِدَادِ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَفَرُوا حُفْرَةً فِي الأَرْضِ {أُخْدُوداً} أَضَرَمُوا فِيهَا نَاراً عَظِيمَةً ، وَوَقَفُوا بِالمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّارِ ، فَمَنْ قَبِلَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الارْتِدَادَ عَنْ دِينِهِ أَطْلَقُوهُ ، وَمَنْ رَفَضَ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ ، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. (27) ومنهم ما ذكره الشيخ محيى الدين بن عربي ، {قدِّس سِرُّه } قال: قلتُ لبنتـي زينب مرّةً وهي في سِنّ الرضاعة ــ وكان عمرها قريباً من سنة ــ ما تقولين في الرجل يجامع حليلَتَه ولم يُنزل ؟ فقالت : عليه الغِسلُ فتعجّبَ الحاضرون من ذلك ، ثمّ إنّي فارقتُ تلك البِنت وغبتُ عنها سنةً في مكّة ،وكنتُ أذِنتُ لوالدتها بالحج ، وجاءت مع الحج الشامي فلمّا خرجتُ لمُلاقاتها رأتنـي من فوق الجمل وهى تَرضع ، فقالت: قبل أن تراني أمّها ، هذا أبي وضحكت ورمت نفسَها إليَّ ــ كما جاء في إنسان العيون . إذاً قال الشاهد :{ إنْ كان قميصُه قُدَّ من قُبُلٍ } {إنْ} الشرطية التـي هي للاستقبال جمع بينها وبين {كان} التـي هي للماضي لأنّ المعنى أنْ يُعلم أنّ قميصَه قد قُدَّ من قِبَلٍ ، أي مِن أمام ، فالشرطُ ، وإنْ كان ماضياً بحسب اللفظ ، لكنّه مضارع في التأويل ، من حيث أنّه ثبت به صدق يوسف وبطل قوله ،{ فصدقت } أي فقد صدقت زليخا في قولها { وهو من الكاذبين} في قوله لأنّه إذ طلبها دفعته عن نفسها فشقت قميصه من الأمام أو أسرع خلفَها ليدركَها فتعثّر بذيلِه فشُق جيبُه { وإن كان قميصُه قُدَّ من دُبُرٍ } من خلف { فكَذَبت } في قولها { وهو من الصادقين } لأنّه يدل على أنّها تَبِعَتْهُ فجَذَبتْ ثوبَه فقدَّتْه { وإنْ كان قميصُه قُدَّ من دُبُرٍ فكَذَبت } زليخا بأنّها متبوعة { وهو من الصادقين } يعنى يوسف صادق في أنّ زليخا هي التـي راودته عن نفسه واتّبَعتْه وأنّه متبوع { فلمّا رأى } العزيز {قميصَه قُدَّ مِن دُبُرٍ } وعلم براءة يوسف وصِدْقَه { قال إنّه } أي الأمر الذي وقع فيه التَشاجر {مِن كيدِكُنَّ } من جنس حيلتِكنّ ومكرِكُنَّ ، أيّتُها النساءُ ، لا من غيرِكُنَّ فخجِلت زُليْخا ، وتعميمُ الخطاب يفيد التنبيه على أنّ ذلك خلُقٌ لهنَّ عَريقٌ { إنَّ كيدَكنَّ عظيم } فإنّه أَلصَقُ وأعلَقُ بالقلب وأشدُّ تأثيراً في النفس أي من كيدِ الرجال ، فعظُمَ كيدُ النِساءِ ، على هذا ، بالنسبة إلى كيد الرجال ، ولأنَّ الشيطانَ يوسوسُ مُسارَقَةً وهُنَّ يواجِهْنَ به الرجال فالعِظَمُ بالنسبة إلى كيدِ الشيطان . قال العزيز { يوسف أعرض عن هذا } الأمر وعن التحدث به واكتمْه حتى لا يشيع فيعيروننـي{ واستغفري } أنت يا زُليخا {لذنبك } الذي صدَرَ عنك وثَبُت عليك { إنك كنتِ من الخاطئين } من جملة القوم الذين تعمدوا الخطيئة والذنب ، يقال خَطِئَ إذا أذنب عمداً وجاء اللفظ بالتذكير لتغليب الذكور على الإناث وفى الحديث : (( كلُّ ابنِ آدم خطّاء وخيرُ الخطّائين التوّابون )) ( 28 ) وكان العزيز رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدْر من العقوبة . { وقال نسوةٌ في المدينة } نسوة : أي جماعة من النساء ــ وكنَّ خمساً ــ وهنّ : امرأة الخبّاز ،وامرأة الساقي ،وامرأة صاحب الدوابّ ،وامرأة صاحب السِجن، وامرأة الحاجب ،{ امرأة العزيز } ــ والعزيز بلسان العرب الملك ــ والمرادُ به قِطفير ، وقد صرّحن باسمها مضافةً إلى العزيز مبالغة بالتشنيع لأنّ النفوس إلى سماع أخبار ذوي المناصب وما يجرى لهم أكثر تشوُّقاً{ تراود فتاها} أي تطالب غلامها بمواقعته لها وتحتال في ذلك وتخادعُه { عن نفسه}. والفتى من الناس الشاب وتطلق على تَبَعِ الملوك وإنْ كان شيخاً ، فيقال فتاه أو غلامُه ، وهو المراد هنا ، وفى الحديث الشريف: (( لا يقولُ أحدُكم عبدي وأَمتـي ، كلُكم عبيد الله وكلُّ نسائكم إماءُ الله ، ولكن لِيَقلْ غٌلامي وجاريتـي وفتاي وفتاتي )) و إنّما كرِه النبـي {عليه الصلاة والسلام} أن يقول السيدُ عبدي لأنّ فيه تعظيماً لنفسه ولأنّ العبدَ والعبودية في الحقيقة إنما هي لله وحده . وقيل إنما يُكره إذا قاله على سبيل التطاول على الرقيق والتحقير لشأنه ، وإلاّ فقد جاء القرآن به ، قال الله تعالى { والصالحين من عبادِكم وإمائكم }{ قد شغفها حبّاً } وهو بيانٌ لاختلال أحوالها القلبيّة ، شغفها : خبرٌ ثانٍ ، وحبّاً: تمييز منقول من الفاعلية ، أي شقَّ حبُّه شغافَ قلبِها حتى وصل إلى فؤادِها . والشِغاف: حجابُ القلب ،وقُرئ شَعَفها بالعين المهملة ، يُقال شَعَفَه الحُبُّ : أحرق قلبَه كما في الصحاح . ــ قال العطار في منطق الطير : وعشق زُليخا وإنْ كان عشقاً مجازيّاً لكن لمّا كان تحقّقُها به حقيقةً وصِدقاً ، جَذَبها إلى المقصود وآلَ الأمرُ من المجاز إلى الحقيقة لأنَه قَنْطَرَتُها ــ {إنّا لنرها } أي نعلمُها علماً مضاهياً للمشاهدة والعيان فيما صنعت من المراودة والمحبّة المفرطة { في ضلالٍ } في خطأٍ وبُعدٍ عن طريق الرشد والصواب { مبين } واضحٍ لا يخفى ــ كونه ضلالاً ــ على أحدٍ ، أو مُظهرٍ لأمرها فيما بين الناس ، و لم يقلْن إنها لفي ضلالٍ مبينٍ إشعاراً بأنّ ذلك الحكم غير صادر عنهنّ مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنّهنّ متنزهات عن مثل ما هي عليه ، ولذا ابتلاهنَّ الله ُتعالى بما رَمَيْنَها به لأنّه ما عيّرَ أحدٌ أخاه بذنبٍ إلاّ ارتكبه قبل أنْ يموت . وهذه ــ أعنـي ملامةَ الخلق ــ علامة كمالِ المحبّة ونتيجتُه عند زُليخا لأنَّ اللهَ تعالى إذا اصطفى عبداً لجنابِه رفعَ محبَّتَه الذاتية من قلوبِ الأغيارِ غِيرةً منه عليه ، ولذا ترى أربابَ الأَحوالِ وأصحابَ الكُشوفِ مذكورين ــ غالباً ــ بلسان الذَمِّ والتعيير ، إذْ هم قَدْ تجاوزوا حَدَّ الجمهور فكانوا كالمِسْكِ بين الدِماءِ ، فكما أنّ المسكَ خرج بذلك الوصف الزائدِ عن كونه من جنسِ الدم ، فكذا العُشّاق خرجوا ــ بما هم عليه من الحالة الجمعيّة الكماليّة ــ عن كونِهم من جِنسِ العباد ذوي الفَرْقِ والنقص، والجنس إلى الجنس يميلُ لا إلى خلافِهِ . { فلما سمعتْ بمكرِهِنَّ } باعتبارهِنَّ وسوءِ قولِهِنَّ ، وقولُهن امرأةُ العزيز عشقت عبدَها الكنعانيَّ ،وهو مَقَتَها ، وتسميتُه مكْراً لكونِه خِفْيَةً منها كمكرِ الماكِر وإن كان ظاهراً لغيرِها { أَرسلت إليهِنّ } تَدعوهُنَّ للضيافَةِ إكراماً لهنّ ومكراً بِهِنَّ ولتُعْذَرَ في يوسف لعِلمِها أنَّهُنَّ إذا رأينَهُ دُهِشْنَ به وافتُتِنَّ . وقيل إنّها دَعَتْ أربعين امرأةً ، منهنّ الخمسُ المذكورات { وأعْتَدَتْ } أي أحضرت وهيّأت وأعدّت { لهنَّ متّكًأ } أي ما يتكئنَ عليه من النَمارِقِ والوسائدِ وغيرِها ، عند الطعام والشراب كعادة المترفّهين ،ولذلك نُهي عن الأكلِ بالشمالِ أو متّكئاً . وقرئ مُتّكاً ، وهو الأتْرُجّ (نوع من الفاكهة) أو الزُماوَرْد ــ بالضم ــ (وهو طعامٌ من البيض واللحم) (معرّب) { وآتت كلَّ واحدةٍ منهنّ } بعد الجلوس والاتّكاء {سكّيناً } لتستعملَه في قطع ما يقدّم بين أيديهن وقُرِّبَ إليهنّ من اللحوم والفواكه ونحوها ، وقصدت بتلك الهيئة ،وهي قعودُهُنّ متكئاتٍ والسكاكينُ في أيديهِنّ ويُبْهتْنَ عند رؤيته ويُشغَلْنَ عن نفوسهنّ وما في أيديهِنَّ ، أن يقطعْنَها لأنّ المتكئ إذا بُهِتَ بشيءٍ وقع بهتُه على يده . روي أنها اتخذت لهنّ ضيافةً عظيمةً من ألوان الأطعمة وأنواع الأشربة بحيث لا توصف . {وقالت} ليوسف وهُنَّ مشغولاتٍ بمعالجة السكاكين وإعمالِها بما في أيديهنَّ من الفواكه وغيرها { اخْرُجْ عليهنّ } أي ابرزْ لهنّ ، فرأيْنَهُ {فلمّا رأينَه أكبرْنَهٌ }أعظمْنَه وهِبْنَ حُسْنَهُ الفائق وجمالَه الرائق ، فإنّ فضلَ جمالِه على جمالِ كلِّ جميلٍ كان كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ، وسيأتي مزيدٌ من البيان في هذا الشأن إن شاء الله .{وقطّعْنَ أيديَهُنّ }أي جرحْنَها بالسكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهج الاختيار والاعتياد والإرادة ، والمدهوش لا يدرك ما يفعل ، ولم تقطع زُليخا يديها لأنَّ حالَها انتهت إلى التمكين فى المحبّةِ كأهلِ النهاياتِ ، أمّا حال النِسْوةِ فكانت في مقامِ التلوين ، كأهل البدايات ، فلكلِّ مقامٍ تلوّنٌ وتمكينٌ ، وبدايةٌ ونهايةٌ . قال القاشاني خرج يوسف بغتةً على النِسوة فقطّعنَ أيديهنّ لما أصابهنّ من الحيرة في شهود جماله والغيبة عن أوصافِهِنَّ كما قيل:
غابت صفاتُ القاطعات أكفَّها في شـــــــاهدٍ هو في البريّة أبدعُ ولا شك في أنَّ زُليخا كانت أبلغ في محبّتِهِ منهنَّ لكنها لم تَغِبْ عن التمييز بشهود جمالِه لتمكُّن حالِ الشُهود في قلبِها . وقال في شرح الحكم العطائيّة : (( ما تجده القلوب من الهموم والأحزان ــ يعنـي عند فقدان مرادِها وتشويشِ معتادِها ــ فلأجلِ ما مُنعتْ من وُجودِ العِيان ، إذ لو عاينت جمالَ الفاعلِ جَمُلَ عليها أَلَمُ البُعد ، كما اتّفق في قصّةِ النِسْوةِ اللاتي قطّعْنَ أيديهن )) . {وقلن حاش لله } وأصله {حاشا }فحذفت الألف الأخيرة تخفيفاً ، وهو حرف جرِّ يفيد معنى التنزيه ، في باب الاستثناء تقول أساء القوم حاشا زيدٍ فوُضع موضعَ التنزيه والبراءة ،ومعناه تنزيه الله وبراءة الله واللام الداخلة على لفظ الجلالة {الله} لبيان المبرَّأ والمنزّه ، كما في قولنا سقياً لك والدليل على وضعه موضع المصدر قراءةُ أبي السمّاك حاشاً لله بالتنوين { ما هذا بشراً} أي ليس آدميّاً مثلَنا ،لأنَّ هذا الجمالَ غيرُ معهود في البشر { إنْ } نافية بمعنى ما {هذا إلاّ ملكٌ كريم } يعنـي على ربه حيث اعْتَقَدْنَ أنّه مَلَكٌ لا بشرٌ وقَصَرْنَه على المَلَكيّ مع عِلمِهِنَّ بأنّه بشرٌ لأنّه ثَبُتَ في النفوس أنْ لا أكملَ ولا أحسَن خلْقاً من المَلَك وإن لم يرينَ ملََكاً قطُّ أعنـي رَكز في العقول أن لاحيَّ أحسن من المَلَكِ ، كما ركز فيها أنْ لا أَقبح من الشيطان ، ولذلك لا يزال يشبَّهُ بهما كلُّ مُتناهٍ في الحسنِ أو القُبح وغرضُهنّ وصفُهُ بأقصى مَراتِبِ الحُسْنِ والجمال . قيل بأنّه مِن لُطفِ اللهِ بنا عدمُ رؤيَتِنا للملائكة على الصورة التـي خُلِقوا عليها لأنّهم خُلقوا على أحسنِ صورةٍ ، فلو كنّا نراهم لطارتْ أعيُنُنا وأرواحُنا لحُسْنِ صُوَرِهم ولِذا ابتُدئ رسولُ الله بالرؤيا { الحلم }تأنيساً لَهُ إذْ إنَّ القُوى البَشريَّةَ لا تتحمَّلُ رُؤيةَ المَلَكِ فجأةً ، وقد رأى { صلى الله عليه وسلم } جبريلَ في أوائلِ البِعثةِ على صورتِهِ الأصليَّةِ فخرَّ مَغْشِيّاً عليه فنزَلَ إليْه في صورةِ الآدميين {كما في إنسان العيون}. قالوا كان يوسف إذا سار في أزقّةِ مصرَ يُرى تَلألُؤُ وجهِهِ كما يُرى نورُ الشمسِ من السماءِ عليها وكان يشبه آدمَ يومَ خلَقَه ربُّه ، وكانت أمُّه{راحيلُ} وجَدّتُه {سارةُ }جميلتين جدّاً . وفي الحديث الشريف : (( ما بَعَثَ اللهُ نبيّاً إلاّ حَسَنَ الوجهِ حَسَنَ الصوتِ وكان نبيُّـكم أحسنَهم وجهاً وأحسنَهم صوتاً )) وجاء في وصفِ بعض الصحابةِ لسيِّدِنا رسولِ اللهِ {صلى الله عليه وسلّم } أنَّ نورَ وجهِهِ كان يتلألأ في جُدُرِ الأَزِقَّةِ التـي كان يمشي فيها . والظاهر أنّ بعضَ الأنبياء مفضلٌ على بعضٍ في بعضِ الأمور ، وأنَّ الحُسْنَ بمعنى بياضِ البشرةِ مختصٌّ بيوسفَ وأنّ رسولَ الله {صلى الله عليه وسلم} كان أسمرَ اللونِ لكنْ مع الملاحة التامّةِ ، وهو لا يُنافي الحُسْنَ . يقول اللهُ تعالى في محكم كتابه العزيز: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ .. )) . (29) قال ابن الفارض في حقِّ سيدنا رسول الله:
لو أسمعوا يعقوب ذكرَ مَلاحــــةٍ في وجهه نسي الجمــــالَ اليوسفي وعلى تفنُّنِ واصفيـــــه بحُسْنِهِ يفنى الزمانُ وفيه ما لم يوصَفِ وعن ابنِ عباسٍ {رضي الله عنهما} قال: قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}: ((قال لي جبريل : إن أردتَ أنْ تَنْظُرَ من أهلِ الأرضِ شبيهاً بيوسُف فانْظرْ إلى عثمانَ بنِ عفّانَ )) . وجاء في الخبر أيضاً : (( هو أشبهُ الناسِ بجدِّك إبراهيم وأبيك محمد )) وكانت رقيّة بنتُ رسولِ الله ،زوجةُ عثمان {رضي الله عنهما } ذاتَ جمالٍ بارعٍ أيضاً ومن ثم كانت النساءُ تُغنّيهما بقولهنّ :
أحسنُ شيءٍ يَرى إنسانُ رُقيّةٌ وبَعْلُها عُثمـــــــانُ وجاء في حقِّ رُومان ــ بضمِّ الراءِ وفتحِها ــ أمِّ السيّدة عائشة {رضي الله عنها} (( مَن أراد أن ينظُر إلى امرأةٍ من الحُورِ العِين فلينظرْ إلى رومان )) وفيه بيانُ حسنِها وكونِها من أهلِ الجنّةِ كما لا يخفى . { قالت فذلكن } {كنّ} للنسوة ، و { ذا } ليوسف ، ولم تقل هذا ــ مع أنّه كان حاضراً ــ رفعاً لمنزلتِهِ في الحُسْن ، واسمُ الإشارة مبتدأ والاسمُ الموصول {الذي}خبرُه وهو { الذي لُمْتُنَّنـي فيه } في شأنه ، فالآن عَلِمتُنّ مَن هو، فما قولُكُنَّ فينا ولومُكُنَّ إلاّ ظلْمٌ لنا وتجنٍ علينا.
يا لائمي في الهوى العذريِّ معذِرةً منّي إليك ، ولو أنصفتَ لم تلمِ وعند ذلك بكت الملائكة رحمةً له وهبط إليه جبريل فقال له : يا يوسف إنّ ربَّك يقرئك السلام ويقول لك اصبرْ فإنّ الصبرَ مفتاحُ الفرج وعاقبتُه محمودة . وكانت النساء الحاضرات قد نَصَحْنَهُ بطاعتها وخوّفْنَهُ من مُخالفتِها ودعونَه إلى أنفسهنّ ــ كما ذُكر ــ وخَيَّرْنَهُ بين ذلك وبين السجن , فقال:{ربّ السجنُ أحبُّ إليَّ مما يدعونَنـي إليه }ولو قال ربّ العافيةُ أَحَبُّ إليَّ لعافاه الله ولكن لما نجا بِدينِه لم يُبالِ ما أَصابَه في الله ولِيَقْضي اللهُ أمراً كان مفعولاً . عن سيدِنا معاذٍ { رضي الله عنه } أنَّ النبـيَّ {صلى الله عليه وسلم} سمع رجلاً يقول: اللهم إنّي أسألك الصبرَ فقال: (( سألتَ البلاءَ فاسْألِ العافية )) {وإلاّ} وإنْ لم { تَصْرِفْ عنّي كيدَهُنَّ أَصْبُ إليْهِنَّ } أَمِلْ إلى جانبهن على ما تَقْتَضيه الطبيعةُ وحُكْمُ الشهوةِ أي مَيْلاً اختياريّاً قَصْدِيّاً ، والصَبْوَةُ الميْلُ إلى الهوى، ومنْه ريحُ الصَبا ، سمّيَت بذلك لأنَّ النفوسَ تصبو إليها لطِيبِها ورَوْحِها ، أو لأنَّ المعتاد في بلادِنا هو أنَّ الرياحَ تَهُبُّ من جهةِ الغربِ ، وتلك تَهُبُّ كسلى من جهةِ الشرقِ أواخرَ الليلِ ، فكأنمّا ذهبتْ نَهاراً ورَجَعَتْ ليلاً ، فصَبا أصلُها صَبأَ أي رَجَعَ ، يقال صَبَأَ فلانٌ عن دينه إي رَجَعَ عنه بعد إيمان . وهذا ــ منه ــ { عليه السلامُ } فَزَعٌ إلى ألطافِ اللهِ جَرْياً على سَنَنِ الأنبياءِ والصالحينَ في النَجاةِ مِن الشُرورِ باللُّجوءِ إلى جنابِ اللهِ ، وسلبِ القُوَّةِ والقُدْرَةِ عن أنفسهم ، ومبالغةً منه في استدعاءِ لُطفِ اللهِ لصرْفِ كيدِهِنَّ أظهرَ أنْ لا طاقةَ له بالمُدافعةِ ، كقول المُستغيثِ أدْرِكْنـي وإلاّ هَلَكْتُ ، لأنّه يَطلُب الإجبارَ واللجوءَ إلى العِصمَةِ والعِفَّةِ ، وفي نفسِه داعيةٌ تدعوه إلى هواهن {وأَكُنْ من الجاهلين } أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأنَّ مَنْ لم يعملْ بعلمِه فهو الجاهلُ. {فاستجابَ له ربُّهُ } دعاءَهُ الذي تضمَّنَهُ قولُهُ {وإلاّ تَصْرِفْ عنّـي كيدَهُنَّ الخ..}فيه استدعاءٌ لصرفِ كيدِهِنَّ ، والاستجابةُ تتعدّى إلى الدُعاءِ بنفسِها ، نحو استجاب الله تعالى دعاءه ، وإلى الداعي باللاّمِ ، ويحذِفُ الدعاءُ إذا تعدّى إلى الداعي ، في الغالب ، فيُقال استجاب له و قلّ أ ن يقال استجاب له دعاءه ــ كما في بحر العلوم ــ { فصرفَ عنه كيدَهُنَّ } حَسْبَ دعائه وثبّته على العِصمَةِ والعِفَّةِ حتّى وطَّنَ نفسَهُ على قَسْوَةِ السِجْنِ ومحنتِهِ،واختارها على لَذّةِ المَعصيَةِ { إنّهُ هو السميعُ } لدُعاءِ المتضرّعين إليه {العليمُ } بأحوالهم وما يُصلِحُهم . وعن الشيخ أبي بكرٍ الدقّاق {قُدِّسَ سِرُّه} قال بقيت بمكة عشرين سنة وكنت إشتهي اللّبنَ فغَلَبتْنـي نفسي فخرجتُ إلى عُسْفان وهو موضِعٌ على مرحلتين من مكّةَ فاستَضفتُ حيّاً من أحياءِ العرب فوقعت عينـي على جاريةٍ حسناءَ أخذت بقلبـي ، فقالت: يا شيخ لو كنتَ صادقاً لَذَهَبَتْ عنك شهوةُ اللّبن فرَجَعْتُ إلى مكة وطُفْتُ بالبيتِ فرأيْتُ في منامي يوسف الصِدّيق {عليه السلام} فقلتُ له : يا نبـيَّ اللهِ أقَرَّ اللهُ عينَك بسلامَتِكَ من زُليخا فقال :يا مُباركُ بلْ أَقَرَّ اللهُ عينَكَ بسلامتِك من العَصفانيّة،ثم تَلا يوسف {ولمنْ خافَ مقامَ ربِّهِ جنّتان } ، وأنشَدوا : وأنتَ إذا أرسلتَ طرفَك رائــداً لقلبِك يوماً أتعبتْــــــــــــــكَ المَنـاظرُ
رأيتَ الذي لا كُلَّهُ أنتَ قـــــــادرٌ عليــه ولا عن بعضِهِ أنتَ صابرُ قال بعضُهم لا يمكن الخروج من النفس بالنفس وإنمّا يمكن الخروج عن النفس بالله ، وقال الشيخ أبو تُراب النَخْشَبـيُّ {قدس سره } مَن شغل مشغولاً بالله عن الله أدركه المقتُ في الوقتِ فليس للعِصمَةِ شيءٌ يُعادلها. {ثم بدا لهم } ، أي ظهر للعزيز وأصحابِه المتصدّين للحَلِّ والعقدِ ، رأيٌ و{ ثمَّ } تدلُّ على تغيُّر رأيِهم في حقِّه { مِن بعدِ ما رأَوا الآياتِ } أي الشواهدَ على براءةِ يوسُفَ ، كشهادةِ الصَبـيِّ وقَدِّ القميصِ وغيرِهما {لَيَسْجُنُنَّهُ حتّى حين } {حتى} جارّة بمعنى إلى ، أي إلى حين انقطاع قالة الناس وهذا بادي الرأي عند العزيز وخواصّه وأما عندها فحتى يُذَلِّلَهُ السِجْنُ ويسخّرَه لها ، ويحسَبُ النّاسُ أنّه المجرمُ ، فلَبِثَ في السِجْنِ خمسَ سنين أو سبعَ سنين ، والمشهور أنّه لَبِثَ اثنتـيْ عَشْرَةَ سنةٍ ، كما سيأتي عند قوله تعالى {فلبث في السجن بضعَ سِنين } و لا دِلالة في الآيةِ على تعيين مدّةِ حبسِه وإنمّا القدْرُ المعلومُ أنّه بقي محبوساً مدّةً طويلةً لقوله تعالى { وادّكَرَ بعدَ أُمّةٍ} والحين عند أهل اللّغة وقتٌ من الزمان غيرُ محدودٍ ، ويقع على القصير منه والطويل، وأما عند الفقهاء فلو حلَف والله لا أكلّم فلاناً حيناً أو زماناً بلا نيّةٍ على شيءٍ من الوقت فهو محمولٌ على نِصْفِ سنة ،وإذا انعقدت نيّتُه على شيء معيّن من الوقت فهو محمول على ما نوى . وفى الآية محذوفٌ،والتقدير لمّا تغيّر رأيُهم في حقِّه ورأَوا حبسَه حبسوهُ وحُذف لدلالة قولِه { ودخل معه السجنَ فتيان} وذلك أنّ زوج المرأة قد ظهر له براءةُ يوسف فلا جَرَمَ ، واحتالت المرأةُ في طريقٍ آخر ، فقالت لزوجها: هذا العبدُ العبرانيّ فضحنـي في الناس لأنّه قال: هي راودتْنـي عن نفسي ، وأنا لا أقدِرُ على إظهارِ عُذْري فرأيي أنّ الأصحَّ حبسُه لينقطع عند الناس ذكرُ هذا الحديث . وكان العزيز مِطواعاً لها وجَمَلاً ذَلولاً زِمامُه في يَدِها ، فاغترّ بقولِها ونسيَ ما عايَن من الآيات وعَمِلَ برأيِها وأَلحقَ بهِ ما أَوعدته به . وكان في السجن أناسٌ قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول أبشِروا واصبروا تؤجروا ، فقالوا: بارك الله عليك ما أحسن وجهَك وما أحسن خلقك ، لقد بورك في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال: أنا يوسف بن صفيِّ الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم {عليهم السلام} فقال له عاملُ السجن لو استطعتُ خلّيتُ سبيلَك ولكنّي أُحسِن جوارَك فكن في أيِّ بيوت السجن شئت ، وروي أنّ الفتيين قالا له: إنّا لَنُحبُّك من حين رأيناك فقال: أُناشدكما بالله أن لا تحبّاني فو الله ما أحبّنـي أحدٌ قطُّ إلاّ دخل عليّ من حبّه بَلاءٌ ، فلقد أحبّني أبي فكاد لي إخوتي وألقوني في الجُبّ ، ثمّ أحبّتنـي زوجة صاحبـي فدخل علىّ من حبّها بلاءٌ عظيم فلا تحبّاني بارك الله فيكما . قال بعضُهم ابتلي يوسف بالعبودية والسجن ليرحم المماليك والمسجونين إذا صار خليفةً وملكاً في الأرض ، وابتُلي بجفاءِ الأقارب والحُسّاد ليعتاد الاحتمال من القريب والبعيد ، وابتُلي بالغربة ليرحم الغرباء . وكان للعزيز ثلاثة سجون سجن العذاب وسجن القتل وسجن العافية{ودخل معه السجن فتيان }أي دخل يوسف السجن واتّفق أن أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك الأكبر ريّان بن الوليد ، أحدهما ساقيه واسمه أبروها والآخر خبّازه واسمه غالب . لأن جماعة من أهل مِصْرَ أغروهما ليسُمّا الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ، ثم إنّ الساقي نَكَل وتراجع عن خيانة الملك أمّا الخبّاز فقد سمّ الخبزَ ، فلمّا حَضَر الطعامُ قال الساقي لا تأكلُ منه أيها الملك فإنّ الخبزَ مسموم ، فجُرّبَ بدابّةٍ فهلَكَتْ ، فأمرَ بحبسِهما فاتّفق أنْ دخلا السجن معه { قال أحدهما } وهو الساقي { إنّي أراني} في المنام كأني في بستان فإذا أنا بثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتُها فيه وسقيتُ الملك فشربَه وذلك قوله تعالى { أعصر خمراً } أيْ عِنَباً ، سماه بما يؤول إليه لكونِه المقصودَ من العصر {وقال الآخر } وهو الخبّازُ {إني أراني } كأنّي في مطبخ الملك { أحمل فوق رأسي خبّزاً } وفوق بمعنى على ، أي على رأسه ومثله قولُه سبحانه {فاضربوا فوق الأعناق}وهذا الخبزُ { تأكلُ الطيرُ منه } قال إنني أرى أني أحمل ثلاث سلال بعضها فوق بعض فيها الخبز وألوان من الأطعمة والفاكهة ، وأرى سباع الطير تأكلُ منها ، واختُلف في أنهما هل رأيا رؤيا أو لم يريا شيئاً لكنهما أرادا اختبار يوسف لأنّه لما دخل السجن قال لمن فيه إني أُعبِّرُ الأحلام ، وقيل رأى أحدُهما وهو الناجي وكَذَبَ الآخر { نبئنا بتأويله} أي أخبرنا بتفسير ما ذُكر من الرؤيتين ، وما يؤول إليه أمرُهما ، وعبارة كلِّ واحدٍ منهما ، نبئنـي بتأويلِه مستفسراً لما رآه وصيغةُ المتكلم مع الغير واقعةٌ في الحكاية دون المحْكي على طريقة قوله تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } فإنهم لم يخاطَبوا بذلك دُفعةً واحدة ، بل خُوطِب كلٌّ منهم في زمانِه بصيغةٍ مفردةٍ خاصّةٍ به {إنا نراك} يجوز أن يكون من الرؤية بالعين ويجوزُ أن يكون من الرؤية بالقلب{من المحسنين } الذين يجيدون تعبير الرؤيا لمّا رأياه يقصُّ عليه بعضُ أهلِ السجنِ رؤياه فيؤوِّلُها له تأويلاً حسناً ويقع الأمرُ على ما عبّر به ، أو أنهما قصدا بــ {من المحسنين} إحسانَه إلى أهلِ السجن ، أي فأحسِنْ إلينا بكشف غُمّتنا إنْ كنتَ قادراً على ذلك . { قال } يوسف ، داعياً الفتيين إلى التوحيد الذي هو أولى بهما وأوجب عليهما ، مما سألا ، ومرشداً لهما إلى الإيمان مزيّناً ذلك لهما قبل أن يُسعفهُما ، كما هي طريقة الأنبياء والعلماء الصالحين في الهداية والإرشاد والشفقة على الخلق ، فقدّم ما هو معجزة من الإخبار بالغيب ليدلهّما على صِدْقِه في الدّعوة والتعبير { لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه } تطعمانه في مقامكما هذا حسب عادتكما المطّردة { إلاّ نبأتُكما بتأويله } استثناء أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلاّ نبأتُكما به بأن بيّنت لكما ماهيّتَه من أي جنس هو ومقدارِه وكيفيّتهِ من اللون والطعم وسائرِ أحواله ، وإطلاقُ التأويل بالنظر إلى ما رُؤي في المنام وشبيه له { قبل أنْ يأتيكما } قبل أن يصل إليكما ، وكان يخبر بما غاب مثل عيسى {عليه السلام} إذ قال (( وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم )) {ذلكما } أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات أيها الفَتَيان { مما علمنـي ربي} بالوحي والإلهام وليس من قبيل التكهُّن والتنجيم ، وذلك أنه لمّا نبأهما بما يأتيهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ووصفه لهما ، وكان يقول اليوم يأتيكما طعامٌ صفته كيت وكيت، وكم تأكلان فيجدان كما أخبرهما ، قالا هذا من فعل العرّافين والكُهّان فمن أين لك هذا العلم فقال ما أنا بكاهن وإنما ذلك العلم مما علّمنـي ربي ، وفيه دلالة على أنّ له علوماً جمّة وما سمعناه قطعة من جملتها وشعبة من دوحتها وكأنه قيل لماذا علمك ربك تلك العلوم البديعة فقال:{ إنّي } أي لأني {تركتُ ملَّة قوم }أيِّ قومٍ سواءً أكان من قومِ مصرَ أو غيره { لا يؤمنون بالله } والمراد بتركها الامتناع عنها رأساً لا تركها بعد ملامستها وإنما عبر عنه بذلك لكونه أدخل بحسب الظاهر في اقتدائهما به {عليه السلام}{ وهم بالآخرة } وما فيها من الجزاء { هم كافرون } على الخصوص دون غيرهم لإفراطهم في الكفر . { واتّبعتُ ملّة آبائي إبراهيم واسحق ويعقوب } عرّف بشرف نسبه وأنّه من أهل بيتِ النبوّة لتتقوّى رغبتُهما في الاستماع منه والوثوق به ، وكان فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمراً معروفاً مشهوراً في الدنيا فإذا ظهر أنه ولدهم عظّموه ونظروا إليه بعين الإجلال وأخذوا منه ولذلك جازَ للعالم إذا جهلت منزلته في العلم أن يصف نفسَه ويُعلِمَ الناسَ بفضلِهِ ، كأن يذكر شهاداته وأساتذته الذين أخذ عنهم وتربّى على أيديهم وتخرّج بهم إلى آخر ما هنالك ، حتى يُعرَفَ فيُقتبس منه وينتفع به في الدين ، وفي الحديث الشريف : (( إنَّ اللهَ يَسأل الرجلَ عن فضلِ علِمه كما يُسألُ عن فضل مالِه)). وقدَّم ذكر ترك ملة الكفرة على ذكر اتّباعِه لملّة آبائه لأنّ التخلية متقدمة على التحلية .{ ما كان} أي ما صَحّ وما استقام ، فضلاً عن الوقوع { لنا } معاشر الأنبياء ، لقوّةِ نفوسنا ووفرة علومنا { أنْ نُشرِكَ بالله من شيء } أيّ شيء كان ، من مَلَكٍ أو جِنّيٍ أو إنسيٍّ فضلاً عن الجماد الذي لا يضر ولا ينفع { ذلك } التوحيد المدلول عليه بقوله ما كان لنا.. إلخ ناشئ { من فضل الله علينا } بالوحي { وعلى الناس } كافة بوساطتنا وأرسالنا لإرشادهم إذ وجود القائد للأعمى رحمةٌ به من الله تعالى أيّة رحمة {ولكن أكثر الناس } المبعوث إليهم { لا يشكرون } هذا فيعرضون عنه ولا ينتهون ولمّا كان الأنبياء وكُمَّلُ الأولياء وسائط بين الله وخلقِه لَزِمَ شكرُهم تأكيداً على العبوديَة وقياماً بحقِّ الحكمةِ الإلهيّة . { يا صاحبـَيِ السجن } الإضافة بمعنى في أي يا صاحبـَيَّ في السجن ، لمّا ذكر ما هو عليه من الدين القويم ، تلطّفَ في حُسْنِ الاسْتِدْلالِ على فساد ما عليه قومُ الفَتيين من عبادةِ الأصنامِ ، فناداهما باسْمِ الصُحبةِ في المكان الشاقِّ الذي تُخلَصُ فيه المودّةُ وتُمْحَضُ فيه النَصيحةُ { أأربابٌ متفرِّقون } استفهام استنكاريٌّ ، أربابٌ متفرّقون من صغيرٍ وكبيرٍ ووسط { خيرٌ } لكما { أم الله} المعبودُ بالحقِّ { الواحد } المنفرد بالأُلوهيَّةِ { القهار } الغالب الذي لا يُغالبُه أحد . وفيه إشارة إلى أنَّ اللهَ يَقْهَرُ بوَحدَتِهِ الكَثْرَةَ ، وأنَّ الدنيا والهوى والشيطانَ وإنْ كان لها خيريَّةٌ بحسَبِ زعمِ أهلِها لكنَّها شرٌّ محضٌ عند الله تعالى لكونِها مضلَّةً عن طريقِ طلبٍ من أعلى المطالبِ وأشرفِ المقاصد { ما تعبدون} الخطاب لهما ولمن على دينِهِما { من دونه } أي من دون الله شيئاً {إلاّ أسماءً } مجرّدةً لا مسمًّى لها في الواقع لأنَّ ما ليس فيه مِصداقيّةٌ فإطلاقُ الاسمِ عليه لا وجودَ له أصلاً ، فكانت عبادتُهم لتلك الأسماءِ فقط {سمّيْتُموها} جعلتم لها أسماءً { أنتم وآباؤكم } بمحض جهلِكم وضلالتِكم {ما أنزل الله بها } أي بتلك التَسمية المستتبِعة للعبادة { من سلطان } من حُجَّةٍ تدلُّ على صحّتِها { إنِ الحكم } في أمرِ العبادة المتفرِّعةِ على تلك التسمية { إلا لله } لأنّه المستحِقُّ لها بالذات إذ هو الواجب بالذات الموجد للكلِّ والمالكُ لأمرِهم ، فكأنّه قيل فما هو حكمُ اللهِ في هذا الشأن فقال {أمَرَ} على ألسنةِ الأنبياء { أنْ لا تعبُدوا } أي بأن لا تعبدوا { إلا إيّاه } الذي دلّت عليه الحُجَجُ { ذلك } تخصيصُه تعالى بالعبادة هو { الدين القيِّمُ} أي الثابت أو المستقيم وهو دين الإسلام الذي لا عِوَجَ فيه وأنتم لا تميّزون الثابتَ من غيرِه ، ولا المِعْوَجَّ من القويم ، قال تعالى { إنَّ الدين عند الله الإسلام } وهو باعتبار الأصول واحدٌ ، وباعتبارِ الفُروعِ مختلفٌ ، ولا تَقدَحُ الكثرةُ العارضةُ بحسَبِ الشرائعِ المبنيَّة على استعدادات الأمم ، في وَحدتِه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فيخبطون في جهالتهم . { يا صاحبـيِّ السجنِ ، أمّا أحدُ كُما } وهو ساقي الملك ، ولم يُعيّنْهُ لدلالة التعبير عليه { فيسقى ربَّه } سيده { خمراً } كما كان يسقيه من قبل رويَ أنّه عليه السلامُ قال له: أمّا ما رأيت من الكَرْمةِ وحسنِها فهو الملكُ وحُسْنُ حالِك عندَه ، أو قال له: ما أحسنَ ما رأيتَ ، أمّا القُضبانُ الثلاثةُ فثلاثةُ أيّامٍ تمضيها في السجن ، ثمَّ يوجّه الملك إليْك عند انقضائهن فيَرُدُّك إلى عملِك فتصير كما كنتَ بل أحسن { وأمّا الآخَرُ } وهو الخبّازُ { فيُصلَبُ } بعد ثلاثةِ أيامٍ وهو ما تدل