د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: الأنامــــــاليـــــة 10/6/2009, 2:20 pm | |
| الأنامــــــاليـــــة بقلم: الدكتور رءوف عباس ما جدوي ما تكتبون طالما أن أحدا لا يستجيب لكم، بل ما جدوي ما تفعله المعارضة بتلك الصحف التي تفيض بالمقالات التي ترفع الغطاء عن «بكابورت» الفساد، وتخرج روائحه النتنة لتزيد الجو تلوثا، وماذا عاد عليكم من كشف طغيان أجهزة القمع وامتهان كرامة الإنسان المصري طالما كانت تلك الممارسات المخالفة لشرائع السماء وقوانين الأرض تحدث يوميا بلا انقطاع ؟! وما الذي عاد علينا من صيحات المعارضة ضد التوريث والتعديلات الدستورية، فالأمور تسير وفق مرام عصابة السلطة: يعد المسرح لجلوس الوريث علي عرش مصر، ويتم تبديد ثروات البلاد، وكأنكم «تنفخون في قربة مقطوعة».. أنتم في واد والناس في واد آخر. كثيرا ما سمعت هذا الحديث يدور بين أناس يعون تماما خطورة ما يجري في مصر، أو ما يجري علي الساحة العربية، ولكنهم لا يريدون التورط في إبداء الاستنكار علنا.. إذا طلبت من أحدهم ـ مثلا ـ التوقيع علي بيان احتجاج أو تضامن في قضية وطنية ما، نفر منك، أو نصحك بعدم التورط «فيما لا يعنيك»، أو قال لك العبارة الممجوجة: «أنا مالي.. هي المشرحة ناقصة قتلي»!! هذه «الأنامالية» تمثل راية السلبية الخفاقة في هذا البلد التي تعبر عن حالة مرضية من الإحباط واليأس، بقدر ما تعبر عن أزمة مزمنة تعاني منها الحركة السياسية المصرية التي عجزت عن تقديم مشروع وطني بديل وعن التواصل مع الجماهير. هذه السلبية ليس مبعثها العزوف عن الاهتمام بالشأن العام، لأنك لا تكاد تري مصريا لا يقص عليك وقائع لأمور ربما فاقت ما تخوض فيه أقلام كتاب المعارضة، بل تسمع في اليوم الواحد عددا من النكت السياسية اللاذعة التي تشي بإدراك الناس لحقيقة السلطة وتكاد تلمس بيدك أن انفجارا ثوريا قد يقع في أية لحظة بعدما «بلغت القلوب الحناجر»، ولكن الشمس تشرق كل يوم علي واقع يزداد سوءاً، وكل مشغول بهمه الشخصي، ومشهد المواطنين والمواطنات الذين يكلم كل منهم نفسه في الشارع أو المواصلات العامة والخاصة مشهد مألوف، وأخبار العنف الأسري لا تكاد تخلو منها الصحف الصباحية: أب يقتل زوجته وأولاده لعجزه عن إعالتهم.. أو أب ينتحر لنفس السبب أو أم تبيع أحد أطفالها.. كل ذلك يعبر عن حالة اغتراب يعاني منها المواطن المصري مبعثها اليأس من إمكانية أن يجد في المجتمع حلا لمشكلاته الشخصية التي هي بدورها أزمة المجتمع كله. أخطر ما في الأمر أن العصبة الحاكمة تراهن علي هذه السلبية المشاعة بين المواطنين، فتتعامل معهم وكأنهم سوائم، بلغ الفساد الماء والغذاء والدواء ومصادر الرزق، وأهدرت حقوق الإنسان.. ومازالت الأمور «تحت السيطرة» من وجهة نظر السلطة وزبانيتها.. حتي لو قام الفلاحون بحركات احتجاجية علي حرمانهم من أطيانهم هنا وهناك.. أو قام الصيادون بالاحتجاج علي تضييق أبواب الرزق أمامهم أو قام العمال بإضرابات هنا وهناك احتجاجا علي بيع مصانعهم وقطع أرزاقهم، فلازالت الأمور «تحت السيطرة»، ومازالت قطعان الأمن المركزي في حظيرة الولاء للنظام، فهؤلاء وأولئك يمكن تلقينهم دروسا تلزمهم حدود الأدب، وتجعل كل منهم لا يهتم إلا بذاته.. يتغني بعبارة «أنا مالي» في كل حين وآن. ولا أظن أن أحدا من الزمرة الحاكمة قد سمع عن المؤرخ المقريزي الذي قال عن المصريين: «قوم يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا»، ولكنهم يتعاملون مع المصريين من هذا المنطلق.. منطلق القمع والبطش الذي يحول دون الحشد الجماهيري من أجل مطالب معينة. وهكذا تمضي العصبة الحاكمة في تنفيذ برنامجها الجهنمي دون خوف أو تحسب لحركة الجماهير: تبيع مصادر الثروة الوطنية، وترهن ما تبقي منها لديون تثقل كاهل الأجيال القادمة، وتنعم بجهودها الخارقة التي أدت إلي دخول مصر حلبة السباق علي المراكز الدنيا في كل شيء: التعليم والاقتصاد والتنمية والخدمات الاجتماعية وحتي الرياضة، مع دول لم يكن لها وجود علي خريطة العالم قبل الحرب العالمية الثانية، أي قبل نحو السبعين عاما!! هذه النظرة الدونية للجماهير التي تعبر عنها الزمرة الحاكمة بسياساتها القمعية هي نفسها التي كانت تمثل إطار سياسة الاحتلال البريطاني، فلا يقتصر وصف المصريين بالتخلف والجبن علي اللورد كرومر واضع أسس السياسة الاستعمارية في مصر الذي يشاركه اللورد أحمد نظيف في رأيه أن المصريين لم ينضجوا بعد ليصبحوا مؤهلين للحكم الديمقراطي «قالها اللورد كرومر عام 1907 وقالها اللورد أحمد نظيف عام 2006»، ونكاد نجد تطابقا تاما بين نظرة باشاوات الأمن المتعالية إلي المواطن المصري، ونظرة اللواء راسل باشا حكمدار بوليس القاهرة الإنجليزي بالثورة الشعبية عام 1919 وقال: «إن ثورة المصريين تطفأ بصدقة»!! فهل يري باشاوات اليوم غير ما رآه أستاذهم راسل باشا؟! لعل من الطريف أن يعلم القارئ الكريم أن أستاذا (إسرائيليا) هو جابرييل بير اهتم بدراسة التاريخ الاجتماعي لمصر، وله فيه بحوث رصينة، اهتم بتحقيق مقولة «جبن المصريين وسلبيتهم»، خاصة أن الجندي المصري كان (في سالف العصر والأوان) العدو الأساسي للكيان الصهيوني، تناول جابرييل بير هذه القضية في دراسة عن «الفلاح المصري بين الخضوع والمقاومة»، واختار لزمن الدراسة القرن التاسع عشر، لأنه يعلم أن الجندي المصري الفلاح في ستينيات القرن العشرين (تاريخ نشر الدراسة) هو حفيد فلاح القرن التاسع عشر، ولم يشأ جابرييل بير أن يذهب بعيدا في تاريخ مصر الوسيط والقديم الذي يحفل بحركات الاحتجاج العنيفة والثورية ضمن مظالم السلطة منذ عهد الدولة الحديثة في مصر القديمة حتي العصر العثماني مرورا بالعصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية. ويقف جابرييل بير طويلا (في الدراسة التي نشرها بالعبرية أولا عام 1962، ثم أعاد كتابتها بالإنجليزية ونشرها عام 1969) أمام انتفاضات الفلاحين ضد مظالم السلطة في عهد محمد علي بالصعيد، فرصد ثلاثا منها: واحدة بإحدي قري قنا عام 1821 استمرت شهرين استولي فيها الفلاحون علي السلطة وطردوا عمال الحكومة، وقام الشيخ أحمد زعيم الفلاحين بتعيين عمال للإدارة من قبله، حتي أرسل محمد علي تجريدة عسكرية قضت علي الحركة، ولكن دون أن يقع زعيمها في أيدي عسكر محمد علي، والثانية: وقعت عام 1822 بقري الأقصر تزعمها الشيخ أحمد المهدي، وقاومت قواته عسكر الحكومة ببسالة لمدة عام كامل، وانضم إليها المجندون الجدد من الجيش المصري الحديث، واستغرق القضاء عليها جهودا قتالية شديدة قتل فيها نحو ألف من الفلاحين. وعادت جذوة الثورة لتشتعل من جديد بقيادة شخص يدعي أحمد (ويبدو أنه اسم حركي اتخذه قادة الانتفاضات الثلاث) في أوائل عام1824 استمرت عدة أسابيع قبل أن يتم القضاء عليها. ولم يخل الوجه البحري من انتفاضات الفلاحين، في المنوفية عام 1822، وفي الشرقية عام 1824، واضطر محمد علي إلي إصدار قانون الفلاحة عام 1830 الذي يحدد حقوق وواجبات الفلاح، ويتضمن مادة تحدد عقوبة كل من يثور أو يحرض علي التمرد ضد السلطة. ويرصد جابريل بير ثورة فلاحية كبري كان مركزها أبو تيج بأسيوط وقعت عام 1863 في بداية عهد الخديو إسماعيل احتجاجا علي السخرة واستنزاف الضرائب لثمرة كد الفلاحين، ظلت قائمة لمدة عامين بين مد وجذر، لم ينجح إسماعيل في إخمادها إلا باستخدام المدفعية. كما أضرب الفلاحون عن زراعة أراضي الخديو توفيق عام 1882 (أيام الثورة المصرية التي عرفت بالعرابية) في الشرقية، ولكن هذا الإضراب لم يواجه بالعنف بل تمت تسويته سلميا بالاستجابة لمطالب الفلاحين ويقف المؤرخ (الإسرائيلي) طويلا أمام الدور الثوري للفلاحين في عام 1919. وانتهي الباحث إلي ضرورة إعادة النظر في الفكرة الشائعة عن استكانة الفلاح المصري أمام هذا السجل الحافل بالانتفاضات الثورية، ولكنه يري أن الفلاح المصري ليس عدوانيا بطبعه وإنما يدفعه الظلم وضيق العيش إلي الثورة التي تتخذ دائما طابع العنف. وإذا كان جابرييل بير قد وقف بالبحث عند ثورة 1919 فلا يعني ذلك أن تاريخ القرن العشرين قد خلا تماما من انتفاضات لمصريين ضد قطاع السلطة واستبدادها، فهناك حركات احتجاجية متفرقة للفلاحين بلغت أقصي ذروتها في الأربعينيات (تفاتيش بهوت وكفور نجم) كما استمرت إضرابات العمال من ثورة 1919 حتي إضراب عمال كفر الدوار في أوائل أيام ثورة 1952 مرورا بإضرابات الثلاثينيات والأربعينيات، بل انضم جنود بلوكات النظام (ما أصبح يسمي بالأمن المركزي) إلي الإضرابات في يناير 1952. ولكن يجب أن نتذكر أن الحركة السياسية كانت نشطة بين الجماهير، وأن النضال السياسي اقترن بطرح برامج وطنية تبنتها بعد ذلك ثورة يوليو. «الأنامالية» لن تستمر إلي الأبد، فالانفجار الشعبي آت لا ريب فيه، ولكنه سيكون له نفس تأثير الانفجارات الحربية، لن يخلف وراءه إلا الدمار والخراب ما لم يتحول إلي طاقة للتغيير من خلال مشروع وطني بديل تتبناه جبهة وطنية تضم قوي المعارضة. اليأس والقنوط حالة مرضية مبعثها الهم والغم، وضيق ذات اليد، وتدهور الحال ولكن تراكم ذلك كله من شأنه زيادة الضغط إلي مرحلة لا يمكن بعدها الصبر والاحتمال.. نقطة يقع عندها الانفجار الشعبي الشامل، حالة «الأنامالية» والقنوط لم تصل إلي حدوث تليف في الوعي السياسي والاجتماعي عند المواطن المصري، فهو يدرك تماما كل المهازل التي تدور علي أرض الوطن.. يحتاج إلي من يعده للسير علي طريق بديل.. يحتاج إلي قيادة وطنية تفرزها جبهة وطنية تطرح مشروعا للإنقاذ الوطن تحشد حوله الجماهير في تاريخنا المعاصر تجربة الجبهة الوطنية عام 1935 وتجربة الجبهة الوطنية عام 1946 (اللجنة الوطنية للطلبة والعمال)، فهل نعي دروس النضال الوطني، وننسي خلافاتنا الصغيرة من أجل هدف سام نبيل.. إذا لم نعمل من أجل ذلك فلن يرحمنا أحفادنا ولن يغفر لنا التاريخ. نشرت بجريدة الكرامة عدد 17-4-2007
| |
|