علاقة الشرق بالغرب ... مثاقفة أم تبعية؟
بقلم: الكاتب الأردني زهير توفيق
ساهمت الكتابات القومية والسلفية في الفكر العربي الحديث والمعاصر في إدانة ما سمته بالاستعمار الثقافي والتبشير المرافق له، والهادف لإضعاف الشخصية العربي والهوية العربية الإسلامية، وركزت هجومها على التعليم العلماني والمدارس والكليات الأجنبية، ومحاولات الاستعمار لضرب مرتكزات الأمة العربية وبخاصة الدين الإسلامي واللغة العربية. ولكن يمكن التمييز بين موقف الرعيل الأول من مفكري النهضة مقارنة بالرعيل الثاني من الاستعمار، فلم يتسن للرعيل الأول منهم اكتشاف الظاهرة الاستعمارية على حقيقتها وإثارة المخاوف والشكوك من المخططات الاستعمارية التي لم تتبلور في المنطقة بعد، وبالتالي لم يعرها رواد النهضة الأوائل كالشيخ رفاعة الطهطاوي أو خير الدين التونسي الأهمية اللازمة. ولم تظهر خطورة تلك المخططات جلية إلا في زمن الجيلين الثاني والثالث، وبخاصة رواد التيار السلفي كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمد البيهي وأنور الجندي ومحمد الغزالي وسيد قطب والتيار الوطني والقومي مثل عبدالله النديم وشكيب أرسلان وعبدالرحمن الكوكبي وساطع الحصري. إلا أن مقارباتهم كانت أقرب للأيديولوجيا من المعرفة العلمية، فقد كان همهم التعبئة واستنهاض الهمم للانخراط في معركة الاستقلال والتحرر، ولم يكن في مقدورهم إنشاء نسق فكري أو نظرية كاملة لمقاربة الموضوع. فبسّطوا أفكارهم الشعبية لتنبيه العرب من المؤامرة الغربية الصليبية على العروبة والإسلام، ودعوا الى التمسك بالأصول والثوابت القومية والدينية للتصدي للغزو الثقافي، ولكن في كتاباتهم لم نتبيّن كيفية التصدي، ولا كيفية توظيف الثوابت التي دمرها الاستعمار، فهي ليست سلعة مخطوفة يمكن استعادتها في ما بعد.
وبعد عقود من تلك التجارب والأحداث، تقف الثقافة العربية على مفترق طرق، فقد تعمّقت الأزمة وازدادت تعقيداً بعد التحرر والاستقلال السياسي الذي اثبت أنه لم يكن ثابتاً ولا كاملاً. وتعمقت الأزمة حتى لم يعد في مقدورنا الإحاطة النظرية أو التملّك المعرفي لمفهوم الغزو الثقافي ومترادفاته الراهنة مثل اختراق الثقافة والتبعية الثقافية والإمبريالية الثقافية. وهي كلها المعادل الموضوعي لما أطلق عليه الرواد سابقاً تسمية الاستعمار الثقافي، وبالتالي فالمطلوب الآن إعادة تعريف المفهوم وبيان أبعاده وعلاقاته الداخلية والخارجية.وحتى اللحظة لا توجد نظرية تفسيرية لتحليل الغزو الثقافي على رغم خطورته – التي لا يجمع عليها الكل – نظراً الى المحتوى الأيديولوجي والسياسي الذي يتضمنه المفهوم واختلاف تقويمه من التيارات الفكرية المتعارضة.فما يعتبره البعض غزواً ثقافياً أو تبعية، يعتبره الآخرون مثاقفة وانخراطاً في الحداثة، وما يعتبره الأول تهديداً للهوية، يعتبره الثاني ثقافة عالمية.وبالتالي، فالمحتوى الرمزي لتلك المفاهيم لا يحقق الدلالة ذاتها ولا الإجماع المطلوب، بخاصة في زمن العولمة التي شقت صفوف المفكرين والنخب، ولكنها وحدتهم حول شيء واحد هو تقويمهم المشترك للمخاطر والفرص التي تتعرض لها الثقافة العربية، ما يحتم إجراء تحويل جذري في علاقتنا الراهنة بها، وعلاقتنا بالآخر، أي بالعالم الخارجي. واستعار النقد الحضاري العربي مفهوم التبعية الثقافية من مجالها الأصلي في الاقتصاد السياسي، وأدبيات التنمية والتخلف وتبعية الأطراف المتخلفة للمراكز الرأسمالية المتقدمة، التي أبدع في توصيفها المفكر العربي سمير أمين. وركزت أدبيات التبعية الثقافية على تحليل محتوى الثقافة الحلية، وأدواتها التنظيمية من النخب السياسية والفكرية، والطبقات المسيطرة، وأنظمة الحكم التابعة. وحللت طرائق الإنتاج هذه الأدوات لثقافة تابعة تتسق مع التبعية الشاملة للبلدان النامية من طريق نشر الثقافة الاستهلاكية، والثقافة والتفكير بأفق رأسمالي ليبرالي على صعيد الخيارات الأيديولوجية والحلول الاقتصادية والمعايير المعرفية. ودخل قاموس النقد الحضاري مفهوماً آخر لمقاربة الاختراق الثقافي هو الإمبريالية الثقافية الذي نحته وأصّله المفكر الأميركي هيربرت شللر، الذي ركز هو وغيره من المفكرين والباحثين العرب المتأثرين بنسقه، ومنهم على سبيل المثال المصرية عواطف عبدالرحمن، التي أصدرت كتاباً ريادياً بعنوان «قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث»، ركزوا على آليات الهيمنة والتحكم بالمؤسسات الإعلامية والثقافية، وكيفية تكييف الثقافة المحلية للهيمنة الغربية من خلال التمويل المشروط، والدعم المعنوي من الهيئات الرسمية وغير الرسمية في دول المركز لنظيراتها في الأطراف. وقد عرّف هيربرت شللر مفهوم الإمبريالية الثقافية بقوله: «مصطلح يشرح ذلك السياق الذي يعم من خلاله احتواء المجتمع من النظام العالمي الحديث، والذي يتم من خلاله إجبار أو إقناع الشرائح الحاكمة والقيادية من دول العالم الثالث من أجل إنتاج وتشكيل مؤسسات اجتماعية تتناسب وتشجيع انتشار المؤسسات والقيم السائدة في دول مراكز النظام الرأسمالي العالمي». وبهذا تبدو الإمبريالية الثقافية إعادة إنتاج لما سبق الحديث عنه في بواكير النهضة العربية، عندما انخرطت المؤسسات الثقافية الغربية في المشروع الرأسمالي الأوروبي في القرن التاسع عشر، وأصبحت مؤسسات الاستشراف والأنثروبولوجيا والمدارس الجغرافية والتاريخية المعنية بالوطن العربي بمثابة طلائع للاستعمار، من خلال التمهيد الثقافي والاجتماعي للعمل السياسي والفتح الغربي، فتم تمثل الشرق ومعرفته بالطريقة المعهودة التي أصبحت المعرفة أداة سلطة تسهيل السيطرة والتحكم، فنشط علماء الفيلولوجيا، والإناسة، والرحالة، والمبشرون، وغيرهم، خدم المشروع الاستعماري بإنشاء مراكز اللغات والدراسات الشرقية، وجمعيات الآثار، ومعاهد التعليم، والمدارس، والجمعيات الماسونية، التي استقطبت معظم رواد النهضة العربية، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني وتلامذته الأحرار. وشكّلت الامتيازات الاقتصادية والتجارية التي منحتها السلطة العثمانية للأجانب في بلاد الشام ومصر في ذلك الوقت رأس حربة للاختراق الثقافي، من خلال دعم التوجهات الليبرالية، وخلق نخبة ليبرالية ارتبطت مصالحها وتوجهاتها بالغرب، وأصبحت طبقة كمبرادورية وسيطة معنيّة بترويج الثقافة الغربية، وتسويق إنتاجها الاقتصادي. وتجاوزت تلك النخب أطرها القومية والوطنية، ومحضت ثقتها وولاءها للغرب وثقافته التي قدمت لهذه النخب الدعم اللازم والمشروط للحفاظ على امتيازات الطرفين مقابل تقديم تلك النخب للخدمات المطلوبة. وقد شكل الانتماء الديني في ذلك الوقت جوهر الهوية الذاتية للفرد والجماعات المحلية، ما أتاح الفرصة للقوى الخارجية لتعميق الانقسام الديني والاجتماعي وربطها ثقافياً بثقافة الغرب، ما أعاق الاندماج الوطني. وكان على كل طائفة دينية البحث عن الحلفاء الأقوياء وتنمية مصادر قوتها من الخارج للوقوف في وجه الجماعات الأخرى للحفاظ على كيانها في مجتمعات مغلقة تتحكم القوة في علاقاتها الاجتماعية والإنتاجية. وبدلاً من التكامل مع أقرانها من الجماعات والتجمعات، أخذت بالتكامل الثقافي مع المؤسسات الغربية، فضربت وحدتها الوطنية في الصميم وسمحت للقوى الأجنبية باختراقها الكامل بحيث لم يعد للأجيال التالية القدرة على التخلص منها لأنها اندمجت فيها وأصبحت جزءاً من تكوينها الثقافي. ولهذا السبب نشأت التيارات الفكرية العنصرية والإنعزالية والإقليمية والكوزموبوليتانية التي تتوحد جميعها بالتغريب، واعتماد أصولها المرجعية على الثقافة الغربية، ولهذا السبب أيضاً لم تقطع تلك الفئات علاقاتها بالمراكز الغربية حتى بعد الاستقلال، ولم تنهج نهجاً مغايراً للاستعمار، ولم تستطع استكمال تحررها السياسي بالتحرر والاستقلال الثقافي والاقتصادي. ومن جهة أخرى ارتبطت العلوم الاجتماعية الغربية بالاستعمار ومطالبه، بعد أن رافقت المجتمع الرأسمالي في النشأة والمصير، فكانت في جوهرها علوماً محافظة فشلت في مقاربة التغيير في المجتمع الصناعي مقاربة علمية، وعبرت هذه الاتجاهات الاجتماعية التجريبية والوظيفية عن عجزها عن تمثل التغيير الشامل، فركزت على الوحدات الصغرى للمجتمع للتحكم فيها بدلاً من المفاهيم الكبرى ذات الأبعاد التاريخية والبنائية كالطبقة والحزب والأمة والثورة، ووجدت هذه الاتجاهات نفسها متورطة في مقتضيات النظام الرأسمالي الذي يتطلب الاستقرار والثبات والنمو المتوازن والتوسع، وشيئاً فشيئاً وجدت نفسها منخرطة في الاستعمار الذي وجه العلوم الاجتماعية لخدمة أهدافه وأغراضه العملية والنظرية، وتسويغ فكرة الهيمنة الغربية للبلدان العربية لتمكينه من التعرف الى أفضل الطرق للتعامل مع المجتمعات المرشحة للاستعمار للسيطرة على مجالها الثقافي لاستمال حلقات التحكم والتبعية، فعقد في باريس سنة 1900 مؤتمر دولي لعلماء الاجتماع الغربيين لدراسة المسائل الأخلاقية والثقافية المرتبطة بالاستعمار الثقافي وتذليل المصاعب التي تواجهه كما يقول المفكر المغربي محمد وقيدي الذي رصد الخلفيات الأيديولوجية للعلوم الاجتماعية الاستعمارية وتأثيراتها في الوطن العربي من طريق العلماء والمفكرين المنخرطين في المشروع الاستعماري العاملين في دوائره كمستشارين وموظفين تحت تسميات مختلفة كرحالة ومستشرقين وعلماء أناسة وجغرافيين ومبشرين... الخ. ويشير وقيدي الى أن الحركة الاستعمارية في حاجة لما يدعم هيمنتها والى معرفة الخطوط العامة للسياسة التي يمكن أن تحافظ على هذه الهيمنة. ويمكننا أن نقول في هذا الصدد أن العلاقة كانت جدلية بين المعرفة الاجتماعية كنظرية وبين السياسة الاستعمارية كواقع مجتمعي تاريخي، فالسياسة هنا تحد المعرفة بموضوعها وبالاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه، والمعرفة تمد السياسة بالمعطيات التي تساعدها على تنفيذ مشروعها، وعلى تبرير مشروعيتها، كما تمدها بصيغة للتعبير عن أهدافها. وبدت ظاهرة الاستعمار من وجهة نظر هؤلاء العلماء وسيلة لا بد منها لتحديث المجتمعات التقليدية، ونقل الثقافة الغربية إليها بما يرافقها من مظاهر التقدم، واعتباراً لذلك كله فلن يكون هنالك مستقبلاً لظاهرة الاستعمار غير أن تستمر وقد انتدب علم الاجتماع الاستعماري نفسه للبحث عن وسائل هذا الاستمرار في دعم البنى المحلية وإعادة تنظيمها وتغيير جدول أعمالها لإعادة إنتاج النظرية والرؤية الأيديولوجية الغربية وحل مشكلات الثقافة الغربية من طريق المؤسسات التي تحولت لاحقاً الى مختبرات للأفكار الغربية ومواقع متقدمة وراء البحار للأيديولوجيا الليبرالية. وفي عصر العولمة الراهن، الذي كثر فيه الحديث عنها، تتعرض الثقافة العربية للتحديات القديمة التي أعيد إنتاجها من جديد من قبل الأنساق الثقافية الغربية المدعومة بالسيطرة والقوة السياسية والاقتصادية، ولا يعني نجاحها وطغيانها على غيرها من الثقافات تفوقها الأخلاقي والقيمي على الثقافة العربية التي تتراجع وتخلي مواقعها في مجالات الثورة العلمية التقنية واقتصاد المعرفة المعولم لعدم وجود قاعدة مادية متقدمة من العلم والتقنية والتصنيع العربي تغذي الثقافة وتحقق لها الاتساق والديناميكية. فكل ثقافة هي ثقافة متفوقة بحد ذاتها، وفي إطارها التاريخي ما دامت تحقق لأصحابها الإشباع الروحي وتلبي حاجاتهم ومطالبهم على صعيد المعايير والمدركات والسلوك القويم.أما طغيان الأمركة أو الثقافة المعولمة الأخرى فسببها أولاً القوة السياسية والاقتصادية الداعمة لهذا النسق كما تدل على مدى الصعوبات التي تواجه الثقافة العربية في هذا العصر الذي لم تعد فيه قادرة كما سبق القول على تلبية حاجات أهلها وتحقيق الأمن الثقافي، فهي في أتون أزمة تتصف بالديناميكية، فليس بمقدورها الاستسلام بسبب حيوية مكوناتها الأولية التي ما زالت فاعلة وتلهم أصحابها التحدي والنضال وتثوير دفاعاتها الشعورية واللاشعورية الكامنة في رصيدها التاريخي للتغلب على التحديات الراهنة. وقد عكست صراعاتها الثقافية مع الآخر صراعات طبقية واجتماعية داخلية بين النخب المحلية المناهضة للثقافة الغربية والتغريب التي تعمل من خلال روابطها الوثيقة مع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المعولمة على تعزيز خياراتها الفكرية لدعم الخيارات السياسية والاقتصادية للأنظمة التابعة بالدعم المالي والمعنوي لمؤسسات المجتمع المدني في الأطراف التي ليس بمقدورها الفعل والاستمرار بسبب هشاشة تكوينها التنظيمي وقلة عضويتها وافتقارها للتمويل ومنافسة منظمات المجتمع الأهلي العشائرية والدينية لها وطبيعة خطابها الحداثي الغريب في المجتمع التقليدي المحافظ. أما بالنسبة الى دول الكبرى الإمبريالية فثقافتها عنصر من عناصر قوتها التي تتجاوز بالتعريف الحديث مفهوم القوة الكلاسيكي الذي حصر القوة بالقدرة المادية العسكرية في حين تركز نظريات القوة الحديثة في العلاقات الدولية على القدرات غير المنظورة للدولة مثل نظامها الديموقراطي والمأسسة وإرادتها السياسية والإعلام، وأخيراً ثقافتها التي تعمل بواسطتها على مضاعفة مصادر قوتها ومد نفوذها خارج حدودها الى أبعد نقطة يمكن التأثير فيها لتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية أو التمهيد لدخول واستمرار تلك المصالح من طريق تكييف الاتجاهات والقيم والخيارات الفردية والجماعية في الدول النامية من طريق المؤسسات والبنى المحلية الثقافية والاجتماعية بعد أن أدركت المؤسسات الليبرالية الغربية أن أفضل وسيلة لتحقيق مصالحها وتعميم خياراتها لن تنجح بالضغط الخارجي أو التدخل المباشر من دون توسط تلك المؤسسات. فقد أثبتت النخب والأنظمة السياسية التابعة فشلها في امتحان الشرعية، ولم تعد قادرة على الترويج المباشر للخيارات الرأسمالية والليبرالية، التي ولدت أساليبها المباشرة ردود فعل عنيفة، تمثلت بالعودة الى التراث والتعصب، ورفض الثقافة الغربية. وبالتالي فلا أفضل من الأدوات المحلية ومنظمات المجتمع المحلي ومؤسسات المجتمع المدني للترويج للنسق الليبرالي وتعميق مجراه، وإيجاد النخب الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية الليبرالية وتغذية قاموسها العملي والنظري بمفردات الديموقراطية، وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة، والبحث العلمي، وحماية البيئة. وفي هذا الصدد يقول شللر صاحب مفهوم الإمبريالية الثقافية والاقتصادية: «إذا كان الاقتصاد العالمي المعاصر يسعى الى تعزيز سيطرته من خلال تحالف رأس المال العالمي، وتحطيم الحواجز القومية، وتوحيد السوق العالمية، فإن القضية في المجال الثقافي تصبح كيفية توظيف الإعلام والثقافة في مجتمعات العالم الثالث لخدمة هذه الأهداف، أي ترسيخ تبعيتها الاقتصادية بوضع إمكاناتها الثقافية والإعلامية في خدمة مصالح رأس المال العالمي وأجهزته، وتحويل العالم الى قرية اتصالية شديدة الترابط».
نشرت بجريدة الحياة عدد الجمعة 08 مايو 2009