د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: مراجعة سياسات العولمة الرأسمالية 14/5/2009, 7:52 pm | |
| مراجعة سياسات العولمة الرأسمالية بقلم : السيد يسين أدركنا منذ بداية التسعينيات أن العولمة التي برزت كمفهوم أساسي يتداوله الساسة والعلماء الاجتماعيون والمثقفون في مختلف أرجاء العالم, أنها العملية التاريخية الكبري التي ستدور حولها سياسات القرن الحادي والعشرين, في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية.
وعلي عكس الاتجاه الغالب لدي السياسيين والعلماء الاجتماعيين والذي كان ينحو منذ وقت مبكر إلي اتخاذ موقف قاطع من العولمة رفضا مطلقا من قبل أهل اليسار, أو قبولا كاملا من قبل أهل اليمين, اتجهنا إلي تبني موقف فكري مناقض شعاره الفهم قبل التقييم! وكنا نقصد بذلك أنه ينبغي أن نعطي لأنفسنا الفرصة أولا لفهم القوانين الأساسية التي تحكم عملية العولمة, وبغض النظر عن الخلاف حول بداياتها التاريخية, وهل هي قديمة أم جديدة. وكان مدخلنا الأساسي لذلك هو محاولة رسم خريطة معرفية للعولمة تعتمد علي نموذج فكري ثلاثي الأبعاد. ويقوم هذا النموذج علي أساس دراسة البعد الأول ويتمثل في الدراسة النقدية الدقيقة لتعريفات العولمة التي يشيع استخدامها لدي الباحثين العلميين, ولدي الساسة في نفس الوقت. أما البعد الثاني فيتعلق بأطروحات العولمة المختلفة, والبعد الثالث والأخير يتعلق بسياسات العولمة. وقد سبق لنا من قبل أن أفضنا في دراسة البعدين الأول والثاني, ولذلك نريد اليوم أن نركز علي البعد الثالث وهو سياسات العولمة. ونقصد بسياسات العولمة تحديد المجالات التي يتصارع فيها مختلف الفاعلين, سواء في ذلك الدولة أو الشركات الدولية النشاط, أو المؤسسات الدولية, أو مؤسسات المجتمع المدني, وفقا للتعريفات التي يتبنونها للعولمة, وفي ضوئها يصوغون استراتيجياتهم, سواء لتعميق العولمة أو لمقاومتها. وقد نشأت لتعميق العولمة في ظل سياسة الليبرالية الجديدة مؤسسة متميزة هي منتدي دافوس, الذي يضم رؤساء الدول ومديري الشركات والبنوك الكبري وكبار الإعلاميين وأبرز المثقفين, والذي يجتمع سنويا لمناقشة موضوعات شتي تدور حول توسيع أطر العولمة وضمان تدفق موجاتها في مختلف أنحاء العالم, بحيث تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. غير أنه نشأت مؤسسة أخري مضادة لدافوسanti-Davos وهي المنتدي الاجتماعي العالميworldsocialforum, والذي يضم رؤساء الدول والاقتصاديين والسياسيين والمثقفين, الذين يعارضون سياسات العولمة. وهذا المنتدي استطاع تنظيم مظاهرات حاشدة ضد ممارسات العولمة الرأسمالية المتوحشة, وأصبح له تأثير فعال في صياغة وعي اجتماعي عالمي, يتسم بتبني نظرة نقدية للمارسات العالمية. ومعني ذلك أن نقد سياسات العولمة بدأ مبكرا, وقد يكون ذلك مواكبا لبروز هيمنتها علي سياسات الدول. وقد أثر هذا النقد في مواقف الدول النامية التي تخوض صراعا عنيفا داخل أجنحة منظمة التجارة العالمية, في محاولة منها لتعديل النصوص المجحفة بها في معاهدة المنظمة. غير أن الأزمة المالية الأمريكية التي سرعان ما تحولت لكي تصبح أزمة اقتصادية عالمية, تجعلنا نتساءل هل من شأنها أن تدفع دفعا لتجاوز عتبة نقد العولمة إلي محاولة مراجعة سياساتها؟ قبل الإجابة علي هذا السؤال الاستراتيجي, دعونا نبدأ أولا بتحديد بعض الاتجاهات العامة التي تميز الحقبة التاريخية التي يمر بها العالم. وأول هذه الاتجاهات أن معظم حكومات اليوم تقاوم محاولات الأسواق للسيطرة عليها, وخصوصا أنها لم تفقد كل أوراقها لاستراتيجية التي يمكن أن تستخدمها. ومن الخطأ في الواقع تصوير العلاقة بين الدول والأسواق باعتبارها علاقة صراعية, ذلك أن هناك علاقة تبادلية إيجابية بينها, فالدول تحتاج الي توسيع إطار الأسواق لأغراض التنمية الشاملة, كما أن الأسواق تحتاج إلي دعم الدول في كثير من الجوانب. ويمكن القول أنه بالنسبة لعديد من القادة السياسيين, بما في ذلك الاشتراكيون الديمقراطيون, فإن التعامل مع العولمة لا يعبر عن سياسات العجز بقدر ما تعبر عن سياسات التكيف مع العولمة, حتي أنه يمكن التأكيد أن قلة من الحكومات اليوم هي التي لا ترحب بمزايا السوق الكونية, ولم تعد نفسها لقبول منطق المنافسة في حقبة الليبرالية الجديدة. ومن تأثيرات العولمة البارزة في الاقتصاديات المصنعة المتقدمة, قبول فكرة أن المواطنين لن يتاح لهم بعد الآن نفس اليقين بالنسبة لضمان العمل, كما سبق أن أكد عالم الاقتصاد الأمريكي جيرمي ريفكيني في كتابه نهاية العمل الذي أثار ضجة عالمية, وتطبيق ذلك علي العمال المهرة وغير المهرة علي السواء, وكذلك بالنسبة للخدمات والضمانات الاجتماعية التي سادت في ظل نظام دولة الرعاية الاجتماعية. وبالرغم من أن العولمة تكون قد خلقت فرصا للعمل أكثر من تلك التي ألغتها, إلا أنه يمكن القول أن تأثير العولمة كان ضاغطا علي وجه الخصوص بالنسبة للعمل المنظم في قطاعات التصنيع التقليدية في الدول الصناعية القديمة. والواقع أن العمل ـ علي عكس رأس المال والتكنولوجيا والمعرفة ـ ليس متحركا, مما أدي الي الإنقاص من قوته السياسية, ولهذا نتائج وآثار علي السياسة في المستويات المحلية بالدولة. والعمال شبه المهرة وغير المهرة, لن يكون لهم نصيب من ثمار العولمة, كما هو الحال بالنسبة للمتعلمين والقطاعات الماهرة في المجتمع. كما أن الحكومات التي تسير في طريق التحرير الاقتصادي لن تحاول, ولعلها لا تستطيع أن تطبق سياسات من شأنها أن ترفع من شأن الوضع المتردي لهذه القطاعات غير الماهرة. وقد تساعد السياسات الحمائية التي قد تدعو لها عناصر من كل من اليسار واليمين العمال غير المهرة, غير أن هذا الاتجاه قد يؤدي الي إنقاص مزايا برامج الرعاية الاجتماعية ككل, ومن ناحية أخري فالاستراتيجية القصوي في هذا المجال والتي تتمثل في إنقاص الطلب النسبي علي العمالة غير الماهرة ـ من خلال دفع برامج التعليم والتدريب المدعومة للتغلب علي الجمود في سياسات الأجور ـ مكلف للغاية, بدرجة تصرف الحكومات عن التفكير فيها, بالإضافة الي التأثير السلبي لمثل هذا الإنفاق علي مصداقيتها إزاء الأسواق المالية العالمية, أو قد تعتبر خاطئة من وجهة النظر السياسية, وضعا في الاعتبار المناخ الأيديولوجي الراهن, المضاد لهذه الاتجاهات. وهكذا يمكن القول أن الحكومة ـ في هذا الإطار العولمي الجديد ـ تطبق كثيرا من السمات التي يطلق عليها البعض الإدارة العامة الجديدة سعيا وراء تنظيم عمل الحكومة وفقا للخطوط التي تسير عليها حكومة الأعمال, مما يترتب عليه وهن سلطة الدولة وشرعيتها. ولعل مبعث ذلك أن أسبقيات الدولة تتمثل في اكتساب ثقة الأسواق الدولية. غير أن ثمن هذا التحول في وضع الدولة كان باهظا, وذلك أنه نتج عنه تضعضع سلطة الدولة. وقد أدي ذلك الي بروز المطالب العرقية والدينية واللغوية لجماعات متعددة, تركز علي هذه الأنماط المتعددة من الانتماءات, مما جعلها تعلو علي اعتبارات الانتماء للدولة القومية. وهذا التطور لا يتماشي مع المنطق السياسي لثنائية اليسار واليمين, والتي دعمت في الماضي نظام دولة الرعاية الاجتماعية. وهذه التغيرات في مجال الهوية والفعل, اتخذ شكلا سياسيا واقتصاديا محددا, تمثل في تنوع المجالات التي يتم فيها الصراع بين الدولة وهذه الجماعات. ويتحدث دارسو ظاهرة العولمة عن بزوغ مجتمع كوني, أو بعبارة أخري مجتمع عالمي. وبنفس الطريقة غير المحددة يتحدثون عن الفاعلين خارج نطاق الدولة ودورهم المهم لتنمية هذا المجتمع. والحقيقة أن هناك اختلاطا فيمن يسمون فاعلون خارج نطاق الدولة, فبعض الباحثين يخلطون المنظمات التي تنظم العلاقات بين الحكومات ومثالها البارز منظمة التجارة العالمية, وصندوق النقد الدولي وغيرهما, بالمنظمات غير الحكومية مثلGreenpeace السلام الأخضر, مع شركات دولية النشاط مثل شركة موتورلا علي سبيل المثال. غير أن نمطا أشمل من التحليل قد يميل الي أن يضع في اعتباره أيضا دور النقابات العمالية وجماعات الضغط, ووسائل الإعلام, بالإضافة إلي شبكات السياسات ومجتمعات السياسات التي تعمل الآن عبر الحدود, وإن كان ذلك بطريقة شبه منظة وغير مقننة. غير أن الأهم من كل ذلك, أن هذه المؤسسات تثقل كاهل الأشكال المختلفة للسلطة الحكومية, سواء سلبا أو إيجابا. وبعض النظر عن أهداف هذه المنظمات أو الهيئات أو الشركات, أو بنيتها المؤسسية, أو طريقة عملها, والتي لا يمكن التمييز بدقة علي ضوئها بين منظمة وأخري, فالمحصة النهائية تعقيد الطبيعة المتغيرة للسلطة في نظام عالمي للحكم, يتسم بكونه يتطور بسرعة فائقة. ولأن ظاهرة تقلص سيادة الدولة في عصر العولمة ـ نظرا لتعدد الفاعلين خارج نطاق الدولة ـ بالغة الأهمية, فمن الضروري ـ كما يقرر بعض ثقات الباحثين ـ إجراء تصنيف لهؤلاء الفاعلين علي مستوي اهتماماتهم الموضوعية أو الوظيفية التي يقومون بها. وعلي هذا الأساس يمكن تصنيف الفاعلين خارج نطاق الدولة في فئتين عريضتين: الفئة الأولي الفاعلون من دوائر القطاع الخاص والذين يتمثلون أساسا في الشركات دولية النشاط والشركات العابرة للقوميات. والفئة الثانية هي المنظمات التي لا تهدف إلي الربح, والتي تمتد من المنظمات الأهلية أو التطوعية الي ما يطلق عليه الجماعات للقوميات أو العابرة للمناطق الجغرافية. ومن الواضح أن كلتا هاتين الفئتين العريضتين, تغطيان مجموعة غير متجانسة من الفاعلين, يتسم كل منها بسمات محددة, لا يمكن تحديدها تحت العنوان الفضفاض بكونها تعمل خارج نطاق الدولة. وآيا ما كان الأمر, فإنه يبقي أمامنا أن نجيب علي السؤال الذي طرحناه: هل آن الآوان لعبور من مجال نقد العولمة إلي ميدان مراجعة سياسات العولمة؟ في تقديرنا أنه بالنظر إلي الأزمة الاقتصادية العالمية, والتي تعني علي وجه التحديد سقوط نموذج الرأسمالية المعولمة, فإن الحاجة تدعو إلي مراجعة جذرية لسياسات العولمة ليس في مجال إعادة تحديد العلاقة بين الدولة والسوق لكفالة دور أساسي للدولة في الرقابة, ولكن بالنظر إلي السلبيات المتعددة التي ترتبت علي ممارسات العولمة في العقود الماضية. هكذا أكد عدد من رؤساء دول أمريكا اللاتينية الذين اجتمعوا في مدينة بيليمBelem في يناير الماضي, وهم فرناندو لوجو رئيس باراجواي, وايفو موراليس رئيس بوليفيا, ولوير لولا سيلفا رئيس البرازيل, ورافائيل كويرا رئيس الأكوادور, وهو جوشافير رئيس فنزويلا, ومعهم عشرات الآلاف من الاشتراكيين وأنصار البيئة من معارضي العولمة الذي أكدوا أن تأسيس عالم آخر مختلف مسألة ممكنة! وكأن لسان حالهم يقول لزعماء العولمة الرأسمالية, ألم نقل لكم من قبل أن الليبرالية الجديدة لن تنجح في أن تطبق قيمها وسياساتها علي العالم؟ نشرت بجريدة الأهرام عدد ١٤/ ٥/ ٢٠٠٩ | |
|