التأسيس الحداثي للمواطنة
لقد سارت المواطنة تارة في اتجاه المواطنة على مستوى دولة - المدينة، أو مستوى الدولة الوطنية، أو مستوى الإمبراطورية أو الدولة القومية، وتارة أخرى على مستوى العالم كله، أي الدولة العالمية، وفي الوقت الذي انتشر فيه سواء مفهوم الدولة الوطنية أو القومية، نجد أن مفهوم الدولة العالمية، ومن ثم مفهوم المواطنة العالمية، يجابه مشاكل وعثرات كثيرة.
لقد كان التأسيس الحداثي بشقيه الابستمولوجي والعملي، هو الأرض الخصبة التي نما فيها مفهوم المواطنة في شكله الحداثي الأكثر تطورا. فجوهر الحداثة في تصور الإنسان، هو النظر إليه باعتباره نقطة البدء في المعرفة والعمل. إنه العقل الخالص، أو الذات المفكرة، أو الكوجيتو (الأنا أفكر إذن أنا موجود)، إنه صاحب الإرادة الحرة، والفاعلية في المجتمع والسياسة والاقتصاد، بل وفي التاريخ.
وهكذا ظهرت العقلانية كتعبير عن الذات وفاعليتها في المعرفة والسياسة. وهكذا صار كل شيء موضوعا أمام العقل لتمثله وفهمه، وإصدار الحكم عليه. وأصبحت السياسة استنباطا من العقل المشترك، ومن خلاله يتمكن الإنسان من سيطرته النظرية والعملية على العالم: الكون والدولة، الذي صار قابلاً للمعرفة على المستوى الإبستمولوجي، وقابلاً لإعادة التشكّل على المستوى السياسي.
ويتأكد لدينا الارتباط بين الحداثة والمواطنة، عندما نقف عند المنجزات الفكرية السياسية للحداثة: القانون الطبيعي، وحقوق الإنسان، والعقد الاجتماعي، والفصل بين السلطات، والنظام السياسي الدستوري، والمجتمع المدني، والديمقراطية. فلا مجتمع مدني بدون مواطنة، ولا مواطنة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية حقيقية بدون مواطنين بمعنى الكلمة يمارسونها وينظمون على أساسها علاقاتهم مع بعضهم بعض من جهة، وعلاقاتهم مع الدولة من جهة أخرى.
وإذا كانت إيطاليا لعبت الدور الأهم في القرن السادس عشر بسبقها إلى عصر النهضة، وإنجلترا قد افتتحت عصر المواطنة الحديثة بثورتها المجيدة في نهاية القرن السابع عشر، فإن مركز الثقل في الفكر السياسي الليبرالي، قد انتقل، من إنجلترا إلى فرنسا مع بداية القرن الثامن عشر، التي شهدت حركة ازدهار مجموعة من الفلاسفة الليبراليين الكبار، مثل مونتسكيو، وفولتير، وروسو، وجماعة الإنسكلوبيديا، وغيرهم من أولئك الذين نظرّوا فلسفيا للحرية والحقوق الطبيعية للفرد والمجتمع، وعرّضوا بالاستبداد والملكية المطلقة ونظرية الحق الإلهي.
ومن ثم كان الدور المركزي في هذا القرن لفرنسا التي تزعمت في هذه المرحلة مسيرة الحداثة، وكان لها قصب السبق في نهاية عصر التنوير بنجاح الثورة الفرنسية التي تشكل المرجعية المركزية للأنظمة السياسية الحديثة. كما لعبت الولايات المتحدة دوراً على المستوى السياسي في الثورة الأمريكية، وليس على أساس التأسيس الفلسفي، فقد كانت عالة على أوروبا في المجال الأخير.
التطور الأفقي والرأسي للمواطنة
من ناحية أخرى، مرَّ مفهوم المواطنة في إطار الدولة الوطنية ذات السيادة، بتطور أفقي من ناحية وتطور رأسي من ناحية ثانية. فالمفهوم كائن حي، ينشأ وينمو ويتطور، له ماضٍ وحاضر ومستقبل. بل له أيضا سمات الكائن الحي من صحة ومرض، فطوال العصور الوسطى الأوروبية من سنة 300 إلى 1300م –رغم بعض الاستثناءات- ظل هزيلاً، حتى ظهرت (عريضة الحقوق) في إنجلترا (سنة 1689م)، ويؤرخ بها البعض لبداية التنوير الأوروبي.
فالتطوّر الأفقي سار في اتجاه توسيع قاعدة المواطنة من الأقلية الأرستقراطية إلى شمول طبقات أخرى تدريجياً وبمرور الزمن، لكن حتى الآن –رغم كل المواثيق وإعلانات حقوق الإنسان- لم تشمل المواطنة كلّ الأفراد من الناحية العملية.
أما من ناحية التطور الرأسي، فقد تطور المفهوم بشكل مواز لتطور المشاركة في صنع القرار السياسي وممارسة السلطة وتوسيع رقعتها، حيث التقدم تدريجيا نحو تحول سلطة اتخاذ القرار من يد شخص واحد عبر مستويات متوسطة إلى يد عامة المواطنين وفق الآليات الديمقراطية. وحسب دراسات عالم الاجتماع (هانس) (درس صناعة القرار في الجمعيات الصغيرة والبلديات والحكومات المحلية، واستنتج منها مبادئ عامّة حددها في المستويات الستة المذكورة أعلاه. انظر: منصف المرزوقي، (تسقط الوطنية، عاشت المواطنية)، مجلة العصر، 27-12-2004م)، أقول -حسب دراسات هذا العالم- إن أي ممارسة للسلطة لها ستّ مستويات كالآتي:
المستوى الأول: القرار الفردي لرأس السلطة.
المستوى الثاني : إعلام الجمهور بالقرار دون أخذ رأيهم.
المستوى الثالث: استشارة الجمهور دون الأخذ برأيهم.
المستوى الرابع : استشارتهم والأخذ برأيهم.
المستوى الخامس: إشراكهم في مواجهة القضايا وحلّ المشاكل.
المستوى السادس: وجود سلطة اتخاذ القرار في يد عامة المواطنين وفق الآليات الديمقراطية.
ولا يوجد في جميع الأحوال بالضرورة فصل كامل بين هذه المستويات الستّ؛ فأحيانا يتأرجح الديكتاتور بين أكثر من مستوى كعملية من عمليات الخداع والتضليل، مثلما يحدث في الديمقراطيات المزيفة بكل أساليبها المعروفة.
وأفضل مستوى تتحقق فيه المواطنة هو المستوى السادس حيث تتسّع قاعدة المواطنة بمفهومها الشامل؛ فكلّ الأفراد مواطنون لا يوجد بينهم أي تمييز في الحقوق والواجبات، وتحكمهم المساواة في كل التعاملات المجتمعية بغض النظر عن الدين، العرق، اللغة، الجنس، أو الأصل الاجتماعي.... إلخ. ويشاركون حسب الآليات الديمقراطية في صناعة القرار.
وفي عصر التنوير تطور أفقياً مفهوم المواطنة في أبعاده السياسية والاجتماعية والمدنية، كما تطور رأسياً حسب هذا السلم على الأقل من الناحية النظرية، لكنه لم يصل أبداً إلى المستوى الخامس أو السادس.
وبلغ مفهوم المواطنة ذروة تطوره المرحلي في القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية والأمريكية. لكنه لم يصل إلى ذروة اكتمال المواطنة؛ حيث حرمت الثورتان قطاعاً من الناس من حق المواطنة؛ فدستور الثورة الأمريكية (لسنة 1787م) استبعد النساء والهنود الحمر والجنس الأسود من دائرة المواطنة. وظل هذا الوضع قائماً رغم إلغاء الرق (سنة 1800)، و لم تتحقق لهم المواطنة إلا (سنة 1965م).
ولم تضع الثورة الفرنسية حدا للعبودية إلا في (عام 1848م)، أي في منتصف القرن التاسع عشر. واستمرت المرأة على المستوى السياسي محرومة من ممارسة ومباشرة الحقوق السياسية، كما ظلت خارج دائرة المواطنة لفترة طويلة.
فلم تعترف فرنسا بحق النساء في التصويت إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي إنجلترا لم تحصل المرأة على المساواة السياسية وحق المواطنة بمعناه الشامل إلا في (سنة 1928م) بصدور قانون المساواة في الانتخابات بين الرجل والمرأة .
ولم يتبلور مفهوم المواطنة من الناحية النظرية إلا (سنة 1948م)، بصدور (الإعلان العالمي لحقوق - واجبات الإنسان). طبعا نظريا! أما الواقع الفعلي المتعين، فلا تزال تعترض فكرة المواطنة تحديات كبيرة في كثير من بلدان العالم بما فيها بلدان العالم الغربي!
************
الحواشي
1- بتصرف عن: ابن منظور، لسان العرب بيروت، دار صادر، الطبعة الأولى، بدون تاريخ, ج 13, ص451.
2- جدير بالتنويه هنا أننا نتحدث عن مفهوم الرعية في الفكر الغربي وليس في الفكر الإسلامي، ولا ينطبق تحليل مفهوم الرعية الغربي بالضرورة على مفهوم الرعية في الفكر السياسي الإسلامي.
نشرت بمجلة التسامح - العدد العشرين خريف 2007