يقول المثل العربى القديم: (إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب)، وهذا المثل قد يكون صحيحاً فى كثير من أمور حياتنا، ولكن (السكوت) عندما يطول يخلق نوعاً من التباعد بين الناس، يزداد شيئاً فشيئاً حتى يتحول إلى سور يحجب الإنسان عمن حوله ويعوق التواصل والتفاهم بينه وبينهم.
وتزداد خطورة الصمت عندما يخيم على جو الأسرة فينعزل كل فرد من أفرادها بعيداً عن الآخر بمفرده، وكأنه جزيرة معزولة عن الآخرين ومغلقة أمامهم !!، ومن هنا فإن (السكوت) ليس دائماً من ذهب، خاصة إذا كان يؤدى إلى ما أشرنا إليه من العزلة والانطواء حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.
ونحن نفتح هذا الملف الشائك فى محاولة لمعرفة أسباب هذا الصمت الذى يخيم على كثير من البيوت والأسر العربية، ومن هو المسئول عن هذه الحالة ؟، وما مدى خطورتها على كيان الأسرة؟، وكيف يمكن التغلب عليها وتجاوزها حتى يعود الود والحوار والصفاء يخيم على الأسرة العربية من جديد ؟
* حالات متعددة *
تقول (آمال.ع.) – ربة منزل - : زوجى خارج البيت دائماً، ولا يعود إلا فى آخر النهار، وعندما يعود فهو لا يتحدث معى فى أى شئ، وإنما يأكل ثم يذهب لينام، وإذا لم يذهب للنوم فهو يجلس أمام التليفزيون يقلب فى قنواته صامتاً، حتى كدت أختنق من حالة الصمت التى تخيم علينا، ولولا شغل البيت والأولاد لما تحملت هذه الحياة.
وتؤكد (سعاد. م) – موظفة - : أنها لم تعد تطيق حياتها الزوجية، فزوجها مشغول عنها ليل نهار، ولم يعد يتحدث معها إلا نادراً، وإذا تحدث فإن كلامه يكون عن العمل والمشاكل التى يواجهها فيه ومتطلبات الحياة وضغوطها، ولم أعد أسمع منه ولا حتى كلمة واحدة من كلامه المعسول الذى طالما ملئ به أذنى أيام الخطبة وقبل الزواج.
ويرى (نبيل على) – سائق - : أن عدم اختيار الزوجة للموضوع المناسب والوقت المناسب للكلام هو ما يدفع الزوج للصمت، أو حتى ترك البيت كله، فهو عندما يعود إلى بيته يحلم بالراحة من متاعب ومشاق يومه وعمله، ولكنه لا يجد الاهتمام الكافى من زوجته، فهى إما مشغولة بالبيت أو بالأولاد، وحتى لو تكلمت معه فإنها تتحدث فى موضوعات لا تطاق تتبعها بكثير من الشكوى وعديد من الطلبات، فلا يجد أمامه إلا الصمت أو النوم أو الهروب من البيت نهائياً ليقضى باقى وقته مع أصدقائه.
فإذا كانت هذه هى بعض الشكاوى التى يمكن أن نسمعها بين الحين والآخر من أفواه الأزواج والزوجات فى كثير من الأسر، فما هو رأى المختصين من علماء النفس والاجتماع فى مشكلة (الخرس الأسرى) ؟؟
* أضرار الصمت الأسرى *
بداية يقول الدكتور (سيد صبحى) – أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية جامعة عين شمس - : أن الصمت فى الحياة الزوجية قد يكون مطلوباً أحياناً، لأن الحياة الزوجية ليست ثرثرة مستمرة،ولكن عندما يزيد هذا الصمت عن حده يصبح مشكلة، فلإنسان يحتاج إلى من يحدثه ويؤانسه، وهناك العديد من الأضرار التى يمكن أن تنتج عن هذه الحالة من الصمت وافتقاد الحوار والتواصل داخل الأسرة أهمها: الشعور بالغربة، وبأن الحياة الزوجية بيئة طاردة، وقد تدفع طرفى العلاقة الزوجية أو أحدهما إلى هجر هذه الحياة والبحث عن غيرها.
وأبرز أسباب هذه الحالة – فى نظرى – هى مطالب الزوجة المستمرة، وعدم استهلالها للحديث بطريقة مناسبة، وافتقاد الاهتمام المشترك بين الزوجين، وسرعة الغضب، وكثرة الانفعالات السلبية، وعدم انتقاء الألفاظ، والجهل بفن إدارة الحوار، ولذلك يجب أن تكون الزوجة على درجة عالية من الفطنة والكياسة حتى لا يقع زوجها فى دائرة الصمت.
* مسئولية الأم *
ويؤكد الدكتور (فكرى عبد العزيز) – استشارى الطب النفسى بجامعة القاهرة - : أن الأم هى المسئولة عن حالة الخرس الأسرى التى يمكن أن تصيب الأسرة، فهى مفتاح وسر حياة الأسرة كلها، وهى التى تدير دفة الأسرة، وتساعد على التفاعل والتجاوب الإنسانى بين أفرادها، فافتقاد الحوار العائلى داخل الأسرة مسئولية الأم، وهى التى يجب أن تعيده إلى أسرتها من خلال لقاء يومى أو حتى أسبوعى يسمح فيه للجميع بتفريغ الطاقات المخزونة بداخلهم، والتنفيس عن المشاكل من خلال الإعلان عنها وليس كتمانها، وذلك لإزالتها من اللاشعور وحتى لا يتولد عنها العديد من المشكلات وحالات الاكتئاب والقلق وما يصاحبها من اضطرابات نفسية.
* التليفزيون أيضاً سبب *
أما الدكتور (سعيد عبد العظيم) – أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة - : فيرى أن فترة ما قبل الزواج يكون فيها كلاً من الطرفين كالطاووس الذى يستعرض نفسه أمام الآخر، أما بعد الزواج فإن الدواعى لبذل الجهد لاستعراض النفس تقل، حيث يظهر كل من الطرفين على حقيقته أمام الآخر، فتبدأ ظواهر جديدة فى الطفو داخل الجو الأسرى مثل: إهمال المرأة لنفسها، أو إظهار الزوج للتذمر والغضب لأتفه الأسباب، وكثرة غيابه عن المنزل، والامتناع عن الحديث مع زوجته، ومن الملاحظ أن أجهزة الإعلام وعلى رأسها التليفزيون قد ساهمت فى تقليل مساحة الحوار بين الطرفين، والاقتطاع من وقت الفراغ الذى كان يمكن أن يقضياه معاً، حتى أصبحت هذه الأجهزة هى البديل عن الحوار المتبادل بين الزوجين، وهناك أيضاً قلة ذكاء الزوجة بكثرة شكواها، أو اختيارها لموضوعات مزعجة فى غير مناسبتها، أو التزام الزوج الصمت نظراً لمشاكله المادية واليومية، بالإضافة إلى أنه قد يكون من طبع أحد الزوجين الانطوائية، وبالتالى لا تكون لديه القدرة على المشاركة أو الطاقة اللازمة للأخذ والعطاء وتبادل الحوار، ولذلك يجب على الزوجة – على وجه الخصوص – ألا تكون (نكدية) ومزعجة فيتحول البيت إلى جحيم يحاول الزوج أن ينجو منه بالخروج أو مشاهدة التليفزيون أو قراءة الجرائد، وتكون النتيجة أن يسود الصمت بينهما، فتبدأ الشكوى من عدم الاهتمام وغياب الحوار داخل الأسرة.
* أعباء مشتركة *
وأخيراً يؤكد الدكتور (محمد صلاح الدين) – أستاذ علم الاجتماع المساعد بآداب القاهرة - : أن موضوع الصمت بين الزوجين مرتبط أساساً بثقافة كل منهما، فأنا قد أشعر أن كلام الزوجة مثلاً تافه، وأنها تثير موضوعات تخرجنى عن تفكيرى فى أمور أهم منها بكثير، ويرجع ذلك فى الأساس إلى اختلاف لغة الحوار بين الزوجين، فيؤثر الزوج الصمت فى هذه الحالة بدلاً من التجاوب مع الزوجة، فالصمت احتجاج سلبى من جانب الزوج، وأنا أعتقد أن الزوجة يقع عليها عبء كبير يتمثل فى أنها يجب أن تبذل المزيد من الجهد لكى تفهم زوجها جيداً، وأن تتعرف على طريقة تفكيره، والموضوعات التى تستثيره على الكلام وتخرجه من صمته، وهذا هو أساس وجود الحوار بين الزوجين، أما الاستمرار فى حالة الصمت والاستسلام لها واتباع نفس الطرق والأساليب القديمة دون محاولات جادة لتغيير النفس من الطرفين، فإنه غالباً ما يؤدى إلى فشل هذه العلاقة، ولذلك يجب على الزوجة انتقاء الموضوعات التى تتحدث فيها وطريقة الحوار المناسبة، وأيضاً الوقت المناسب لطرح أى موضوع، فقد يكون الزوج غير مستعد للحوار حول موضوع معين فى وقت معين، فيلجأ للصمت كنوع من الاحتجاج على هذا الاختيار السيئ، والزوج أيضاً عليه عبء كبير فى حل مشكلة الصمت الأسرى، فيجب عليه ألا يستسلم لهذه الحالة، وأن يحاول التقريب بين أفكاره وأفكار زوجته، وأن يسعى لإيجاد نوع من الحوار المفيد والبنّاء بينه وبين زوجته، حتى لا تصاب حياتهما الزوجية بالملل، ويخيم عليها شبح النكد والخلاف.