د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: هل يمكن الانتقال من ابن خلدون إلى الخلدونية؟ 14/3/2009, 12:28 pm | |
| هل يمكن الانتقال من ابن خلدون إلى الخلدونية؟ بقلم الكاتب الأردنى: زهير توفيق احتفلت الدوائر الأكاديمية والفكرية العربية بالذكرى المئوية السادسة لوفاة ابن خلدون، بعقد الندوات والمؤتمرات، وإصدار الكتب، وقد اختلفت دوافع هذا الاهتمام ومصائره، فهو أولاً نابع من خطاب الهوية، والتمجيد، والتنويه الذاتي، الذي يبحث عن تأصيل الحداثة الراهنة، ومنجزاتها الغربية، بإخراجها عن سياقها، وردها إلى أصول وهمية أو حقيقية في الحضارة العربية الإسلامية، ويتطلب عمل من هذا القبيل جهداً فائقاً بالتأويل، والاستنباط، والتحريف، والتحقيق، والتصحيف، حتى نثبت أصالة هذا العالم، أو هذا العلم، ورد كل اكتشاف، أو اختراع، أو ريادة، بما كشفته واخترعته، وأشارت اليه الحضارة العربية الإسلامية وأعلامها الكبار، علماً أن مقولة البداية والريادة ساقطة من حيث المبدأ، فلا توجد بداية ولا نهاية مطلقة للمعرفة والحضارة، فلا العرب ولا اليونان، هم أصحاب هذه الريادة، فالتثاقف، والتناص، والتبادل الثقافي، ضرورة معرفية، وأصل الأشياء، وقانون التطور اللانهائي، وما الادعاء بريادة هذا العلم أو ذاك إلا تعصب ووثوقية في غير محلها. أما ابن خلدون، فقد وقع ضحية الشوفينية والخطاب القومي على رغم موقفه السلبي جداً من العنصر العربي، ولم يثن ذلك مفكراً قومياً كساطع الحصري عن تبني أطروحاته وريادته، وكرد على دعاوى طه حسين، الذي وقف موقفاً سلبياً من ابن خلدون، في رسالته عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون، والتي تحولت إلى كتاب. أما المأخذ الآخر على الخطاب القومي، الذي وجد نفسه منذ البداية في صدام مع الغرب والاستعمار، وداعياً الى إحياء الماضي المجيد، ومعلقاً آماله على العوامل الثقافية: كاللغة العربية لتحقيق الوحدة، نقول أن هذا الغرب هو نفسه، ممثلاً بالاستشراق، وبخاصة الاستشراق الفرنسي، هو الذي نبه الشرق الى أصالة ابن خلدون، وأخرج المقدمة من غياهب التجاهل والنسيان، واعتمد عليها في القرن التاسع عشر، لفهم أحوال المغرب العربي، الذي لم يقطع صلته بماضيه الخلدوني، فبقي حينذاك يرزح تحت وطأة التأخر والانحطاط، وشكل النموذج الصراعي الخلدوني بين البدو والحضر أو الصحراء - المدينة، منطلقاً فكرياً وسياسياً للاستعمار الفرنسي. أما من الناحية المنهجية، فما زالت المقدمة منجماً بما تحويه من موضوعات، وفتوحات علمية، في مجال التاريخ، والاقتصاد، والاجتماع، وموضوعاً خصباً للدارسين من مختلف الاتجاهات والتخصصات، وأقول موضوعاً، وليست ذاتاً، أي سلطة مرجعية، وقد آن الأوان لوضع الريادة الخلدونية في مكانها وحجمها الطبيعي، فابن خلدون هو نتاج القرون الوسطى، وقد تخطت الحداثة الراهنة منهجيته الملتسبة، ومصادراته، وشبكة مفاهيمه التي تنحو منحى أرسطياً، وقد حاول التخلص منها ما استطاع، وبقي يراوح بين الاستقراء الناقص، وبين القياس الأرسطي، فالريادة والأصالة الخلدونية في علم العمران، وعلم التاريخ، ريادة تاريخية، إذا قورن هذا الإنجاز بما سبق، باستثناء بعض المقولات التي فلتت من تاريخيتها وبقيت حية معاصرة. ولكن ما يؤسف له أن ابن خلدون في كتاب «تاريخ العبر»، تجاهل المآخذ والتجاوزات التي رمى بها المؤرخين السابقين كالمسعودي، وسوّغ الميتافيزيقيا، والخوارق، والمعجزات، بل وهاجم الفلسفة، وناصبها العداء، انسجاماً مع موقفه الأشعري. وأهم الفلتات الخارقة مفهوم التاريخ، فقد خلصه من الفهم السابق الذي جعل التاريخ منهجاً ووظيفة سجين علم الحديث، وبقي التاريخ روايات وقصصاً منقولة عن ثقات، بغض النظر عن معقوليتها، أو مطابقتها للواقع، فتساوت في القيمة ما دام الراوي ثقة الخرافات والخوارق، مع الحقائق والوقائع. وقد يجادل المجادلون ويعظمون بذور الواقعية، والاستقراء، والمطابقة، وجعلها مكافئة لمعايير الاستقراء العلمي. ولا يكون الرد عليهم بتبخيس قيمة ابن خلدون، فلم يكن بمستطاعه هو أو غيره أن يقطع صلته بالمنطق الأرسطي، الذي بقي مهيمناً على مناخ العصر الفكري، وظلت العقلانية الأرسطية مهيمنة لعصر ما بعد ابن خلدون. وفي هذا الإطار نقول إن العلوم الإنسانية بموضوعاتها ومناهجها الراهنة تجاوزت روادها، ودخلت مرحلة مختلفة تماماً مع الحداثة، وفي ما بعد الحداثة، وما الجهد الفكري القائم على عكس الاتجاه، أي البحث عن أصول المعرفة الراهنة في الماضي والتاريخ، فستجد نفسها بالضرورة وجهاً لوجه مع الأصول العربية وغير العربية، فلكل شجرة بذرة، وتلقائياً سنصل إلى ابن خلدون، وحتى لمن سبق ابن خلدون، وبتسلسل تاريخي لا يوقفه إلا مستوى معرفتنا الراهنة، التي يمكن أن تتبدل وتغير فينا قناعاتنا وفرضياتنا، وهذا كله خارج المنطق، وقد تنقلب العملية، فبدلاً من تحصيل العصرنة لابن خلدون، نتوقف عند أصول العلوم الحديثة في أصالته. لقد مرت سنوات طويلة منذ عصر ابن خلدون، ولم يكن بمقدوره انجاز مشروعه الكامن في المقدمة، أي تحويل منجزه المفتوح إلى مدرسة فكرية وسياسية تجسدها وتكملها الأجيال اللاحقة. فقد عاش في ذروة الانحطاط، والتفكك، والنضوب المعرفي، الذي اخذ يتعمق ويزداد تأزماً، وتحول إلى سيرورة بلغت ذروتها الكارثية بعد ابن خلدون بخمسين سنة، فمن الطاعون الأسود، إلى سقوط بغداد وظهور الصليبيين والمغول على مسرح التاريخ، إلى سقوط القسطنطينية، واكتشاف العالم الجديد، ونهاية العصور الوسطى بالكامل، وانقلاب التاريخ على رأس المشرق والمغرب العربيين، ولذلك فلم يكن بمقدوره استشراف الأمل، ورؤية المقدمة والانتقال بها من الفهم إلى التغيير، لتحقيق كفاية معرفية شرطها القدرة على تلبية حاجات الواقع والإجابة على أسئلته.فكيف يمكن القبض على عجلة التاريخ وتاريخ المشرق يسير باتجاه عكسي وتسويغ العمل بالتأخر التاريخي، وقد خرج العرب من التاريخ وأصبح صناعة غربية بامتياز؟ ولهذا بقي الإنجاز الخلدوني رصيداً لعملة قديمة، لا يمكن تداولها إلا بإعادة تركيبها وإنتاجها من جديد بتخليصها من ابن خلدون نفسه، أي من مذهبيته المالكية، والأشعرية، والانتهازية السياسية، والأرسطية، وتثمين أفكاره التي اخترقت تاريخيتها، وتناظر الوضع العربي الراهن هنا وهناك. فما زالت القبلية، والعصبية، والصحراء، وترييف المدن، وبدونة القيم، والريع، والبذخ، والترف، والاستهلاك الشره، تفعل فعلها في تقويض أسس وتفكيك نسيج المجتمع، وتقف سداً منيعاً بين العرب وتحقيق الحداثة الحقيقية. ولكن لا بد من الاستدراك والقول إن فهمه للصراع الاجتماعي مغاير للواقع المعاصر، فقد جعل ابن خلدون الصراع بين البادية والحضر صراعاً أفقياً ممتداً، والتغيير والحضارة تبدلاً انتقالياً مغلقاً بنموذج البادية والحضر بفعل العصبية، أما الدولة فذات أصل بدوي سابق آلت إلى الترف والدعة، واستسلمت لمصيرها المحتوم لعصبية جديدة ناهضة، أي لبدو آخرين، وهكذا دواليك من دون تجدد حقيقي أو صراع عمودي على مستوى الطبقات. والأخطر من ذلك طبيعة الانهيار الذي أوصلها إلى هذا المصير المشؤوم، فهو انحطاط لا يرفع ولا يرد، ما جعله منظر الانحطاط بامتياز، فلا توجد في الأفق أبدية إلا الانهيار، ولا حتمية إلا الانحطاط ما دفع الكثير من رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر من الباحثين عن التقدم الداعين له بحجة أن التأخر الراهن ليس إلا تأخر تاريخي عارض، ولو كان تأخراً جوهرياً يتعلق بطبيعة العنصر العربي كما تقرر في الاستشراق عند رينان وغيره، لاستسلم الفكر واستقال العمل. ولهذا السبب نأى الكثير منهم في عصر النهضة عن ابن خلدون. كانت نماذج ابن خلدون التجريبية ضيقة جداً بالنسبة الى النتائج، ولا تسوغ له التعميمات التي توصل إليها. وتحتاج الخلدونية لتغدو تياراً فكرياً قابلاً للحياة وإنتاج المفاهيم، ضبط المقدمة وتحقيقها من جديد، والتوقف عند إشكالية ابن خلدون وحصرها بما يتلاءم والحداثة الراهنة. فأيهما أقرب للحداثة؟ الصراع بين البادية والحاضرة، أم علم التاريخ، أم العصبية والدولة أم فلسفة التاريخ، وهنا لنا وقفة، فهو في حديثه عن التاريخ فصله عن العلوم الشرعية، وجعل له فلسفة وقواعد مستمدة من طبائع العمران (القوانين الاجتماعية)، وذهب ابن خلدون للبرهنة على هذه الطبائع القارة، أو القوانين المحركة للعمران إلى التدليل بالتاريخ. إن مهمات تحويل ابن خلدون إلى الخلدونية يحتاج لدمج إشكاليته التي ستعمل على تجديدها بالإشكالية العامة للنقد الحضاري في عصر الحداثة، لتصبح دالة في عمومها على خصوصيتنا العربية، وليس العكس، أي تحديد العلم بالخصوصية: كاصطناع علم اجتماع عربي، كما ألح علي الوردي، ويلح محمد جابر الأنصاري، فالعلم عام في منهجيته، وخاص بتاريخيته، لا بهويته، فالعلم واحد وتياراته متعددة، ولذلك فالمطلوب الآن إعادة تأهيل ابن خلدون لتقديم أوراق اعتماده من جديد بالإنجاز الخاص، الذي اخترق تاريخيته في القرون الوسطى: كالحديث عن الظلم المؤذن بخراب العمران، وعن الترف كسبب للانحطاط وعن البذخ المكافئ للنزعة الاستهلاكية في المجتمعات الاستهلاكية، واعتماد نواتها الاستقرائية، ودمجها بالمادية التاريخية لإنتاج مفاهيم تركيبية جديدة مكافئة لحاجات الفكر والواقع لإنتاج خطابات نهضوية منتجة لتشكيل تيار خلدوني، وليس علم اجتماع خلدونياً، فالدعوة فاشلة من حيث المبدأ، لأنها لن تنجح إلا بسد منافذ الحداثة عن العرب، أو إرجاع العرب إلى القرون الوسطى، بحجة إحياء التراث، وفي المقابل لا يسعنا التخلي عن ابن خلدون، فهذا دليل عجزنا عن فصل منهجه عن رؤيته الميتافيزيقية، مما يتركنا نهباً لخطابات التغريب، والتبعية، وثنائية الأصالة والمعاصرة، وهي خطابات تم ويتم تفكيكها واختراقها بجهود العقلانية النقدية، فهل لدينا الرغبة والقدرة على النهوض بالخلدونية وتحويلها إلى خطاب عصري منتج للمعرفة والعمل.
نشرت بجريدة الحياة عدد 7/3/2009 | |
|