فلتسمحوا لي أيها الأصدقاء أن أهِم هذا المساء ، وبنية وقصد مبيتين ، بتقديم مديح في حق الفلسفة . وهو مديح تفرضه صداقة ومحبة الحكمة . و يطيب لي أن أبدأ الكلام بما انتهى عنده اسببينوزا في كتاب " الإتيقا " حيث نقرأ : " كل ما هو جميل صعب ، بقدرما هو نادر "(2) . يؤسس الجميل وجوده، إذاً، على الندرة، ذلك أن الوجود يكتسي حلة القبح نتيجة الحركة الجدلية للموجود، وهو يصارع من أجل اقتطاع حيز من الوجود ، يرضي طمعه اللامحدود في التملك . ولأن العمل جدلي ، ولأن الموجود يصارع الموجود، بعناد ، فإن النتيجة الطبيعية لهذا الصراع هي انبثاق القبح، باعتباره ذلك الخراب الذي يصيب سكينة الوجود ، أو ذلك النشاز الذي يعكر تناغمه ( هارمونياه ) .
إن الجميل ، إذاً ، نادر ، لأن الخراب والنشاز يكتسحان أنحاء الوجود . فلا تتبقى له سوى الهوامش، والفراغات الصغيرة، والصموتات العابرة ، لكي يِِؤسس فيها منازله . كيف يمكن أن تَكتشف منازل الجميل تلك ، وكيف يمكن أن تقيم فيها ؟ يقول اسبينوزا : " صعب " . ذلك أن العبور إلى تلك المنازل لا يتم إلا عبر المسالك الجانبية ، والطرق الضيقة ، التي يغفل عنها الموجود في تجاذباته . ولاتكمن الصعوبة في العبور عبر تلك المسالك فحسب ، لأنها تكون موحشة، بل إن الصعوبة تتعاظم لأن الإفتضاح يظل ممكنا في أي لحظة ؛ كأي عشق سري :
" ياحسرتا للعاشقين تحملوا ** سر المحبة والهوى فضاح " ( السهروردي) .
إن احتمال الإفتضاح ، يشكل، دون شك، خطرا محدقا بذلك العشق ، لكنه يعمل في نفس الوقت على إذكاءه .غير أن خطر الإفتضاح لا يهدد، فقط، ذلك العاشق العابر بسرية إلى تلك المنازل ، بقدرما يهدد تلك المنازل ذاتها، إذ تصبح موضع صراع ، عندما تتحول المسالك الضيقة إلى طرق سيارة فلا شيء يبقى سريا في الطرق السيارة .
إن النتيجة المرتقبة لهذا الإفتضاح هي: ألا يصبح الجميل فقط موضوعا للصراع، بل يصبح طرفا فيه . ذلك أن النشاز يسعى للإمتداد أكثر حتى يستحوذ على مساحة أكبر من الوجود يؤسس فيها، للموجود، مقامات .ثابثة و متشابهة .
هل ينبغي علي، الآن ، أن أقول بأن الفلسفة أمر جميل، وناذر ... وصعب؟ لعلها كذلك . فالفلسفة أمر جميل لأنها محبة ودهشة ، وهو ما يجعلها سعي للإكتشاف ، أي شوقا للأجمل والأفضل والفاضل . لكنها أمر صعب، إذ تطالب الفيلسوف العاشق بعبور الطرق الجانبية ، بمواجهة احتمال الفضيحة، وهو ينسج خيوط عشق سري تقود إلى الحقيقية: و" الحقيقة دقيقة ، طرقها مضيقة ، ودونها مفازة عميقة "( الحلاج ). لكن الفيلسوف المصاب بعدوى " سقراطية " يلقي بنفسه في أتون الحقيقة يستنير بنورها ، ويحترق بنارها ، و ينبه للأخطار التي يمكن أن تنجم عن التلاعب بها، أو ادعاء امتلاكها .
إن الممارسة الفلسفية معناها الإنخراط في تجربة بحث عن الكمال الممكن للموجود . لكنه انخراط يجد نفسه مسؤولا عن إدانة القبح المستشري بين الموجود والموجود. إن الفيلسوف يرهن نفسه في البحث عن الجميل، الذي يتخذه صديقا. لكنه يضع نفسه، بالمقابل في أفق عداوة مع القبيح و من يسيرون في ركابه. لكن لو افترضنا خلو الوجود من كل قبح ، أو على الأقل، لو افترضنا أن تكون منازل الجميل أكثر انتشاراً وحضوراً ، فهل يكون للفيلسوف من ضرورة ؟ يجيب ابن باجة : " فبين أن من خواص المدينة الكاملة ألا يكون فيها نوابت"(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. Deleuze et Guattari, QU’EST-CE QUE LA PHILOSOPHIE ? ED , Cérès , 1993 , p 7 .
2. SPINOZA , ETHIQUE ,trad , charles Appuhn , GF Flammarion ,p 341.
3- ابن باجة ، تدبير المتوحد ، تحقيق ، معن زيادة ، دار الفكر الإسلامي دار الفكر ، ط 1 ، 1978، ص46 . ويقصد ابن باجة بالنابتة الإنسان الفاضل الذي يتواجد في المدينة الفاسدة كما ينبت العشب بين النبات المزروع.