إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى

خطوة على طريق الوعي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 لوركا، نموذج منسيّ للمقاومة والرّوح المبدع

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
د. فرغلى هارون
المدير العـام

د. فرغلى هارون


ذكر عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008

لوركا، نموذج منسيّ للمقاومة والرّوح المبدع Empty
مُساهمةموضوع: لوركا، نموذج منسيّ للمقاومة والرّوح المبدع   لوركا، نموذج منسيّ للمقاومة والرّوح المبدع Empty18/12/2008, 4:04 pm


لوركا، نموذج منسيّ للمقاومة والرّوح المبدع
محمد علاء الدين عبد المولى

إن لوركا، وما يتمتّع به من خيالٍ نادرٍ، خيال يختصّ به عادةً بالشعراء الكبار وحدهم؛ لم يستثمر خياله في تشكيلاتٍ تجريديّةٍ تُعبّر عن معاناةٍ على صعيد الذّهن وحده، فشعرُهُ لا علاقة له بهذا الشكل الأجوف من المعاناة. إذ إنَّه استطاع بمهارةٍ فائقةٍ وَصْلَ هذا المجرَّد بعناصر الحياة المحسوسة المرئيّة. أي استطاع، كأيّ شاعرٍ خلاَّقٍ، إنزالَ البعيد إلى لحظةِ التّاريخ الإنسانيّ. ممّا يعني كذلكَ أن نجده شاعراً ينقُل المحلّيَّ المرئيّ إلى الكونيّ الأشمل. وهذه من أولى صفات أيّ شاعرٍ (بل أي مبدعٍ) عالميّ وهذا ما نراه جليّاً في شعر كلٍّ من " طاغور – آراغون – بوشكين – نيرودا – محمود درويش – أدونيس...". لهذا فنحن نقرأ في النّصّ الّلوركيِّ لا النُّسْخَة الإسبانيّة للمأساة والفرح والنَّشيد الرّوحيّ والرَّقص الشّعبيّ، بل نقرأ كلّ ذلك وقد حرّره لوركا في نسخةٍ كونيّةٍ. ولا نذهب خارجَ الحقيقة إذا ادّعينا أنَّه حرّر ذلك منطلقاً من المبدأ السّامي الّذي تمثَّلَهُ واستشهد في سبيله، وهو الحريّة. فالحرية أعطَتْهُ قوّةً روحيّةً ساعدتْهُ على إطلاقِ العنصرِ المحلّيّ من قيده الدَّلاليّ والمعنويّ ليجعله رمزاً دالاّ على علاقةٍ مع فضاء العالم ببعده الكليّ.‏


إنّ شاعراً حُرّاً في حجم لوركا، لن يقبل أن يُعمِّمَ على العالمِ إلاّ ما هو جميلٌ، يخاطب الحاجات الرّوحيّة الدَّاخليّة القصيّةَ للإنسان، من طموحٍ بالفرح والغد الأبيض والأخضر والقمريّ، إلى إيمانٍ بقدرة هذا الإنسان على تحقيق هذا الطموح.‏
هل كان لوركا حرّاً بـ " المصادفة "؟ هو ليس كذلك بالتّأكيد. وهو كان معذَّباً ومتلبّساً لحظةَ المأساة. لكن عمق إحساسهِ بعذاب الإنسان عمَّقَ لديهِ تقديسَ الحريّة أكثر. ومن يختار لهيبَ الحريّة شرعةً لخطواته، فإن عليه تأسيسَ مشروع حياته على ضوء هذا اللهيب المقدَّس. معرّضاً ذاته لأن تواجه لحظة مصيرها التراجيدية من أي جهةٍ جاءت. لهذا لم يكن مصير لوركا مصادفةً هو الآخر. فوجود شاعرٍ مشروعُه الحريّةُ للإنسان وطنيّاً وكَونيّاً، وجودٌ غيرُ محتَملٍ للدّيكتاتور، الذي لن يستطيع الشعور بالاستقرار، في الوقت الذي يكون هناك على الطّرف الثّاني من الأرض شاعر مثل لوركا أو نيرودا. فلوركا من المبدعين الذين يحملون في خلاياهم سبب موتهم. حيث شِعره عالَمٌ من الجمال العالي المنفتحِ على الكائناتِ في بساطتها وحقيقيّتها كذلك، وعلى الرُّوحِ البشريِّ المتأمّلِ... إنّ هذا الشعر وإن لم يكن يصارع الديكتاتور مباشرةً وبصورةٍ معلنةٍ، فإنَّه يحاصره خلف أسواره العالية ويسعى للقضاء عليه، من خلال عدم الاعتراف بوجوده ولا الاحتفال به. فشِعرُ الحياة والطُّفولة وأناشيد الغجر والعاشقات، هو أفضل شكلٍ لاختناق الطَّاغوت. ونيرودا يقول عن مصير لوركا ساخراً من قاتليه:‏
" لقد أحسن اختيارَهُ أولئكَ الَّذين أرادوا، وهم يُطلقون عليه نيران بنادقهم، أن يطلقوها على قلب أمَّته نفسها. إنهم لكي يُخضِعُوا إسبانية ويعذّبوها، اختاروا أن يفرغوها من طيبها الأكثر بقاءً وأن يحطّموها، وأن يفجعوها في روحها. الأكثر زخماً ". ( 1 )‏

وإذا كان نيرودا يشير إلى أن لوركا كان ضدّ " الجماليّة " فإنَّما يجب أن نفسّر ذلك بأن "الجماليّة" هنا والتي كان لوركا ضدّها، إنما هي تقديم الحياة على غير صورتها المأساويّة، أي وضعها في موضع نقيٍّ لا يليق بحقيقة دمويّتها وفاجعتها. لوركا ضدّ تزييف الحياة لأنه ضدَّ تجميلها، عندما يكون الهدفُ من تجميلها حجبَ الرؤية عن الحقّ المهدور فيها، حتى لا يصاب وعيُ الإنسان بها بالشّلل. وهذا بالضّبطِ مدخلٌ مهمٌّ لفهم رأي نيرودا في جمالية لوركا. أمّا أنّ لوركا قدّم شعراً جماليّاً في الجمال، ومميّزاً، فهذا لا ما لا يستطيع أحد نكرانه حتّى ولا نيرودا الجميل نفسه! وها هو نيرودا يعود فيصف لوركا بأنّه: " كان برقاً مجسّداً، وحيويّته في تحرّك دائم، كان فرحاً، ونوراً متدفّقاً، وعذوبةً هي فوق ما يعرفُ البشر، وكان شخصيةً سمراء ساحرةً تحملُ اليُمَنَ والسعادة ". ( 2 )‏

إذاً، علينا ألاَّ نبحث عن شعرٍ سياسيٍّ مقاومٍ في قصائد لوركا، ولا شعارٍ حربيّ. فهو ليس معنيّاً كشاعرٍ بذلك. بل علينا أن نبحث عن الرؤيا الشّاملة التي كشفت أمام روحه أسرار الحياة الدَّفينة وراح يستلهمها ويصوغ من " ليلِ المحب الأزرق " و " من الماء الرَّاكد "‏ و " ليالي النّافذة " و " الشَّجرة " و " يومٍ تمّوزيّ " يصوغ من هذا كلّه ومن سوى ذلك مشهدَه الروحي العظيم، معلناً أنَّهُ يقاومُ القُبْحَ بهذه الأعراس الحقيقيَّة.‏

لقد كان لوركا يتحدّث عمّا يسميّه " الرّوح المبدع ". وعلينا أن نتّخذ من دراسته عن هذا الرّوح مدخلاً أساسيّاً لفهم بعض جوانب عظمته. ففي " الروح المبدع وعمله " ( 3 ) يقدّم الشّاعرُ مفهومه حول سرّ الإبداع، أو ما يجعل الإبداع سرّاً غير مفسَّرٍ، غير مطروحٍ على بساط الشَّرح التّحليليِّ المنطقيّ. لذلك فهو، أي هذا الروح، قوّةٌ خفيَّةٌ لا يتمُّ اكتشافها بالمعرفة المباشرة " يحسّ بها كلُّ إنسانٍ ولم يعرفها فيلسوفٌ " وهو " ليس مسألة إمكانيّة بل مسألة شكل صادقِ* الحياة، مسألة الدّم والثّقافة التّليدة والفعل الخلاّق ".‏

ويعتبر لوركا أنّ موقع الرّوح المبدع بالنّسبة للمبدع أهمّ من موقع الإلهام وربّة الشعر. فهذان يأتيان من الخارج، بينما " الروح المبدع فيجب أن يوقظ في كل خليّةٍ من خلايا الدّم " وليس هناك طريقٌ واضحٌ منظَّمٌ للبحث عن الروح المبدع، إنّه لا يقبَلُ " الهندسة ". فهو السَّبب الّذي يدعو الإنسان للنَّشوة والصّراخ من جرّاء تلذذه بالعمل الإبداعيّ الذي أمامه، فإذا طلبتَ منه تعليلاً ما أسعفته السُّبُلُ. يقول لوركا:‏
" عند العربِ في موسيقاهم أو رقصهم أو غنائهم يحيا تجلّي الرّوح المبدع بصيحات تهتف " الله.. الله " غير البعيدة عن " أُولي " صراع الثّيران وفي غناء جنوبيِّ إسبانيا تتلو صيحة فيفاديوس ( يحيا الله ) تجلّي الروح المبدع ".‏
هل نتساءل الآن عن علاقة مفهوم " المقاومة " بالروح المبدع ؟. حسناً. لنتساءل إذاً: هل يعرف الإنسانُ القاتلُ الروح المبدع ؟ هل يسلك الروح المبدع سبيلاً إلى سوط الجلاّد ؟ لوركا عندما يكتشف أهمية الروح المبدع فهو يعلن حبَّه للحياة... والجلاّدُ والقاتلُ كلٌّ منهما يقضيان على الحياة. أي يقضيان على الروح المبدع.‏
لا يكتفي لوركا بقراءة الحاضر من منظور الروح المبدع. بل يقرأ الماضي ومنطوقَهُ بالشكل نفسه. إنه العاشق للمدينة الإسبانية بما تُمثّلهُ من ماضٍ عربيٍّ استثنائيّ روحانيّ وحاضرٍ يفجّر الحنين إلى الأندلس الضّائعة. لوركا هذا كأنه يقف أمام المدينةِ الأندلسيّة مستنطقاً روحها المبدع، سرّها الغافي وراء طبقات حجارتها الهرمة. يقول مثلاً:‏
" فوق قصر الحمراء، كان هناكَ ارتعاش عظيم لضوء مذهّب ".‏
" أنا أهفو هنا، فوق قصر الكابوس هذا... لأنّي أؤلّف جزءاً منه، ولا أستطيع أن أنسحب من هذه المدينة، لأنّي المدينةُ ذاتها ".‏
" روحي ليست في السّماء، لأنَّ هذه هي جنَّتي ".‏
" غرناطة مدينة عطلة، مدينة للتّأمّل والتّخيّل، مدينة حيث يكتبُ العاشقُ أفضل من أيّ مكانٍ آخر، اسم حبيبته على الأرض ". ( 4 )‏

ليس غريباً على شاعرٍ خَلاّقٍ مثل لوركا أن يتقنَ قراءةَ المكان والحوار الداخلّي مع عمقه لأنه مدفوعٌ بروحه المبدع إلى روح المكان المبدع، سرّان يلتقيان معاً، واحدٌ يصمد أمام الزّمن، والآخر يريد فكّ لغز صموده وصياغته من جديد، ليقاوم من خلاله بشاعةَ الحاضر الطّارئ. يستنهض لوركا الذّاكرة الغنيّة المرتبطة بحضارةٍ بادَتْ مع جماليّاتها ولم يبق منها غير ظلالها. يتحصّن بذكرى الجمال في حربه الجوهريّة مع النّار الطَّاغية ورصاص الظلم.‏

أيّهما يبقى خالداً: شعر مقاومة لوركا، أم شعر مقاومة شعاراتيّة مبتذلة تهبط بالمقاومة من رمزها إلى الحضيض؟ من هنا سببٌ آخر من الأسباب الواقفة وراء خلود لوركا وعالميّة شِعره. فهو كما سبقت الإشارة، وهنا يتأكد ذلك، لا يقرأ اللّحظةَ في زوالها، لا يقاومُ لساعةٍ أو شهرٍ، أو سنةٍ، إنه يأتي إلى الحياة ليقدّم بَصْمَتَهُ على مهلٍ، يتأمّلُ دوره فيها بالشَّكل الاستراتيجيّ الّذي يُعطيه سبباً للانحياز إلى جهة شموليّةٍ وديمومةِ الحياة، لا زوال وقائعها. وهذا دورٌ يعرفُ القيام به فقط المبدعون الخلاّقون وحدهم. لأنه دورٌ يسلِّمُ مفاتيحه هو الآخر إليهم وحدهم.‏

وفي الحقيقة هذا هو أهمّ درسٍ يقدّمه نموذج لوركا الخالد لنا نحن شعراء " الحياة اليوميّة ونثريّات الحياة..." والمقاومة والكفاح المسلّح. نحن الذين نكتبُ شعراً مُلْتصقاً بالأحداثِ، يطفو مثل الفقاعات على سطح الزّمن، يتلاشى عندما يذهب الحدث. فنحتفظ بالحَدثِ في أرشيف التّاريخ ويحفر شعر الحدثِ قبره مباشرةً بيديه. ومن أهمّ من تمثَّلَ هذا الدَّرس العظيم، شاعر عظيمٌ مثل محمود درويش الذي تربطه بشعر لوركا علاقاتٌ ليس هنا مكان الحديث عنها.‏

إنّ الرّوح المبدع الذي يقف أمام الأشياء، لا " لُيشَيّئَ " الشعر، بل ليلقي فيه ما يطيل إقامة الشعر على هذه الأرض. لهذا فـ " الوردة " عند لوركا " لم تبحث عن الفجر " فهو أمامها كلّ يومٍ. ولم تبَحثْ عن معرفة أو ظلّ منهما حدٌّ من جسدٍ وحلمٍ. ولم تبحث حتّى عن نفسها...إنها ( بحثّتْ عن شيء آخر ). هذا الشَّيء الآخر لا تُسمّيه الوردة، فإذا سمَّتْهُ انتقَلَتْ إلى غيره.‏
إن الشاعر مهمومٌ بما هناكَ، ويدهش لما يثير الناس مِنْ أشياء زائلة. ويودّ أن يشاركه الجميعُ فرح الذَّهابِ بعيداً خلف الزّوال.‏
في قصيدتِهِ " إلى وولت ويتمان " – وهو الشاعر الذي ظلمته أميركا بلده وسخرت منه كثيراً في فترة من الفترات – يرثي لوركا علاقةَ الناس بالحاجات الاستهلاكيّة والصّناعة والجسور. وهذا ما رثاه ويتمان بالتَّحديد. ويكشف لوركا لهؤلاء أنهم محرومون من المتعة الحقيقيّة ونشوة الحياة. حيث:‏
" لم يرغب أحدٌ في التَّوقُّفِ‏
لم يرغب أحدٌ في أن يكون غيمةً‏
لم يبحث أحدٌ عن السّرخس‏
ولا عن إطار الدفّ الأصفر..." ( 5 )‏
ويقول مخاطباً نيويورك:‏
" يا نيويورك العار‏
يا نيويورك الأسلاك والموت ،‏
أيّ ملاكٍ تُوارين‏
في وجنتيكِ‏
أيّ صوت حقّ سيحكي حقائقَ القمح ؟ "‏

يسعى الشاعر إلى إدانةِ القُبح، ويقاوم العار والموتَ المتمثّلين بحضارةٍ من طراز نيويورك، يقاوم ذلك بالدَّعوة إلى التّوقّف لنتأمَّلَ النّباتَ، ونحاول أن نكون غيمةً، وندافع عن حقائق القمح...هل ثمة أروع من مشروع مقاومة هذه هي بعض بنوده ؟.‏
ومع حديثنا عن مقاومة الرّوح المبدع الّتي امتاز بها شعر لوركا، لا نستغرب أن نجد النّاقد الرّاحل د. غالي شكري يأتي على ذكر لوركا في كتاب مخصَّصٍ لـ " أدب المقاومة " ولكنّ اللاّفت في رؤية شكري للمقاومة عند لوركا أنها رؤيةٌ تتحدَّث عن علاقة الشعر المقاوم بـ " الطَّبيعة " وكيفيَّة تحويل الطَّبيعة إلى أرضيّةٍ جماليّةٍ لموضوع المقاومة. وما أظنّ أنّ هذا بعيد عن كلامنا السّابق. ويرى د. شكري " أنّ لوركا كان مولعاً بالطّبيعة في شعره، ولكنَّهُ الولع القريب من روح الطّفولة، وهذا ما دعاه لأن يكون قريباً غاية القُرب من التراث الشَّعبيِّ بأغنياته ومراثيه وملاحمه. وهو يقتربُ من تكوين " صورة البطولة " في شِعره النِّضاليِّ من الشعراء الَّذين يعنون كثيراً بالتّفاصيل الماديّة ". ( 6 )‏

وفحوى مطالعة د. شكري في مقاومة لوركا، أنّ لوركا لم يعتن بالمقاومة بمعنى الغزو، وإنَّما كان يركّز على أبطالٍ أفراد عادييّن – وهذا ما عناه ربّما بالتّفاصيل – يستدعي فيهم‏ " الّلحظةَ التَّراجيديّةَ مع الاستناد على خلفيّةِ الصّورة الشعريّة الوافدة من الطبيعة وليس العكس... أي أنها ليست الَّطبيعة الحالّة في الأشياء، وإن تضافَرَتْ معها في صُنْعِ‏ الحدث ". ( 7 )‏
ولكنّ قصائد لوركا ذات الخلفيّة الطّبيعيَّة لا يستقيم معها قول شكري إنّ الطبيعة وافدةٌ وليست حالّةً في الأشياء، إلاّ إذا اعتبرنا هذا خاصّاَ بما يستدعيه لوركا من أبطالٍ يموتون في لحظةٍ تراجيديّةٍ تُشارك الطبيعةُ كعنصرٍ في صنعها.‏

على كلٍّ لا يُلغي كلام شكري أنَّ الطَّبيعة أفقٌ جماليٌّ واضحٌ تدور على أفلاكه قصائد لوركا. وأنّ الّطبيعة ليسَتْ مفردةً عابرةً عند لوركا. بل إنها الحياة برَّمتها وليس فقط الشجرة والغيمة والقمح. إنها الإنسان في أوَّل أحلامه وأسئلته. وهي الخِصب والضّوء والرَّقْصُ. إنّ الطبيعة في شعر لوركا محبوكةٌ من جميع أطرافها. وإذا عدنا الآن إلى ما قاله هو عن الروح المبدع وازدهاره في مواجهة الموت والفناء، استطعنا أن نقود مقولة الَّطبيعة عنده إلى موقعٍ جديدٍ. فاللقاء مع لحظة الموت يأخذ غالباً في هذا السّياق شكل تَعريةِ الإنسان من أقنعته وسائر صفاته الطَّارئة واللاّحقة. هنا الإنسان موضوعٌ أمام الهاوية تماماً، وفي إسبانية تُفتَحُ السّتارة على مشهد الموت، لا العكس، أي لا تُسْدَلُ عليه. تُرفع السّتارة على مشهد مصارع الثّيران الذي يتعالى فيه الروح المبدع داخلاً في لعبة الموت الحقيقيّ مسلّحاً بنود الإشراق الاستثنائيّ الذي إمّا يقوده للموت أو يقود الموتَ بعيداً عنه. هذه الّلحظةُ هي الطّبيعة أيضاً. لأنها استعادةٌ للبدء. تُعيد إلى الأذهان الصّراع الأوّل للإنسان مع الطبيعة في وحشيّتها وعدوانيّتها. مع فارقٍ نوعيٍّ يتمثّل في أنَّ الإنسان هوا في صراعه مع الثيران هو الذي يُحضِرُ الطّبيعةَ إلى الميدان ليصرعها أو تصرعه. إنه مشهدٌ يؤسّسه الإنسان بإرادته ليفرح بانتصاره على الموت. إنه لا ينتصر بشكلٍ تقليديٍّ، بل يستدعي طاقات اللذّة بينما يقوم بتحريض الطَّبيعة ضدَّه وإثارة غرائزها حتَّى اللاّنهاية ليستلذّ معها عندما يمتلك الموقفَ المتنامي دراميّاً ويدير لعبة الموت بفرحٍ وحشيٍّ يثأر لأعماقه المخزونة منذ آلاف السّنين.‏

بهذا يكتملُ طقسُ الموت والوجود على نحوٍ جديدٍ، ليقضي الإنسان على مُطْلَقِ غريزة الخوف من خلال تفجيرها واستثارتها، أي ليس بكبتها، بل بإحيائها كلها دفعةً واحدةً لتذهب كذلك دفعةً واحدةً نحو الموت...والأهمّ في هذا الّطقس أنّ الذي يقوم بهذه الحواريّة مع الطَّبيعة المتوحّشة هو " الروح المبدع " الذي ينتصر في النهاية للفرح...‏
في المحصّلة، تركيز لوركا على هذا المشهد في شعره ونثره، هو شكلٌ جماليّ من أشكال المقاومة على أرضيَّة الطبيعة.‏
أمّا إذا ذهبنا في البحثِ عن تجلّيات الَّطبيعة في شعر لوركا بأحوالها ومفرداتها، لأعطتنا الَّطبيعةُ نَفَسها مباشرةً دون جهدٍ كبيرٍ. سنرى القمر والزيتون والورد والنَّهر والّثور والرّقص والأرض...إلخ مع التذكير بأنّ لوركا كان يُشهرُ هذه الطبيعة بجمالياتها المعلنة والمضمرة، أمام الإنسان المعذَّب ليجد فيها خلاصَهُ، لا على طريقة الحلول الرّومانسيّة، بل على طريقة من يهرب من عناق الدَّم إلى عناق الفرح الشامل. وهذا وجهٌ من وجوه مقاومة العبث باستيلاد الجمال من عمق الحياة.‏

وكما نلاحظ فإنَّ الأسئلةَ الّتي انهمك بها لوركا، هي الأسئلة الّتي قد ينهمك بها شاعرٌ سياسيٌّ مباشرٌ، فتصبح بين يديْ هذا الشاعر مادّةً فَجَّةً باهتةً، هشّةً سطحيّةً، لا تصمد أمام تتابُعِ الزّمن.‏
لكنّ لوركا، ولأنه جاء إلى الوجود ومعه مشروعٌ شعريٌّ جماليٌّ عميقٌ، يبني روحاً ويلدُ فضاءً، فلم يكن يرضى الانشغال بترَّهاتٍ لا تثري عمق تأملّه. بل إنّ التّأمّل الفذّ والعفويَّ الذي يعلّمنا إيّاه شعر لوركا لا ينسجم إلاَّ مَعَ ما حَلَّ فيه روحٌ مبدعٌ.‏
أخيراً، إذا كانت ولادة لوركا طبيعيّةً، فإنَّ موتَهُ غيرُ طبيعيّ. وإذا كانت ولادتهُ طفلاً كغيره من أطفال الأرض، فإنّ موتَهُ كان موتَ شاعرٍ استثنائيّ. وفي مسرحيّةٍ تتحدَّث عن‏ " موت لوركا " نقرأ منها خاتمتها على لسان أحد شخصيّاتها والحديث عن محاكمة وموت لوركا:‏
" محاكمةٌ في منتهى الاقتضاب، عقوبة قُصوى ضدَّ كلّ شاعرٍ وفنّانٍ، ضدّ كلّ ما هو... [يحمل يديه إلى رأسه] شيء لا يمكن تصوّرُه.. لكنَّه مقوقعٌ! [ إلى الجمهور ] فهل من طريقةٍ للحيلولة دون ذلك ؟ ". ( 8 )‏
المصــادر:‏
( 1 ) نيرودا عاشق الأرض والحرية – ترجمة أحمد سويد – دار ابن خلدون 1979 – ص205.‏
( 2 ) نيرودا عاشق الأرض والحرية … ص 207.‏
( 3 ) لوركا، مختاراتٌ من شعره – ترجمة عدنان بغجاتي – دار المسيرة 1983 – ص181.‏
( 4 ) مختارات من لوركا – ترجمة ماديا ظافر شعبان – المؤسسة الجامعية 1983 – ص12 -18.‏
( 5 ) لوركا … ترجمة عدنان بغجاتي – ص 139.‏
( 6 ) د. غالي شكري – أدبُ المقاومة – دار الآفاق الجديدة – ص 330.‏
( 7 ) د. غالي شكري – أدب المقاومة… ص 333.‏
( 8 ) خوسيه أنطونيو ريال – موت لوركا – مسرحية ترجمة رفعت عطفة – مجلة الآداب الأجنبيّة – عدد 90 – عام 1997.‏
* نقترح أن تكون العبارة كما يلي: (مسألة شكل حقيقي الحياة)...‏
جريدة الاسبوع الادبي العدد 1087 تاريخ 19/1/2008
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://social.alafdal.net
 
لوركا، نموذج منسيّ للمقاومة والرّوح المبدع
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» نموذج القوة المصرية .. الملك منفتاح يؤدب إسرائيل
» أسئلة دولة الربيع العربى نحو نموذج لاستعادة نهضة الأمة
» العدالة الاجتماعية الدستورية فى الفكر الليبرالى السياسى المعاصر بحث فى نموذج رولز

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
إنســـانيــات .. نحـو عـلم اجـتماعى نـقدى :: 
منتدى الخدمات العامة لجميع الباحثين
 :: 
ســــير وأعــلام وتراجــم
-
انتقل الى: