لمحات من تاريخ الاخوان
أولاً: الإخوان المؤسسون من عصر انتشار الدعوة إلى مرحلة الصدام والعزلة
لازال يُنظر لجماعة الإخوان المسلمين باعتبارها التيار الأكبر والأكثر تأثيرا وتنظيما في الحياة السياسية المصرية، وهو أيضا التيار الأكثر ثراء وتنوعا في استخدام استراتيجيات مختلفة ومركبة تبعا لظروف كل عصر، بحيث نجحت في الاستمرار رغم المحن والأزمات التي مرت بها.
وعاشت الجماعة عمرا مديدا اقترب من 80 عاما، وعرفت حياة داخلية مليئة بالتنوع الداخلي والجيلي والثراء الفكري والسياسي، وعرفت كثيرا من الجدل داخلها وحولها، وشهدت مراحل صعود هائلة واستثنائية وخاصة في المراحل الأولى من تاريخ تأسيسها وحتى حرب فلسطين عام 1948، حيث عرفت انتشارا هائلا في محافظات مصر المختلفة وعضوية هائلة داخل القرى والنجوع، وأيضا ضعفا سياسيا كبيرا وبصورة لا تتناسب مع حجم الجماعة وانتشارها حيث غابت عن البرلمان طوال الفترة شبه الليبرالية، ولم يكن لها نائب واحد قبل ثورة يوليو 1952.
وقد دخلت الجماعة في صدام قاس مع السلطة الناصرية، وعانى أعضاؤها من ويلات السجون والمعتقلات، كما فرضوا على أنفسهم سياجا من العزلة، والانسحاب من المشاركة في الحياة السياسية طوال عهد الرئيس السادات الذي أفرج عنهم في بداية حكمه وعاد واعتقلهم في نهايته.
1- الإخوان الأوائل: الدعوة قبل السياسة
تأسس تنظيم الإخوان المسلمين في عام 1928 على يد الشيخ حسن البنا في مدينة الإسماعيلية، واستمر منذ ذلك التاريخ وحتى الآن كواحد من أكبر التنظيمات السياسية في مصر والمنطقة العربية، ونجح في استخدام تكتيكات مختلفة تبعا لظروف كل عصر، تراوحت بين التقدم والكمون، والهجوم والدفاع، والحوار والمواجهة، وعكست قدرات تنظيمية خاصة، سمحت للجماعة أن تبقى في العصر الملكي والعصور الجمهورية.
وكثيرا ما أبدى البعض دهشته من الأسباب التي أدت إلى بقاء الإخوان المسلمين طوال تلك الفترة متماسكين ومحافظين على بنائهم التنظيمي، وأيضا من قدرة الإخوان المعاصرين على أن يتعايشوا معا رغم وجود هذا القدر الكبير من التباين الفكري والجيلي بينهم.
وقد حافظ الإخوان المسلمين على بنائهم التنظيمي لأسباب كثيرة أبرزها يرجع لطبيعة البناء الذي شيده حسن البنا في عام 1928، وبقي صامدا رغم اغتيال الشيخ المؤسس منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن هذا الغياب لم يؤد إلى غياب مواز لفكره، فلم تقض الرصاصات التي أطلقت عليه في الثاني عشر من شهر فبراير عام 1949 على تراث الرجل العقيدي والتنظيمي والسياسي، ولم يرحل معه تنظيم الإخوان المسلمين الذي أنشأه، وترعرع ونما تحت قيادته.
2- جماعة وليست حزبا
حرص حسن البنا و"إخوانه المؤسسون" على اعتبار الجماعة جماعة دينية، وليست حزبا سياسيا بالمعني المتعارف عليه، إنما هي جماعة دعوية أو هيئة إسلامية. وظل هذا المفهوم مهيمنا على بناء الجماعة في مراحلها الأولى، ولكنه تراجع في المراحل الأخيرة، لصالح تصاعد العقل السياسي، الذي لم يلغ الثقافة والبنية الدعوية داخل الجماعة، وإنما تشارك معها في تشكيل صورة الجماعة في العصر الحالي.
وقد حرص المؤسس الراحل حسن البنا على أن يصنف جماعة الإخوان في إطار وصف عام من الصعب إمساكه، حين قال: .. أيها الإخوان أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضوعية لأغراض محدودة المقصود، ولكنكم روح جديدة تسرى في قلب هذه الأمة فتحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول، ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس(1).
وقد أكد المرشد الثالث في تاريخ الجماعة الراحل عمر التلمساني طوال السبعينيات على نفس تلك "المعاني التأسيسية" السابقة التي طرحها حسن البنا. فقد أشار التلمسانى ردا على سؤال طرحته صحيفة كندية حول تفسير الإخوان لسماح الحكومة بنشر مجلة الدعوة "التي هي مجلة حزبكم، ومع ذلك ترفض منحكم الحق في تشكيل الحزب؟" فأجاب المرشد العام قائلا: تفسير حقيقة هذا الأمر أصلا تسأل عنه الحكومة ومجلة الدعوة بدأت في الصدور منذ أوائل الخمسينيات، أما أن الحكومة لا تريد إعادة جماعة الإخوان المسلمين إلى الوضع القانوني فكما أسلفت أن الإخوان المسلمين هيئة إسلامية وليست حزبا كباقي الأحزاب، نحن ندعو إلى الإسلام، للبناء والتصحيح لا للهدم والتجريح، وقد لا يفهم الكثيرون هذا الأسلوب النبيل ولكننا نحن الإخوان المسلمين لا نهتم برضاء الناس، واهتمامنا الأول والأخير هو إرضاء الله مهما كانت النتائج التي تترتب على هذا الإرضاء(2).
وكان حسن البنا قد رفض الحزبية ولم يتعاطف معها متأثرا بأوضاع الأحزاب وصراعاتها في الفترة التي سبقت ثورة يوليو 1952، واعتبر أن الإسلام لا يقر التعددية الحزبية حيث قال: "أعتقد أيها السادة أن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شيء، وهو دين سلامة الصدور ونقاء القلوب والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بنى الإنسان جميعا، فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه... ولن ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم".(3)
3- جماعة متعددة التكوين والمستويات
إن بعضا مما نراه الآن من "تكتيكات" إخوانية، يمثل إلى حد كبير امتدادا لما شيده الراحل حسن البنا من رؤى عقائدية وتنظيمية مركبة، وتحديدا منذ المؤتمر الخامس للجماعة في عام 1937، حيث تعتمد على مجموعة متنوعة من الثنائيات التي تنطوي في بعض الأحيان على الموقف ونقيضه، أو على موقف غالب شديد الوضوح ومواقف فرعية شديدة الغموض يمكن استعادتها وتغليبها في بعض الأوقات، خاصة في أوقات الأزمة.
فقد كان للإخوان المؤسسين موقف غالب يؤكد على سلمية الدعوة والحركة ويرفض العنف، حيث شكل الفرع الأساسي في ثنائية الإخوان، إلا أن ذلك لم يحل دون وجود فرع آخر أقل طولا ووضوحا مال إلى العنف ومارسه في بعض الأحيان من خلال ما عرف بالتنظيم الخاص. ومن هنا لم يكن اختيار الإخوان المسلمين بناء تنظيم واسع ومتنوع أمرا عائدا للصدفة المحضة، أو الرغبة فقط في ضم أعداد ضخمة من الأعضاء والأنصار، ولكنه عكس رؤية إخوانية متكاملة في البناء التنظيمي والفهم السياسي.
وعلي عكس الصورة الواسعة ـ والمترهلة أحيانا في أعين البعض ـ التي بدا عليها تنظيم الإخوان المسلمين، إلا أنه في داخل جنبات هذه الصورة بدت هناك خيوط وقنوات محددة ومعدة بدقة لكي يقوم كل عضو بدوره التنظيمي على نحو محدد ودقيق، لا يعبر عنه بدقة المظهر الخارجي الواسع والمترهل في بعض الأحيان. وحرص الإخوان على تشييد تنظيمهم على أسس مركبة شديدة الدقة، ضمت مستويات متعددة، لكل منها برنامجها الخاص في التثقيف الديني والعقائدي، على نحو أدى إلى تمايز تنظيم الجماعة عن باقي التنظيمات السياسية والجماعات الدينية الأخرى. وكانت هناك ثلاثة أبعاد أساسية ميزت هذه التنظيم:
البعد الأول يتعلق بمستويات التنظيم، حيث حرص الإخوان على أن تتم عملية التجنيد على أكثر من مستوى، وهو ما ذكره حسن البنا بشكل واضح حين أشار في مذكرات الدعوة والداعية إلى ضرورة أن تعنى المكاتب والهيئات الرئيسية لدوائر الإخوان بتربية الأعضاء تربية نفسية صالحة تتفق مع مبادئهم. وتحقيقا لهذه الغاية يكون الانضمام لعضوية الإخوان على ثلاث درجات، هي:
1- الانضمام العام، وهو من حق كل مسلم توافق على قبوله إدارة الدائرة ويعلن استعداده للصلاح ويوقع استمارة التعارف، ويسمى "أخا مساعدا".
2- الانضمام الأخوي، وهو من حق كل مسلم توافق على قبوله إدارة الدائرة. وتكون واجباته ـ بالإضافة إلى الواجبات العامة السابقة- "حفظ العقيدة"، والتعهد بالطاعة، ويسمى العضو في هذه المرتبة "أخا منتسبا".
3- الانضمام العملي، وهو من حق كل مسلم توافق إدارة الدائرة على قبوله. وتكون واجبات الأخ فيه ـ فضلا عن الواجبات السابقة ـ إعطاء البيانات الكافية التي تطلب منه عن شخصه، ودراسة شرح عقيدة الإخوان، وحضور مجالس القرآن الأسبوعية ومجالس الدائرة، والالتزام بالتحدث باللغة العربية الفصحى بقدر المستطاع، والعمل على تثقيف نفسه في الشئون الاجتماعية العامة ـ وليس السياسية ـ والاجتهاد في حفظ 40 حديثا نبويا. ويسمي العضو في هذه الدرجة "أخا عاملا".
وهناك درجة رابعة، أصر الشيخ المؤسس ألا يضعها مع الدرجات السابقة وبصورة لا تخلو من دلالة وهي التي أسماها درجة "الانضمام الجهادى"، وهي ليست درجة عامة ولكنها من حق الأخ العامل الذي يثبت لمكتب الإرشاد محافظته على واجباته السابقة. أما واجبات "الأخ" في هذه المرتبة ـ فضلا عما سبق ـ فتتمثل في تحري السنة النبوية والصلاة في الليل، والعزوف عن مظاهر المتع الفانية، والبعد عما هو غير إسلامي في العبادات والمعاملات، والاشتراك المالي في مكتب الإرشاد وصندوق الدعوة، والوصية بجزء من تركته لجماعة الإخوان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل المصحف ليذكره بواجبه نحو القرآن، وأخيرا الاستعداد لقضاء مدة التربية الخاصة بمكتب الإرشاد. ويسمي الأخ في هذه المرتبة "مجاهدا" (4).
وقد بدا التنوع في مستويات التجنيد داخل الجماعة ذا دلالة، فالفارق يبدو هائلا بين تكوين "الأخ المساعد" و"الأخ العامل" من جهة، وبين نظيرة "الجهادى" من جهة أخرى، حتى لو أعلن الاثنان ولاءهم لمرجعية سلمية واحدة.
البعد الثاني يتعلق بالتكوين العقائدي لكادر الإخوان، فمثلما حمل التنظيم مستويات متعددة من التجنيد حمل أيضا مستويات متعددة من التكوين. فإذا أخذنا برنامج النشاط الشهري والأسبوعي للإخوان، والذي أشار إليه المؤتمر الخامس الذي عقد في عام 1938، فسنجد أنه قد عبر إلى حد كبير عن تلك الرؤية المتنوعة والمركبة للبناء العقائدي لكادر الإخوان. فقد اقترح مكتب الإرشاد ـ المستوى القيادي للجماعة ـ أن يحدد الإخوان لأنفسهم أياما معينة من كل شهر لتنفيذ البرنامج التالي:
- يوم النصيحة، ويقومون فيه بتوجيه النصيحة لجيرانهم بالتي هي أحسن، وينهونهم عن المنكر، ويدعونهم للخير.
- يوم الآخرة، الذي يزور فيه الإخوان المقابر للعظة وتذكر الآخرة.
- يوم العيادة، ويزورون فيه مرضى المسلمين.
- يوم التعارف، لزيادة أواصر الصداقة بين الإخوان.
وقد تواكب مع هذا النشاط السلمي ذي الطابع الاجتماعي والأخلاقي نشاط آخر مواز أكثر حدة، وتمثل في الأعمدة الثلاثة للنشاط الأسبوعي للإخوان، وهي:
1- نشاط ليلة الدرس، ويُخصص لمذاكرة الدرس الذي يلقيه المرشد كل أسبوع.
2- نشاط ليلة الكتيبة، حيث الاستعداد لتحمل المشقة ومقاومة النفس في سبيل الله.
3- نشاط يوم المعسكر، أي الجندية والتدريب والاستعداد للجهاد المقدس، ذلك هو ما يعنى به "الإخوان المسلمين" لتكوين الجيش الإسلامي. ولم يكتف منشور مكتب الإرشاد بما سبق، إنما أضاف معلقا على هذا اليوم: "نرجو أن يكون لهذه الناحية أكبر قسط من اهتمام الإخوان، فيعطون لأنفسهم كل أسبوع عرضا عسكريا يتدربون فيه، أو رحلة يزورون بها البلدان المجاورة فيثابون، ويكونون نموذجا حسنا للناس"(5).
البعد الثالث يمكن اعتباره تجسيدا عمليا للبعدين السابقين أو الثمرة "الواقعية" لهما، وتتمثل في ثنائية الخاص والعام التي حكمت حركة الإخوان المسلمين طوال الفترة الممتدة من عام 1938، أي عقب اشتعال المعارك والثورات على أرض فلسطين وحتى نهاية العهد الناصري تقريبا. وقد تبلورت تلك الثنائية بشكل واضح في التنظيم "الخفي" و"الموازي" لتنظيم الجماعة الأساسي وهو ما عرف لأعضاء الجماعة باسم "التنظيم الخاص"، وعُرف خارجها باسم "التنظيم السري".
وقد نجحت الجماعة في استيعاب أعضاء التنظيم الخاص، رغم تكوينهم العقائدي الصلب والمخالف لتكوين معظم أعضاء الجماعة، على مدار ما يقرب من ثماني سنوات ـ إذا اعتمدنا رواية محمود عبد الحليم أحد مؤسسي التنظيم الخاص والتي أعلن فيها أن التنظيم قد تقرر إنشاؤه في عام 1940 ـ إلا أن تغير البيئة الاجتماعية والسياسية في الداخل، وتحول البيئة الإقليمية باندلاع حرب فلسطين قد أدى إلى تفجر الخلافات داخل الجماعة بين "الكادر الخاص" و"الكادر العام".
وكان برنامج المنضوين تحت لواء هذا النظام يقوم على الأسس الآتية ـ كما أشار محمود عبد الحليم في الجزء الأول من كتابه(6):
- تقسيمهم إلى أسر خاصة بهم، مع تسلسل القيادة، واشتراكهم في جميع الأنشطة العامة للدعوة.
- دراسة عميقة مستفيضة للجهاد في الإسلام وما جاء بشأنه في القرآن الكريم من سور وآيات، وما جاء بشأنه في السنة النبوية والتاريخ الإسلامي القديم والحديث، مع قيام العضو بأنواع من العبادات و الصيام.
- التدريب على الأعمال الشاقة.
- التدريب على توزيع المنشورات.
- التدريب على التخاطب والتراسل بالشفرة.
- التدريب على استعمال الأسلحة.
- المبالغة على السمع والطاعة في المنشط والمكره وكتمان السر.
وقد اعتبر الباحث الأمريكي ريتشارد ميتشيل أنه في أواخر عام 1942 أو في أوائل عام 1943 خرجت إلى الوجود الوحدة التي عرفت داخل الجماعة باسم "النظام الخاص" وعرفت خارجها باسم "الجهاز السري". ويشير هذا التاريخ، وهو الأرجح بين كل التواريخ الأخرى، إلى بدء تأسيس الوحدة وليس بداية التفكير في إنشائها. وقد حدد الأعضاء أنفسهم شفويا تاريخ بدء الجهاز السري بوقت ما يقع بين عامي 1930 و1947، وهو ما يعد تعبيرا مباشرا عن جهل الجمهور الواسع من الأعضاء بالمسائل المتعلقة بهذا الجهاز.
ومع ذلك، إذا كان هذا الجهاز السري لم يكن قد تم إنشائه بعد، فإن التأكيد على السرية قد أصبح أسلوب عمل تم إرساؤه فيما يتعلق بأهداف التشكيلات القائمة. فقد شاركت كوادر التنظيم الخاص في حرب فلسطين عام 1948 التي أوضحت القدرات العسكرية لـ "الجهاز الإخواني". أما في الداخل فقد قامت عناصر التنظيم بوضع قنابل وعبوات ناسفة في كثير من الأماكن بالقاهرة أستهدف بعضها اليهود المصريين، والعديد من المتاجر اليهودية، كما أقدم شابان من أعضاء التنظيم الخاص على اغتيال قاض معروف هو أحمد الخازندار بسبب حكم قد أصدره بالسجن على أحد عناصر الإخوان لمهاجمته مجموعة من الجنود البريطانيين في أحد الملاهي الليلية. وقد أثارت هذه العملية ردود فعل عنيفة داخل مصر حيث حكم على الشابين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وتم احتجاز حسن البنا لبعض الوقت وأطلق سراحه لعدم توافر الأدلة.
وخلال الفترة نفسها وتحديدا في عام 1948 اكتشفت الحكومة المصرية مخبأ للأسلحة والمعدات في الإسماعيلية في عزبة الشيخ محمد فرغلي قائد كتائب الإخوان في فلسطين. وفي العام نفسه تم اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي على يد أحد شباب التنظيم الخاص.
4- الصدام الخاسر مع ثورة يوليو
استمر الإخوان على نهجهم هذا بعد قيام ثورة يوليو 1952، حيث جرت في عام 1954 محاولة لاغتيال عبد الناصر على يد أحد عناصر التنظيم الخاص، والذي تأكد فيه لكل أطراف الساحة السياسية، بما فيها قادة الإخوان أنفسهم، استقلالية التنظيم الخاص عن باقي هيكل الجماعة. وعقب تلك العملية وتحديدا في التاسع من ديسمبر تم شنق ستة من الإخوان، كما تم اعتقال الآلاف من أعضاء الجماعة، وأصبح التنظيم كما أكد ريتشارد ميتشيل مقضيا عليه تماما(7).
فقد كشفت العملية من ناحية عن حجم التباين بين تكوين كادر العمل السري، وتكوين كادر العمل العام. كما أكدت من ناحية أخرى، على عجز الجماعة عن احتواء تناقضاتها الداخلية في لحظات الأزمة والمواجهة، وهي خبرة جديدة لم يعتد إخوان العصر شبه الليبرالي على مواجهتها. فعلى ما يبدو فإن الخيارات العقائدية لمرحلة التأسيس صُممت للعمل والنجاح في مراحل الهدوء والسكون السياسي، وعجزت عن الاستمرار في مرحلة المواجهة والاحتقان، بل ربما تكون ساهمت تلك الخيارات نفسها في خلق أجواء المواجهة والاحتقان هذه.
وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى تكريس الانقسام داخل الجماعة بين تياري العنف والإصلاح حتى لو حافظ كلاهما على انتمائه الشكلي للتنظيم. ودخلت الجماعة منذ تلك الفترة في حالة من الكمون الداخلي والعزلة استمرت تحت صور مختلفة حتى اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981. وقد انعزلت الجماعة تماما عن ممارسة أي نشاط أو دور سياسي أو اجتماعي أو ديني داخل المجتمع المصري طوال عقد السبعينيات باستثناء النشاط الطلابي في الجامعات المصرية. كما أدى انعزالها عن الواقع السياسي إلى عودتها نحو التشرنق خلف تصورات أيديولوجية مغلقة حصرت داخلها السجال الفكري والعقائدي الذي دار داخل الجماعة بمعزل عن التفاعل مع المجتمع.
فقد تجاهل الإخوان الأحداث الكبرى التي شهدتها مصر في ذلك الوقت، فلم يشاركوا في أحداث (18-19) يناير الشعبية التي خرجت احتجاجا على ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية، بل تجاهلوا التعليق على الحدث في مجلة الدعوة، وبدوا بعيدين عن أي عمل سياسي أو شعبي مباشر طوال عهد الرئيس السادات.
ويمكن القول إجمالا إن "خطاب التماسك والوحدة"، و"مقولات السمع والطاعة" التي تبناها حسن البنا طوال مده قيادته للجماعة في الحفاظ على وحدة الإخوان، عجزت في ظل التحديات المحلية والإقليمية الكبرى في الحفاظ على وحدة الجماعة وتماسكها.
ومن هنا فرغم النجاح الذي حققته ثنائيات الإخوان في تقديم بنية تنظيمية مغرية يمكن أن تنال رضاء العناصر المتشددة والإصلاحية على السواء، وتلك ذات التكوين الصوفي والثوري، وتستقطب عناصر لخدمة الدعوة والدين مع من يمارس العمل السياسي، وانتمى إليها من يدعون إلى مكارم الأخلاق وينشط فقط في المجال الاجتماعي، ورغم نجاح "بوتقة" حسن البنا في جمع كل هذه الثنائيات في بناء تنظيمي وخطاب سياسي واحد في لحظات الهدوء والسكينة كما حدث طوال الفترة من 1928 حتى 1948 أي على مدار ما يقرب من عقدين من الزمان، إلا أنه مع تغير البيئة السياسية ارتبك تنظيم الإخوان، وعجزت بنيته التنظيمية وخطابه السياسي عن الأداء بالكفاءة السابقة، خاصة في مراحل المواجهة مع السلطة حيث عجزت تلك الثنائيات "التوفيقية" عن الحفاظ على وحدة الجماعة وتماسكها.