صدر مؤخرا عن المجلة المصرية لبحوث الاعلام -الصادرة عن كليةالاعلام - جامعةالقاهرة في عددها الأربعون / ابريل- يونيو 2012
" المعرفة الإعلامية الناقدة: الشباب الجامعي المصري كمكون لإعلامه الخاص" : دراسة في ضوء مدخل الادراك فوق المعرفي
د. إيمان محمد حسني عبدالله
مقــدمة:
الجميع يعرف ما هي وسائل الإعلام، والأغلبية تتعرض لها بشكل يومي، فمع تنامي النزعة الاستهلاكية في حياتنا المعاصرة، اصبحت المنتجات الإعلامية من اكثر المنتجات استهلاكا، نتعرض لها بشكل دوري ومكثف طوال اليوم، في المنزل ، في الطريق الى العمل ، وفي العمل، فضلا عن اوقات الفراغ والإجازات، فلا يكاد يمر يوم علينا حتى نصاب في اخر النهار بتخمة إعلامية، من جراء هذا الفيض الإعلامي المهول، لمختلف البيانات والمعلومات والآراء والأفكار والصور والعناوين، باختصار لا يكاد يمر يوما دون أن نتلقف من وسائل الإعلام رسائل ومعاني حول مفردات الواقع اليومي، الذي ندركه من خلالها، ونحن جميعا نتفاوض حول المعني، الذي تعكسه هذه الرسائل، وهو ما يتم على نحو متباين يختلف من فرد لآخر، وفقا لاختلاف درجة الاهتمام والتعليم والقيم والمصالح والاحتياجات الشخصية وأعباء ومتاعب اليوم واختلاف المتغيرات الديموجرافية كالنوع والسن والحالة الاجتماعية.. إلى اخره.
وجدير بالذكر أن هناك تحولات مهمة في مفاهيم المعرفة والأمية في القرن الحادي والعشرين، حيث يرتبط مفهوم الأمية تقليديا بفقدان مهارتي القراءة والكتابة، ولكن في حياتنا الراهنة تم اعادة تنقيح المفهوم، ليتناسب مع مشاكل وتحديات الواقع المعاصر، ومن ثم ، برز مفهوم جديد، وهو مفهوم محو الاميات المتعددة Multi-literacy، في اشارة إلى أميات العصر()، وينبثق من هذا المفهوم، مفهوم آخر، حديث نسبيا، وهو مفهوم "الأمية الإعلامية"، وتعد المعرفة الاعلامية هي نقطة البداية لمحو "الأمية المعلوماتية" في المجتمع المصري، كما أنها ضرورة لتحقيق مفاهيم وسياسات المرحلة الثالثة من الاتصال، ومن أهمها: مفاهيم "التمكين" و"عدالة الاتصال"، و"ديمقراطية الاتصال" ، تلك التي صارت تصنف كجزء رئيسي من ممارسة الحقوق الديمقراطية والمسئوليات المدنية في المجتمعات المعاصرة.
ومحو الأمية الإعلامية كمفهوم نشأ كرد فعل أكاديمي على انتشار الاتجاهات والحركات الاجتماعية المناهضة لوسائل الإعلام Anti-media في المجتمعات الديمقراطية الغربية، وهو كمفهوم ما زال في طور التبلور والتشكل بعد، ولم يصل العلماء حتى الآن إلى صياغة نهائية له، يتفقون عليها، ولكن يمكن رؤيته كنوع من التدريب، الذي يتحتم على الدولة اعطاءه للمواطن العادي، ليمنحه الأدوات اللازمة لتكوين المناعة الذاتية، والقدرة على تجاوز التأثير الانبهاري، والتلقي السلبي للرسائل الإعلامية، ليصبح مواطن نشط فعال، فهي تساعد المواطنين على فهم وتحليل ونقد تلك الرسائل، التي يستقبلونها يوميا على مدار الأربع وعشرين ساعة، من خلال استخدام حقوقهم في التعبير عن الرأي بحرية والوصول إلى المعلومات، والمشاركة في عملية صنع القرار، وهو ما من شأنه أن يساعد المواطنين على فهم أفضل للعملية الديمقراطية وأنشطة المجتمع المدني.
ولا شك أن نشر هذه المعرفة سيؤدي إلى تكثيف الطلب على الأخبار والمعلومات، المرتبطة بقضايا الديمقراطية، وليس المعلومات الترفيهية، منخفضة القيمة المعرفية، وهو الاتجاه السائد حاليا في الإعلام الإخباري الدولي infotainment، ليس هذا فقط بل إنه سيؤدي إلى خلق طرق جديدة للاتصال بين أفراد المجتمع، على أسس نقدية واعية، مما يمكنهم من إقامة حوارارات جادة بناءة، وهو ما يتوقع أن يحل الكثير من المشاكل والمجادلات، التي يواجهها المجتمع المصري في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير2011م، في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية .
ومن جهة اخرى، فإن تطبيق مثل هذه التدريبات التثقيفية إعلاميا، سوف يؤدي مع مرور الوقت إلى تطوير الأداء الإعلامي ذاته، لأنه سيؤدي إلى خلق طلب جماهيري، على نوعية معينة من الرسائل الإعلامية، ذات الجودة الانتاجية العالية، على مستوى الشكل والمضمون، والتي تتسم بمزيد من الدقة والتوازن والابداع، وهو ما سيؤدي إلى تحجيم الرسائل دون المستوى، لانخفاض الطلب عليها في السوق الإعلامي المصري، ومن ثم، الارتقاء بذوق ومهارات كل من القائم بالاتصال والمستقبل على حد سواء.
أما المجتمعات العربية، ومنها المجتمع المصري، فما زالت بعيدا نسبيا عن هذا المفهوم التثقيفي الجديد، الذي يرى وسائل الإعلام كجزء من الثقافة اليومية للأفراد، حيث تتركز أغلب الدراسات الإعلامية المعنية بالنواحي الثقافية في اتجاه من ثلاثة، وهم: رصد المحتوى الثقافي لوسائل الإعلام، أو رصد العادات الاتصالية للأقليات والمغتربين، أو رصد تأثيرات وسائل الإعلام على الثقافة ذاتها، ومن ثم، تهتم بقضايا العولمة والتبعية والتغيير الثقافي، ولكنها لم تسعى فعليا نحو رصد وتحليل ثقافة المصريين أنفسهم في التعرض لوسائل الإعلام، بوصفها ثقافة شعبية مميزة، ذات ملامح محددة يمكن رصدها وتحليلها وتفسيرها علميا، كما هو الحال في ثقافات الشعوب نحو الزواج والأزياء وممارسة الشعائر الدينية والاحتفالية والجنائزية ... إلى اخره.
فالثقافة الشعبية الجماهيرية نحو وسائل الإعلام، وأهميتها ودورها في المجتمع، ما زالت في حاجة إلى مزيد من الدراسة، لتحديد تأثير خصائص فئات الجماهير المصرية على أنماط التعرض، وتأثير نمط حياة الأسر المصرية، وساعات العمل وأسلوب تربية الأبناء على طريقة التعامل مع المواد الإعلامية من حيث الشكل والمحتوى، وتحديد خصائص البطل الجماهيري وأدواره، ولا شك أن ذلك سيفسر لنا أسباب تراجع معدلات انتشار وسائط إعلامية مهمة كالكتاب والتليفزيون المدفوع والانترنت، مقارنة بغيرها من الوسائط الاتصالية والإعلامية الاخرى، كما أنه سيوضح الاتجاهات والسلوكيات، وعلاقات الانفاق الاستهلاكي على وسائل الإعلام التقليدية والجديدة والثابت والمتغير فيها.
فقد ميز (Masterman,1998)في صيرورة تطور وسائل الإعلام، كمصدر للمعرفة والتعلم بين ثلاث مراحل تاريخية، الأولى كان ينظر فيها لوسائل الإعلام كمرض وتزييف للواقع، ويتم حث الناس والشباب والأطفال على تجنب آثارها المدمرة، كفساد اللغة والذوق والآداب والقيم والسلوك، أما المرحلة الثانية، فقد برزت في الستينيات، حيث حدث تحول مهم في الدراسات الإعلامية، جعل البعض يؤكد أن مضمون وسائل الإعلام ليس ضار كليا، ومن ثم، تم الدعوة إلى تفعيل أدوارها في الارشاد والتربية والتعليم، وجاءت المرحلة الثالثة في السبعينيات، حين حدث تحول اخر، من خلال التركيز على احتياجات الناس وتفضيلاتهم، واستكمالا لاسهاماته اقترح W.P. James, 2004)) ان تأتي مرحلة فكرية أكاديمية رابعة الآن، من خلال التركيز على اجابة سؤال مهم، وهو لماذا تحتاج أن تكون "عارف إعلاميا" أو "مستهلكا ذكيا" لوسائل الإعلام ؟ لنذهب نسبيا وراء المداخل النقدية والثقافية التي تنحصر في رؤيتين متسيدتين، وهما أن وسائل الإعلام تبني الثقافة التي تدهورت، أو العكس أن وسائل الإعلام تهدم الثقافة القائمة().
ففي ظل هذا الخضم المعلوماتي والإعلامي التنافسي في البيئة الاتصالية الجديدة، صارت المعلومات والأفكار الآن سلع متضاربة، تتطلب معرفة مصدرها وانتماءاته ووقت صدورها، ومدى دقتها واستمرار صلاحيتها، هل مازالت مطروحة كما هي، أم عدلت، أم كذبت بمعلومات مضادة، ومدى مصداقيتها، وجودتها الانتاجية والتقنية، للمفاضلة بين المتشابهات منها، بعيدا عن ما ظل الإعلاميون يتحججون به لأزمنة طويلة من مقولات لم تعد مقبولة علميا الآن، كمقولات "الجمهور يريد ذلك They want that " و"الجمهور غير راشد وغبي Stupid audience"، وهو أمر لم يعد مقبولا الآن، فلا مكان الآن لجماهير غير واعية، فعبارة "لا تلوم الجماهير .. القائد هو المرسل" صارت من كلاسيكيات الاعلام، لتحل محلها مفاهيم مستحدثة حول " قيادة الجماهير للإعلام" User Driven Media، وهو ما يعد تحولا فكريا جذريا في دراسات الاتصال والإعلام في القرن الحادي والعشرين.
مشكلة الدراسة
في ظل الثورة المعلوماتية والاتصالية الراهنة وما طرحته من إعادة تشكيل لجميع المفاهيم والتصورات والأدوار والعلاقات الإعلامية، وما صكته من مفاهيم حديثة نسبيا في الأونة الاخيرة مثل مفاهيم:" ديمقراطية الاتصال" و"المواطن الصحفي" و"الصحافة المدنية"، برزت العديد من التحديات المعاصرة، ليس فقط أمام القائم بالاتصال، ولكن ايضا أمام جماهير المواطنين، الذين يستهلكون المنتجات الإعلامية، ففي ظل الوفرة الإعلامية غير المسبوقة، والتنوع والتضارب في الأراء والأفكار والاتجاهات المطروحة، والسماح لكافة الموضوعات والأفكار للظهور بحرية والوصول إلى الجماهير، صار هناك تحديات كبيرة أمام الجماهير المعاصرة، ومن أبرزها:
1- تحدي امتلاك المهارات التي تتيح استخدام وسائل الإعلام، وخاصة الحديثة منها.
2- تحدي القدرة على التمييز بين هذه الوسائل، والاستمتاع بمزايا كل منها.
3- تحدي اختيار المنتجات الإعلامية الأكثر جودة شكلا ومضمونا.
4- تحدي القدرة على تمييز الفروق بين ما تطرحه وسائل الإعلام والواقع.
5- تحدي فهم وادراك طبيعة هذه الوسائل وأدوارها والعوامل المؤثرة عليها.
6- تحدي القدرة على التواصل مع الوسائل الإعلامية القائمة والمشاركة الفعالة في اعداد المنتج الإعلامي.
7- تحدي القدرة على خلق وسائل الإعلام الموازية (الإعلام الخاص).
8- تحدي معرفة الحقوق القانونية له في حالة تعرضه لمضايقات إعلامية.
وتعتبر المواد الإعلامية والمعلوماتية الآن من السلع والمنتجات الأساسية التي تستهلك بشكل شبه مستمر في حياتنا اليومية، وهي بالتالي تخضع لقوانين السوق، وعلى المستهلك ادراك واستكشاف العلاقات التي تربط بين صناعة الإعلام والمعلومات والثقافة والقوى الحكومية والثقافية والاجتماعية، كما أن وسائل الإعلام ليست كيانا محايدا يقوم بنقل المعلومات والأخبار الينا نحن الجماهير، والرسائل الاعلامية نفسها، عبارة عن بناء متكامل، متعدد العناصر، مثل: اللغة والمصطلحات والمعاني والمصادر والأطر والقيم الإخبارية والصور وزوايا الكاميرا والألوان والأضواء والصوت والموسيقى والتصميم والاخراج وآليات الجذب والاقناع والتأثير، ولكن من منا نحن الجماهير يفكر في ذلك اثناء تعرضه لهذه الوسائل ؟
وهنا، يؤكد (Eagle, 2007 & McDeromtt, 2007) أن أغلب جماهير وسائل الإعلام مستهلكين سلبيين، يندر أن يتحققوا من المحتوى الإعلامي، الذي يقدم لهم، أو يفكروا بشكل نقدي فيه()، وقد أكدت بعض الدراسات الاعلامية المصرية على نفس الفكرة، فقد اشارت ايمان حسني (2010) إلى وجود ضعف واضح في الثقافة الإعلامية لدى الشباب المصري، حيث عجز أغلب المبحوثين عن ادراك الفروق بين أنواع الصحف المصرية، وهنا دعت الباحثة إلى الاهتمام بالثقافة الإعلامية، كسائر الثقافات الحياتية الاخرى، مثل الثقافة الحقوقية والقانونية والاستهلاكية والصحية، بوصفهم متطلبات ضرورية لتطوير إدراك الإنسان المصري بالمجتمع من حوله، ومن ثم، حذرت الباحثة من أن أغلب الشباب المصري يستهلكون معرفيا، ما لا يعلمون، وأن عليهم محو جهلهم ببعض المعلومات الإعلامية الأساسية، من خلال الإلمام بأسماء أبرز الصحف الصادرة في المجتمع وانتماءاتها الفكرية وملكيتها، وأبرز أسماء الصحفيين والإعلاميين، وانتماءاتهم الفكرية والأيدلوجية... إلى أخره، فمثلما هو مستهجن أن يتناول الشخص منتجا غذائيا، دون معرفة مواصفاته، وتاريخ إنتاجه والاسم التجاري لصانعيه، صار الأمر كذلك بالنسبة للإعلام غذاء العقول......... يتبع