الدجل السياسي وتوزيع المغانم
بقلم عزالدين مبارك*
لم يتمكن الثوريون الحقيقيون من تسلم مقاليد الحكم لأنهم لم ينطلقوا من تنظيم جاهز بشخوصه وأهدافه ومشاريعه وكان الأمر مجرد انتفاضة عفوية ضد الظلم والقهر والفقر قامت بها جهات محرومة ومهمشة على مر تاريخ تونس ما قبل الاستقلال وما بعده.
ولم تشارك الأحزاب والمنظمات المسموح لها بالنشاط حينئذ بصفة فاعلة وقد فاجأتها الأحداث فلم تبادر باتخاذ مواقف واضحة ضد النظام القائم أو مساندة قوية للمحتجين وذلك خوفا من بطش السلطة والمحافظة على المغانم الشخصية المكتسبة في حال تمكن النظام من إخماد الحريق بالوسائل القمعية.
وكانت المساندة الفعلية متأتية من المناضلين الحقيقيين كأفراد وكمجموعات عشائرية وعائلية بالأساس مما خلق جوا من التلاحم في جهات شهدت الغبن التاريخي والإقصاء من التنمية وتفشي ظاهرة البطالة بين صفوف الشباب الجامعي والفقر المدقع.
وبازدياد وتيرة العنف لوأد الثورة في مهدها حتى لا ينتشر لهيبها لباقي الجهات وبسقوط الشهداء وسفك الدماء أصبحت الثورة واقعا ومسألة جدية فتلقفتها جهات أخرى قريبة منها ومشاركة لها في البؤس والخصاصة والتهميش فاشتد بذلك عودها وزخمها واندفعت بعد ذلك في اتجاه المدن الساحلية إلى أن لامست تخوم العاصمة مركز السلطة والقرار.
وفي الأثناء بدأت الألاعيب الدولية والدسائس الداخلية تتحرك في الخفاء تغذيها الأطماع والغنائم والاستراتيجيات المستقبلية لإيجاد مخرج ينسحب بمقتضاه بن علي من الحكم وإلهاء الشعب في قشور الحراك السياسي والرهانات الزائفة والمشاكسات الحزبية وذلك لتبريد الثورة وطمس الحقائق وقطع الطريق أمام الثوريين الحقيقيين من الوصول إلى الحكم.
وكل ما يحدث الآن هو تلهية للناس لا أكثر ولا أقل وكبح جماح مطالبهم باستعمال الدجل السياسي العقيم تارة وبالعنف تارة أخرى لأن الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي لا يمكن تغييره بين عشية وضحاها كما أن البنية الفكرية ومستوى الوعي الاجتماعي لدى الغالبية من الشعب مازالت طوباوية وغير متجذرة في النفوس.
والكثير من المقولات المتداولة كالديمقراطية والمحاسبة والعدالة الانتقالية ليست لها مدلولات على أرض الواقع فهي فقط ذات أبعاد لفظية زائفة ودمغجة سياسية لتحريك الغرائز ولا تمت للواقع بصلة.
فلا يمكننا أن ننكر أننا دولة في حالة تخلف على جميع الأصعدة ونظامنا السياسي هش ومائع وغير مستقر في غياب المؤسسات القوية المستقلة والمواطن الفاعل الواعي والذي تجاوز هموم بطنه ولهذا فالحلم جائز لكن الواقع والمعطيات تفند كل أطروحات أهل السياسة والخير كل الخير في الواقعية ونكران الذات والتواضع الايجابي ونحن في مرحلة بناء للمستقبل وتأسيس لجمهورية الغد.
وقد فتحت الثورة المغدورة ذراعيها حتى لمن لم يبارك انطلاقتها ولم يشارك في تضحياتها الجسام فأصبحوا في السلطة التي لولاها لما زالوا في المنافي قابعين وفي الدهاليز مسجونين وفي ديارهم محاصرين وأفواههم مكممة وحياتهم في جحيم.
وبما أنهم من راكبي الثورة فليس من أهدافهم تحقيق أهدافها بل الفوز بالسلطة والبقاء فيها كغنيمة شاء الله أن تكون من نصيبهم وتغيير المجتمع حسب تصورهم الخاص وتنصيب من يتبنى أطروحاتهم وغايتهم الولاء قبل الكفاءة لأن المسألة الأساسية والمحورية هي ربح الانتخابات المقبلة باستعمال أجهزة الدولة بالتمكن من المواقع الهامة وتعطيل عمل الفرقاء السياسيين والاستحواذ على جميع دواليب الدولة. وهذا التمشي يعود بنا إلى ممارسات العهود السابقة وقد عرفنا للتو ما آل إليه السير في هذا الطريق وما تمخضت عنه التجربة من مآسي وخراب.
فالجري وراء توزيع المغانم كما يفعله المجلس التأسيسي لصالح نفسه وهو سيد قراره وتعدد المناصب الحكومية والمستشارين دون المس من الامتيازات الكبيرة الممنوحة للمسؤولين ( السيارة- البنزين- المنزل) ودون محاسبة المفسدين وناهبي المال العام والمتهربين من الجباية لا يمكن أن يفهمه البطال وصاحب الشهرية الضعيفة والمكتوي بنار الأسعار.
وقس على منوال ذلك ما يدور من جدل حول التعويضات وهي تقدر بمبالغ فلكية طائلة سيتحملها الشعب الفقير والجائع وليس من جيب الأغنياء والمفسدين ومن تلا عب بالأموال كما شاء وخاصة حاشية بن علي ممن فر منهم للخارج وممن مازال حرا طليقا يرتع في البلاد عرضا وطولا.
فالدولة لا يمكنها تحمل أخطاء منظوريها إلا من كانوا عن حسن نية أما الأفعال المقصودة فهي تنسب للأشخاص أنفسهم القائمين بالأفعال المدانة وما على المتضررين إلا أن يطالبوهم بجبر الضرر عن طريق المحاكم. وإذا فتحنا هذا الباب فعلينا أن ننصف الجميع من يوسفيين و يساريين ومظطهدين ومطرودين ومحرومين من التنمية ومهمشين وهلم جرا.
فالمهم في العرف السياسي السليم هو تحقيق الأهداف التي نادت بها الطبقات الكادحة والمحرومة والمتطلعة إلى غد أفضل وبناء المؤسسات المستقلة بعيدا عن الغوغائية والجدل العقيم ورهانات ما قبل الاستحقاقات الانتخابية وهذا يتطلب وجود أشخاص لا يهمهم بهرج الكرسي وشهوة السلطة والتجاذبات الحزبية الضيقة أي رجال دولة بأتم معنى الكلمة لأن الدولة دائمة والكرسي مصيره الزوال ولو بعد حين.
*كاتب وشاعر