الانتهازيّة السياسية ولعبة الديمقراطية
بقلم: عزالدين مبارك
كاتب وناقد
انطلقت ثورة الشّعب والشّباب من رحم المعاناة وفي غفلة من الجميع في وقت عرفت فيه الساحة السياسية الاستكانة والخضوع إلى الأمر الواقع بل هناك من دخل في تنازلات مهنية وبائسة للحاكم الفاسد امّا جُبنًا أو انتهازيّة سياسية ومصلحية ضيّقة وكان من الأجدر التقاعد المشرف والانسحاب الايجابي في غياب القدرة على المواجهة والتحدّي.
فأغلب العائلات السياسية المنظمة دخلت مع السلطة القائمة في زواج المتعة المحرمة وذلك لمجرّد الحضور الديكوري مقابل بعض التمويلات البسيطة والدعوات إلى القصر للاستماع إلى الخطب فارغة المضمون وتكريس عبادة الشخص وتوريث الزوجة المصون.
فالطبقة السياسية رغم انخداعها ببيان السابع من نوفمبر بعد أشهر قليلة لم تحرّك ساكنًا وأغمضت عينيها ولم تحتجّ بل هناك تسابق نحو الوليمة وتتدافع للعب دور في جوقة المنافقين المسبحين بحمد الحاكم الذي انكشفت عوراته وتسلّطه ومحدودية سياسته وكذبه المباح.
ولم نر على الساحة إلاّ القليل من الشخصيات المناضلة التي جاهرت بمواقفها وتكبّدت شتى صنوف العذاب والتنكيل والتهميش ودفعت ضريبة قاسية في زمن عزّت فيه النصرة ونعتت بالجنون واللاّعقلانيّة والانتحار السّياسي.
فليس هناك من راهن على التغيير أو تنبّأ بما سيحدث مستقبلا إلاّ القلة القليلة رغم انسداد الأفق السياسي واستشراء الفساد والمحسوبية ونهب المال العام.
فلا أحد تكلّم من السياسيين وواجه التيّار ووضع الأصبع على مكمن الداء ونادى بالتغيير.
فالجميع يكتفي بالإصلاحات الطفيفة التي لا تتجاوز غالبا مجرّد الكلام والتطمينات والمسكنات والتوافقات المهينة تحت عصى التّهديد والوعيد.
وهكذا أصبح الوضع سجنا كبيرًا لا حياة فيه لمن تنادي ينتظر الجميع حدوث معجزة ربّانية والمركب يغرق بمن فيه فالربّان غارق في اللعب مع ابنه المدلّل وزوجته ترتع في المخمليات وكأنّنا في عصر ألف ليلة وليلة والملك شهريار، تنصّب المسؤولين وتعفي من تشاء من مهامه وتلعب بالبلاد والعباد كما يحلو لها والجميع يهابها ويخاف بطشها وجبروتها وكأنّها آلهة أتت من سماء قرطاج بعد أن أفلت حضارتها منذ زمن غابر.
لقد اكتشفنا بعد أن أزاحت الثورة المجيدة التي قام بها ‘’أطفال صغار’’ في عمر الزهور لم تلوثهم السياسة السياسوية ولم يذوقوا طعم النفاق والدّجل ولم يتعلّموا دروس الطّاعة والانبطاح في مدرسة بن علي ومعلّمته ليلى، هول الفاجعة والخديعة والخراب الذي حلّ بالبلاد.
كما اكتشفنا عمق النفاق السياسي والانتهازية التي كانت تعيشها الطبقة السياسية في بلادنا والتي شاركت بتواطئها وصمتها وتخاذلها في هذه المسرحية الهزلية البائسة ولولا ثورة الشباب التي تفجّرت في غفلة من التّاريخ وكأنّها القدر ورحمة السماء لما زلنا في سباتنا نزمّر ونمجّد وننبطح للأشباح والمرتزقة ونهلل للتوريث ونقبل شاكرين قدم ليلى وأخواتها.
على السياسيين جميعا أن يتعّظوا من هذه الثورة الخالدة التي جاءت لتنقذ البلاد والعباد من الكارثة وأن يقدروها حق قدرها ويبتعدوا عن الانتهازية السياسية التي سادت لفترة طويلة ويبتعدوا عن النفاق والدجل والوعود الكاذبة لأنّ الشعب واعٍ وعينه مفتوحة ويرى ويحاسب ولو بعد حين.
فهذه الثورة جاءت أيضا لتنقذ الطبقة السياسية من تقاعسها عن القيام بدورها الحقيقي المنوط بعهدتها وأهدتها فرصة أخرى لتكفّر عن ذنوبها وتقوم بالإصلاحات الواجبة دون مواربة وتشبّث بالكراسي والمناصب الزائلة فمن منكم كان يراهن على هروب بن علي وحاشيته المتنفذة؟ فمن كان يهاب الشعب، فالشعب حي لا يموت ومن كان يهاب بن علي فبن علي فرّ وهرب دون رجعة.
ومن مظاهر الانتهازيّة السياسية في زمن ما بعد الثّورة انتشار نزعة المطلبية واستغلال الفوضى التنظيمية والوضع المؤقت الذي تعيشه البلاد بعد أن تخلخلت مفاصل الدولة وتلاشت القبضة الحديديّة الأمنية.
فالمرحلة الانتقالية المؤقتة التي تتبع كلّ ثورة تحتاج إلى سياسيين أفذاذ يؤسسون لتحوّل ديمقراطي لكن في كنف الاستقرار ويقنعون فئات الشعب بحسن الاختيارات وتحديد الأولويات حتى لا تعمّ الفوضى وتكثر الطلبات من كلّ جهة في وقت انفتحت فيه الحريّة على مصراعيها وهذا في حدّ ذاته مكسب عظيم لا يجب التّفريط فيه.
ومن الأولويات الملحّة الإصلاحات السياسية المتعلّقة بالدستور واختيار النظام السياسي والمجلة الانتخابية وقانون الأحزاب وقانون الصحافة وحلّ البرلمان ومجلس المستشارين وقانون فصل الأحزاب عن الدولة.
كما يجب إعادة النظر في توزيع الثورة وذلك باعتناق الاقتصاد الجهوي وتخصيص الاستثمارات حسب الوزن السكاني لكلّ ولاية أو جهة مع مراعاة الغبن الذي أصاب الجهات المحرومة في الماضي.
كما تجب العناية بالبطالة وتحديد تصوّر لمجابهتها في الأمد القصير والمتوسط والبعيد وذلك بحصر الظاهرة واستنباط آلية في التوظيف حسب سنة التخرّج وكفانا من معضلة اللّجان والبيع والشراء والمحسوبيّة والتدخلات.
وفي انتظار التوظيف الشامل لكل المعطلين توظيفًا يتطلّب منوالا اقتصاديا جديدا بحيث لا تتخلّى الدّولة عن واجباتها الأكيدة لصالح القطاع الخاص الذي لايتعهّد إلاّ بالمشاريع المربحة وقليلة الكلفة ذات التوجّه الخدماتي، يستحسن في مرحلة أولى تمكين العاطلين من منحة بطالة إلى حين حصولهم على شغل قار.
فليس من العدل في شيء بعد ثورة الشباب أن نلبّي طلبات المباشرين للعمل ونترك جانبا مطالب المكتوين بنار الخصاصة والفقر و’’الميزيريا’’.
فهناك من الموظفين من يتمتّّعون بامتيازات كبيرة لا تتماشى مع مردودهم وإمكانياتهم الفكرية والعلمية ويحْصُلون على أجور مرتفعة وغير مبرّرة وزيادة على ذلك يطالبون بالزيادات وهناك في الربوع البعيدة من يتضوّر جوعًا وفاقة.
فالمنطق السليم أن نضحّي بالقليل من أجل إسعاد الآخرين وخاصة الشباب الذي واجه الرصاص بصدور عارية ولابد من القيام بحملة تبرّعات وبعث صندوق للبطالة يتقاسم أعباءه الدولة والمواطنون والمؤسسات حتى يحسّ المهمشون في العهد البائد أنّ هناك من يتفهّم ظروفهم ومعاناتهم وكفانا كلامًا منمقا في التلفزات والجرائد والعنتريات التي لا تفيد شيئا وتؤدي في النهاية إلى الإحباط والكفر بالثورة التي مازالت أصداؤها ترنّ في الآذان ولم تجف دماء الشهداء الزكية.
فالموظفون السّامون يتمتّعون زيادة على أجورهم المنتفخة والذين لا يحسنون غير الإمضاء والتسلط على صغار الأعوان ولهم مشاريع ووظائف خفيّة أخرى والكثير منهم يستعمل الإدارة لغاياته الخاصة ومنهم من تواطأ مع أزلام العهد السابق وفي خدمته الخدم والحشم وتحت تصرّفه السيارات والوقود بلا حساب.
فلو رفعنا عنهم هذا الامتياز غير المبرّر (السيارة الخاصة والوقود) لتمكنا من مساعدة الأعداد الكثيرة من البطالين والمحتاجين.
ففي العهد السابق تعدّ هذه الامتيازات وغيرها بمثابة الرشوة المقنعة للحصول على المبايعة وتجاوز القانون وسوء التصرّف ويتمتّعون مقابل ذلك بكل أنواع ‘’البقشيش’’ الإداري والمالي زيادة على الحماية من التتبّع والمساءلة القانونية.
وكلّنا نرى اليوم بأم العين المظالم التي عاشها أغلب أبناء هذا الشعب والتي يشيب منها الوليد ويتوقّف العقل أمام فهمها وفكّ أحاجيها المعقدة.
إنّ التظلّمات والمطالبات هي بقدر الكبت والقهر الذي عاشه أكثر الناس في زمن الصّمت والعار والاإنسانية، وهي مرحلة التردّدات الزلزاليّة ستخفت مع تقدّم الإصلاحات النزيهة خاصة إذا تمّت تلبية بعض المطالب الموضوعية المتعلّقة بالبطالة والاحتياجات الملحّة ورفع المظالم ومحاسبة المجرمين والمارقين عن القانون واتساع الحريّات والإسراع بإرساء منظومة قانونيّة ودستورية تتماشى مع أطروحات الثورة دون تحيّز أ و تلاعب.
فالانتهازيّة السياسية بالركوب على الأحداث من مطلبيّة مجحفة في الزمن الصعب يمكن أن تعطّل في سرعة المسار الديمقراطي فلا مجال للمزايدات وتكفير الآخرين والادعاء بتملّك الحقيقة المطلقة.
فهذه الثورة ليست وليدة من أرحام الطبقة السياسية حتى تتبنّاها وتتزعمها دون وجه حق وتدّعي أنّ لها فضلا فيها فإما أن تحقّق مطالبها المشروعة على أرض الواقع دون مواربة وخذلان أو تتنحّى جانبا. وعليها أن تشكر هذه الثورة ليلا نهارا لأنّها أنقذتها من نفسها ومن خذلانها الموصوف ووضعتها من جديد في خضمّ الحدث لعلّها تغتنم الفرصة ولا تضيّعها.
وهناك من المطالب التي ليست من الأولويات ولا يمكن الركوب على الأحداث وتعجيز البلاد وتركيعها والأجدر التوجّه للعمل المفيد العقلاني بعيدًا عن الشعارات والبطولات المزعومة. فأين هذه البطولات والمزايدات يوم كان بن علي حاكمًا بأمره وليلاه تمرّغ في الوحل أنف أشباه الرجال؟
فالانتهازية السياسية في هذا الوقت بالذّات لا تفيد الثّورة ولا تحقّق منفعة عاجلة أو آجلة، فقد أضرّت البلاد في العهد السابق حين صمت الأغلبيّة أمام الطغيان والفساد وهاهم يغيّرون من جلودهم وقواميسهم ويركضون في اتّجاه وليمة الثورة المنصوبة لعلّهم يغنمون بلحمة سمينة أو فاكهة طازجة دون حياء وحمرة وجل من الماضي القريب المشوب بالخساسة والعمالة ولحْس الأقدام والنّعال الوسخة.