المثقفون والسلطة: العلاقة الملتبسة
بقلم: عزالدين مبارك
في البداية نعرّف المثقف بالانسان الذي ينتج الأفكار والآراء والأطروحات في سبيل تغيير الواقع المجتمعي وتفكيك بنيته وطرح الأسئلة ويجاري التحوّلات المتفاعلة بالنقد الحرّ والمتجاوز للجمود والمندفع إلى ماهو أرقى وأفضل.
أمّا السلطة فهي القوّة القاهرة التي تتحكّم في الموارد وتتخّذ القرارات وتنفذ السياسات المتعلقة بالمجتمع ونيابة عنه لتحقيق الاستقرار والديمومة والتطوّر ضمن ضوابط قانونيّة ودستورية وأخلاقيّة ويمكن أن تكون مطلقة أو محدّدة.
فإذا كانت سلطة المثقف معنوية وفكرية بالأساس فإنّ سلطة الدولة هي مادية قهرية فاعلة تؤدي إلى تغيير الواقع في الحين ولهذا فهي أخطر بكثير من دور المثقف في المجتمع.
والعلاقة بين المثقف والسلطة ملتبسة بالأساس وتخضع إلى التجاذبات والصراع والتصادم أحيانًا مرورًا بالاحتواء والاغراء. والسلطة الواعية هي التي تستمع لنبض الشارع من خلال المثقفين الأحرار وتتبنّى أطروحاتهم وتتفاعل مع أفكارهم ونقدهم ولا ترمي بهم في غياهب السجون مثلما تفعل أغلب السلط في البلدان العربية التي لا تعتمد إلاّ على الصوت الواحد والفكر الواحد بعيدا عن التشاور والأخذ بالرأي المخالف.
والبيئة السياسية العربية النافية للآخر والمتسلطة على الرقاب لا تحتمل وجود المثقفين المستقلين والمعارضين لسياساتها ومشاريعها بل تعاديهم وتضيّق عليهم وترمي من ترمي بالسجون بمجرّد كلمة ناقدة أو تشتري ذمم ضعاف النفوس وتلحقهم بركابها وتجعلهم بوقا ودعاية وتلبسهم الخيانة لمبادئهم.
والكثير من المثقفين الأحرار في بلداننا العربية يصمتون وحسرتهم في قلوبهم أو يهاجرون قسرا إلى حيث الحريّة الفكرية وقد اكتشفنا الكثير منهم من خلال الفضائيات والأنترنات.
وهكذا أصبح تأثير المثقفين فاعلا وصوتهم مسموعا من خلال التطور التكنولوجي على مستوى المعلومات والاتصال الحديث لأنّ الحواجز السلطوية الغاشمة وتكميم الأفواه لم يعد يجدي نفْعًا فأصبح الخبر يتنقل من مكان إلى آخر بسرعة البرق وحينيا.
وفي هذه الوضعية الجديدة التي أصبحت تحكم الواقع لم يعد للسلطة المجال في ستر عوراتها والتستّر على أفعالها المشينة دون الانكشاف والظهور للعيان.
وهكذا أصبح دور المثقف فاعلا ومحرّكا للواقع وللجماهير ومؤثرا في توجّهات السلطة ومحدّدا لسلطانها إلى حدّ الانقلاب عليها وتغييرها بقوّة الشارع وثورة الشعوب.
فالسلطة التي مازالت تعيش بعقليّة القهر والتجبّر والفساد لم تعد قادرة على التحكم في منظومة الاحتجاج والنقد لأنّها بحكم التغيّرات المعرفية والتكنولوجية الحديثة أصبحت فاقدة لشرعيتها المجتمعية ولا تعيش عصرها.
كما أنّ المثقفين المدجّنين من السلطة والمتمعشين من فتات نعمها لم يعودوا قادرين على المضي قُدمًا في أطروحاتهم التي عفى عنها الدّهر وشرب وأصبحت أضحوكة ونكتة فارغة من مضمونها فلم تعد تنطلي على أحد.
والكثير من هذا الرّهط من المثقفين يغيّرون جلودهم مع كل وافد جديد للسلطة ليبيعوا بضاعتهم الكاسدة ظانين أنّ المجتمع والشّعب دون ذاكرة.
وبما أنّ الأرضيّة المجتمعية تغيّرت والمفاهيم تطوّرات ولم يعد للانسان ما يخفيه في ظلّ ثورة المعلومات والتكنولوجيا، فانكشاف الحقيقة أصبح مُتاحا للجميع لفرز الغث من السمين والبقاء للأصلح.
والأجدر هو أن تقوم السلطة بدورها حسب ما اتفق عليه مجتمعيّا ضمن الضوابط القانونيّة والدستورية وترك المجال للمثقفين يقومون بدورهم النقدي والمعرفي دون وصاية حتى تكون لهم السلطة المعنوية القادرة على تقويم الاعوجاج والتنبيه إلى الأخطاء وكشف الحقائق للجميع.
فسياسة التطبيل والمدح والتزلف والنفاق للحاكم شوّهت الواقع السياسي وجعلت من بيده السلطة في مقام الإله الواحد القهّار، لا يخطئ أبدا وأمره مطاع حتى في المعصيات والجرائم وتجاوز القانون. والسلطة الواعية تعترف بحق المجتمع في النقد والمعارضة والاحتجاج من خلال النّخب والأحزاب لأنّها ليست مقدسة ومعصومة من الخطأ.
كما عليها أن تعترف بالآخر والمشاركة في هموم الوطن الواحد دون اقصاء بدواعي الأمن ومخالفة الرأي والمشارب الفكريّة.
والسلطة التي تريد الخير لشعبها هي خادمة له والمواطن هو هدفها الأوحد ولا تفكّر في البقاء في الكرسي والتشبّث به إلاّ بقدر ما تقدّمه للمجتمع من منافع وخيرات وتتركه طوْعًا وتنحني أمام ارادة الناخبين ولا تجعل من الوطن رهينة والشعب قطيع أغنام.
والجدير بالذّكر أنّ العقلية والموروث الحضاري للشعوب العربيّة لايزال يراوح مكانه بحيث تكثر كلّ سلطة جديدة من الوعود وتفتح للجميع الآمال العريضة وكأنّنا في المدينة الفاضلة مثلما فعل الرئيس الهارب وبيانه الأكذوبة الفاضحة وذلك لمجرّد التحذير والمراوغة.
وبعد التمكّن من مقاليد الأمور يغلب الطابع الاستبدادي التطبع فتتحوّل الوعود إلى ز يف وخديعة وتعود حليمة إلى عادتها القديمة وتظهر على السطح ما بالنّفس من أمراض وتخلف وتسلّط واحتقار للآخر وذلك بفعل العقلية المتجذّرة في النفوس أوّلا وثانيا بحكم جوقة المتزلفين والانبطاحيين والدّجالين وما أكثرهم في عالمنا العربي.
وهكذا يجد من في السلطة نفسه في مقام الإله يفعل ما يشاء دون رقيب أو حسيب وحتى لا تنكشف أفعاله المشينة، يبادر بتكميم الأفواه وقطع الأرزاق وافساد المجتمع وفسح المجال لأصحاب السوء وعصابات السرقة والنّهب العام لتعيث فسادا في دواليب الدولة.
وفي غياب المحاسبة والشفافية والنّقد والسلطة المعنوية للمجتمع المدني والمثقفين وبحضور جوقة المنافقين والمتزلفين تصبح الدولة ملكية خاصّة ومرتعا لكل التجاوزات فيعمّ الفساد والظّلم والقهر.
فالقوانين تفصل حسب أهواء الحاكم صاحب السلطات الإلهية والدساتير تنقح حسب الأهواء والنزوات.