د. فرغلى هارون
المدير العـام
 عدد الرسائل : 3278
تاريخ التسجيل : 07/05/2008
 | | موضوع: السلوك العدواني.. والانفجارات العصبية الانفعالية 30/11/2008, 4:21 pm | |
| السلوك العدواني.. والانفجارات العصبية الانفعالية
بقلم : د. عبد الهادي مصباح
لماذا يفقد الإنسان الهادئ الوديع أعصابه ويقتل؟ ولماذا يقتل بمثل هذه البشاعة والقسوة؟ كيف نثار أحيانا بهذه السهولة ولهذه الدرجة من اللاعقلانية؟ كيف تطغي المشاعر الاندفاعية علي العقل للدرجة التي يفعل فيها الإنسان حماقة, أو يرتكب جريمة, ثم يعيش بقية عمره يندم عليها, ولايدري كيف ـ ولماذا ـ فعل ذلك؟ أسئلة كثيرا ماترددت أمامي في الآونة الأخيرة بعد كل هذا الكم من الحوادث المثيرة وجرائم القتل المتعددة المقترنة بكثير من العنف غير المبرر.
في الحقيقة إن هناك أسبابا عديدة تؤثر علي سلوك الفرد قد تكون اجتماعية, أو اقتصادية, أو بيئية, أو غذائية, أو بيولوجية أو هرمونية, إلا إننا سوف نحاول أن نركز اليوم علي تلك اللحظة التي يفقد خلالها الإنسان عقله لكي يرتكب فعلا شائنا قد يعيش بقية عمره نادما عليه.
وتعتبر مثل هذه الانفجارات الانفعالية هي مايطلق عليه: القرصنة العصبية, وترجح الأبحاث أنه في أثناء هذه اللحظات يقوم مركز في منطقة الوجدان بالمخ أو الجهاز الحافيlimbicsystem بتولي مثل هذه الحالات من حالات الطوارئ, ويجند باقي أجزاء المخ لتنفيذ جدول أعماله, وتحدث القرصنة في لمح البصر, ويطلق تلك الاستجابة في اللحظات الحرجة التي تسبق قدرة القشرة المخية ـ أي المخ المفكر العاقل ـ علي استيعاب مايحدث, أو الحكم بالمنطق علي مدي ملاءمته, والعلاقة المميزة لهذه القرصنة, أن من يمرون بها, لايعرفون بعد انقضاء اللحظة ما الذي حدث لهم, فقد فعلوا مافعلوا وهم غير مدركين لعواقبه, أو حتي فكروا فيه.
وهذه القرصنة ليست دائما لحظات منعزلة عن الحوادث المرعبة التي تؤدي إلي الجرائم الوحشية التي نسمع عنها, كجريمة قتل الأستاذة الجامعية بواسطة ابن البواب الذي كانت تعطف عليه, أو جريمة قتل شاب نادي الصيد بواسطة ضابط شرطة في مشاجرة عادية وغيرهما, فهي كثيرا ماتحدث لنا بصور أقل كارثية ـ لكن ليست بالضرورة أقل شدة, ولتتذكر آخر مرة ثرت فيها في وجه أحد ـ زوجتك أو ابنك مثلا, أو حتي علي سائق سيارة عابرة في شوارع القاهرة المتكدسة ـ ثم رأيت بعد أن تفكرت في الأمر مليا أنه لم يكن يستدعي هذه الدرجة من الحدة والثورة, فكل هذه الأحداث تندرج تحت القرصنة الانفعالية, أو الاقتحام العصبي الذي ينشأ من لوزة المخ وهي من مراكز المخ الحافي أو الوجداني المسئول عن العواطف والانفعالات, وليست كل أحداث القرصنة مفزعة, فالنكتة التي تأخذ بلب الشخص وتجعله ينفجر في الضحك ويستلقي علي قفاه إنما هي نوع من أنواع القرصنة الانفعالية.
وتختص اللوزة بالمسائل الانفعالية, فإذ فصلنا اللوزة عن باقي أجزاء المخ, يحدث عجز كبير في التعرف علي الدلالات الانفعالية للأحداث, وتسمي هذه الحالة أحيانا بالعمي الوجداني, ودون تلك الدلالات الانفعالية لايكون للموقف أي تأثير أو رد فعل علي الشخص, وهناك شاب أزيلت لوزته جراحيا للسيطرة علي تشنجات شديدة كانت تحدث له في إحدي التجارب, وقد أصبح هذا الشاب غير مبال مطلقا بالآخرين, ولايبدي أي رد فعل تجاه تصرفاتهم وشعورهم نحوه, مفضلا الجلوس بمفرده حيث لايكون هناك أحد يخاطبه أو يكلمه, وبرغم أنه كان قادرا علي الحديث بكفاءة, فإنه لم يعد قادرا علي التعرف علي أصدقائه المقربين أو أقرب أقربائه
كما لم يهتم بنظرة الألم والرثاء في عيونهم بسبب عدم مبالاته بهم, فاللوزة المخية هي مخزن الذاكرة الانفعالية, وتلك قيمة مهمة جدا في حد ذاتها, والحياة بدون لوزة مخية هي حياة مجردة من أي معان شخصية أو انفعالية, فالأهواء والمشاعر كلها تعتمد علي اللوزة, والحيوانات التي تستأصل لوزاتها أو تعطل عن العمل, تفقد الشعور بالخوف والغضب, وتفقد كذلك الدافع للمنافسة أو التعاون, ولا تهتم بتأكيد مرتبتها من النظام الاجتماعي لجنسها, وتصبح انفعالاتها سطحية أو تختفي كلية, وحتي الدموع تنطلق من اللوزة ومن جزء قريب منها, لذا فإن الأحضان أو الملاطفة تهدئ من هذه المناطق المخية, وتوقف البكاء والنحيب, وبدون اللوزة لاتكون هناك دموع أسف أو حزن أو فرح تحتاج للتهدئة.
وقد كان جوزيف لودوكس وهو عالم أعصاب في مركز العلوم العصبية بجامعة نيويورك ـ أول من اكتشف الدور الجوهري للوزة في المخ الانفعالي, حيث فسر لنا كيف تسيطر اللوزة علي مانفعله, حتي حين يكون المخ المفكر ـ أي القشرة المخية ـ آخذا بزمام الأمور, وكما نري, يعتبر عمل اللوزة وتفاعلها مع القشرة المخية العاقلة, هو لب الذكاء الانفعالي الذي يحدد متي تكظم غيظك, ومتي تنفعل ومتي تعبرعن إحساسك ومتي تكتمه؟
لعل الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تصبح منطقية من خلال فهمنا للدور المكتشف حديثا للوزة الموجودة في المخ, فالإشارات الواردة من الحواس تجعل اللوزة تمسح كل الخبرات بحثا عن المشكلات المشابهة, وذلك يعطي اللوزة موقفا سلطويا علي الحياة العقلية المنطقية, شئ أشبه بالحارس النفسي الذي يواجه كل موقف وكل إدراك بسؤال واحد يدور في الذهن هل هذا الشئ أكرهه؟ هل سيؤذيني؟ هل هو شئ أخشاه؟
وإذا كانت الإجابة توحي بـ نعم, تستجيب اللوزة في الحال كزنبرك عصبي, وتنقل رسالة الطوارئ لكل أجزاء المخ, ولعل دور اللوزة في المخ يشبه دور جهاز للإنذار مهمته ارسال نداء الطوارئ إلي ادارة الحرائق والشرطة والجيران, عندما تشير أجهزة أمن المنازل إلي حدوث أي نوع من المشاكل, وعندما تشعر اللوزة بشئ منذر ـ كالخوف مثلا ـ ترسل إشارات عاجلة لكل الأجزاء الرئيسية بالمخ, فتنبه إفراز الهرمونات الجسدية المسئولة عن الكر أو الفر, وتحشد مراكز الحركة, وتنشط الجهاز الدوري, والعضلات, والأمعاء, وهناك دوائر أخري من اللوزة تطلق الإشارات الأساسية من المخ, بما فيها الأجزاء التي تجعل الحواس أكثر انتباها
وبذلك تجعل المخ أكثر تأهبا, وإشارات أخري من اللوزة تجعل جذع المخ يثبت الوجه علي تعبير الخوف, وتجميد الحركات غير الضرورية التي قد تقوم بها العضلات, وترفع من معدل ضربات القلب, وضغط الدم وتبطئ من التنفس, وهناك أيضا إشارات تثبت الانتباه علي مصدر الخوف, وتجهز العضلات للاستجابة المناسبة له, وفي نفس الوقت تقوم أجهزة الذاكرة في القشرة المخية بالبحث عن أي معلومات تتعلق بموقف الطوارئ القائم, وتجعل لها الأولوية علي أي أفكار أخري.
وليس هذا إلا جزءا من المنظومة من التغيرات, المخلوقة بعناية, والتي تقودها اللوزة المخية أثناء تحكمها في أجزاء المخ المختلفة أثناء الإحساس بالخطر, وتسمح الاتصالات العصبية المكثفة للوزة أثناء موقف الطوارئ بأسر وقيادة معظم أجزاء المخ بما فيها العقل المنطقي, ولقد أوضح لودوكس في أحد أهم الاكتشافات العلمية المهمة في العقد الماضي, أن بناء المخ يسمح للوزة بوضع مميز كحارس للانفعالات يستطيع القرصنة علي المخ عند اللزوم, وبينت أبحاث لودوكس أن الإشارات الحسية من العين والأذن, تتجه أولا إلي المهاد, ثم تتجه ـ من خلال وصلة مفردة ـ إلي اللوزة, والإشارة الثانية تذهب من المهاد إلي القشرة المخية ـ أي المخ المفكر العاقل ـ وهذه التفريعة( من المهاد إلي اللوزة) تسمح للوزة أن تستجيب قبل القشرة المخية الجديدة, التي تتأمل المعلومات علي مستويات متعددة من الدوائر المخية, حتي تستطيع أن تدرك الأمر تماما, وبعدها تبدأ في الاستجابة التي تتلاءم بدقة مع الموقف.
ويعتبر بحث لودوكس من الأبحاث الثورية في فهم الحياة الانفعالية, لأنه من أوائل الأعمال التي تصف المسارات العصبية للمشاعر التي تتجاهل القشرة المخية العاقلة, والمشاعر التي تأخذ هذا الطريق المباشر إلي اللوزة, تشكل أكثر مشاعرنا بدائية وقوة, وتفسر لنا هذه الدائرة الكثير عن قوة الانفعالات في التغلب علي العقلانية أحيانا, وقد اكتشف لودوكس تلك الضفيرة الصغيرة من الألياف العصبية التي تنتقل مباشرة من المهاد إلي اللوزة, إضافة إلي تلك التي تتجه عبر المسار الأكبر من الأعصاب التي تنتقل مباشرة إلي القشرة المخية ـ وهذا المسار الأصغر والأقصر ـ والذي يشبه تخريمة عصبية ـ يسمح للوزة بتلقي بعض المدخلات مباشرة من الحواس ـ والبدء في الاستجابة قبل أن تسجلها القشرة المخية العاقلة تماما, فيمكن للوزة أن تطلق استجابة انفعالية بالاعتماد علي طريق الطوارئ السابق, بالإضافة إلي الدائرة المترددة التي تبدأ بين اللوزة والقشرة الجديدة, فقد تدفعنا اللوزة للفعل اللاعقلاني والأهوج في حالات الرعب أو الخوف الشديد, أثناء قيام القشرة المخية الأبطأ ـ والتي تكون الأكثر معلومات ـ بإعداد خطة أكثر ملاءمة للاستجابة. نقلاً عن جريدة الأهرام عدد 30/11/2008 | |
|
mostashara
ضــيف
 عدد الرسائل : 3
العمر : 57
التخصص : علم النفس العيادي
الدولة : الجزائر
تاريخ التسجيل : 13/12/2008
| |
