د. فرغلى هارون
المدير العـام
عدد الرسائل : 3278 تاريخ التسجيل : 07/05/2008
| موضوع: أزمة النظم السياسية المعاصرة 21/9/2010, 3:43 pm | |
|
أزمة النظم السياسية المعاصرة ا.د.محمد سعد أبوعامود أستاذ العلوم السياسية, جامعة حلوان, مصر
تواجه النظم السياسية المعاصرة العديد من الاشكاليات الناتجة عن المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتقنية التي يشهدها الواقع المعاصر, والتي لم تستطع التوصل إلي الأساليب الملائمة للتعامل معها الأمر الذي جعل هذه الأنظمة تواجه أزمة مركبة ومعقدة متعددة الأبعاد, وما الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي بدات عام2008 ولازالت مستمرة حتي الآن إلا أحد مظاهر هذه الأزمة كما أن ما شهدته النظم الديموقراطية في كل من الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا واليابان من دعوات ومحاولات للتغيير يمثل نوعية معينة للتعامل مع هذه الأزمة. والواقع أن النظم السياسية المعاصرة التي تشكلت بنائيا ووظيفيا وفكريا في ظل ظروف وبيئة داخلية وخارجية مختلفة عما هو قائم الآن وبالتالي فهي تواجه قضايا ومواضيع ومسائل مختلفة كميا ونوعيا عما اعتادت علي التعامل معه في المراحل التاريخية السابقة, ومنها ما لا يتوافر لديها خبرات سابقة في التعامل معها, ويزيد من حدة هذه الأزمة سرعة وكثافة المتغيرات المعاصرة ولجوء بعض الأنظمة للتعامل معها بالأساليب التقليدية الأمر الذي يؤدي الي تعقيد الأزمة بدلا من إدارتها وحلها. فعلي سبيل المثال, فإن دائرة عمل النظم السياسية المعاصرة لم تعد تقتصر علي الدائرة الوطنية التي تشمل اقليم ومواطني الدولة ككل, بل صارت دائرة مركبة تشمل ما هو أدني من الدائرة الوطنية كالدائرة المحلية وما هو أعلي كالدائرة الاقليمية والدولية والعالمية او الكونية بحيث تصير الدائرة الوطنية ما هي الا حلقة اتصال تربط بين هذه الدوائر سواء علي مستوي وضع السياسات العامة أو تنفيذها وصولا لتقييمها. كما أن البناء الاجتماعي الذي تعمل في اطاره هذه النظم قد تغير فلم يعد هذا البناء ذا ملامح واضحة أو ثابتة من حيث مكوناته وعناصره كما كان الأمر من قبل بحيث تستطيع علي سبيل المثال تحديد مصالح أصحاب رؤوس الأموال والعمال وإدارة التناقض القائم بينهما بما يتوائم وتحقيق الصالح العام وهو الأمر الذي أفرز في النظم الغربية ما عرف بدولة الرفاهة العامة وهي الدولة التي تضمن الحد الأدني اللازم لحياة كريمة لمواطنيها, الوضع القائم الآن لم يعد بمثل هذه البساطة للعديد من الاعتبارات أهمها أن التكوينات الاجتماعية المعاصرة لم تعد تتسم بالثبات والإستمرارية كما كان الأمر من قبل بل صارت تكوينات أكثر دينامية وتغير, كما أن هناك معايير جديدة لتشكيل هذه التكوينات الاجتماعية الجديدة فلم يعد معيار تصنيف هذه التكوينات يقتصر علي معيار من يملك ومن يبيع قوة عمله, بل صارت هناك معايير متعددة أبرزها معيار القدرة علي التعامل مع أساليب وأدوات التكنولوجيا المعاصرة وبالتالي فهناك إنقسام اجتماعي جديد يقوم علي أساس أن هناك طبقة تمتلك هذه القدرات لها مصالحها وثقافتها, بل ولغتها المشتركة, وطبقة أخري لا تمتلك مثل هذه القدرة ولها مصالحها وثقافتها ولغتها التقليدية. من ناحية أخري فإنه وبفعل المتغيرات المعاصرة المتسارعة تشهد المجتمعات المعاصرة معدلات سريعة للحراك الصاعد والذي يعني إنتقال فئات معينة إلي مستوي أعلي من حيث الدخل والمكانة الاجتماعية وفي المقابل تشهد هذه المجتمعات حراكا هابطا يؤدي إلي المزيد من الاستبعاد والتهميش لقطاعات كبيرة من المواطنين, وفي هذا الاطار يمكن أن تواجه النظم السياسية إحتمالات ثلاثة علي الأقل هي: -أن يكون معدل الحراك الاجتماعي الصاعد أعلي من الحراك الاجتماعي الهابط - أن يكون معدل الحراك الاجتماعي الهابط أعلي من الحراك الاجتماعي الصاعد -أن يكون معدلا الحراك الاجتماعي الصاعد والهابط متوازنين. وفي كل الاحوال فإن علي النظم السياسية المعاصرة أن تجد السياسات والوسائل الملائمة للتعامل مع الحراك الاجتماعي الصاعد والهابط بما يتلاءم والصالح العام وهي تتعامل في هذا الصدد مع ظاهرة تتسم بالدينامية وسرعة التغير بخلاف ما كان قائما في هذا الشان في المراحل السابقة. هذه بعض الأمثلة التي توضح عمق الأزمة التي تواجه االنظم السياسية المعاصرة وننتقل الان الي عرض أهم أبعاد الأزمة التي تواجهها والذي يؤدي عدم توافر القدرة علي التعامل معها الي تفجر الأزمات, ويمكننا تقسيم هذه الأبعاد إلي مجموعات ثلاث هي مجموعة الأبعاد البنائية وهي المتعلقة بإعادة هيكلة النظم السياسية والتمثيل السياسي والتغيير السياسي, ومجموعة الأبعاد الوظيفية والتي ترتبط بالوظائف الجديدة للنظم السياسية والوظائف التي ازدادت أهميتها النسبية وتلك التي تغير محتواها والأخري التي انخفضت أهميتها النسبية ومجموعة الأبعاد الفكرية والتي تتمثل في ضرورة تخلص النظم السياسية المعاصرة من الأطر الفكرية المغلقة والتوصل إلي أطر فكرية جديدة اكثر انفتاحا وأكثر قدرة علي التعامل مع التحديات التي تواجهها وفيما يلي نعرض بقدر من التفصيل لكل من هذه المجموعات الثلاث: أولا- مجموعة الأبعاد البنائية كما سبق وأن ذكرنا فإن دائرة عمل النظم السياسية المعاصرة لم تعد قاصرة علي الدولة القومية, بل أصبح علي هذه النظم أن تتعامل مع دوائر أخري, بالاضافة إلي دائرة الدولة القومية, الأمر الذي يتطلب إعادة هيكلة النظم السياسية بما يتوائم وهذا الواقع الجديد. تعددت الدراسات التي عنيت بدراسة دائرة عمل النظم السياسية في ظل الواقع المعاصر فالبعض اهتم بدراسة ما يمكن أن نطلق عليه بالدائرة عبر القومية لنشاط هذه النظم, وفريق آخر إهتم بدارسة ما يمكن أن نطلق علية بالدائرة دون القومية, وتصف جيسيكا متيوز في دراسة لها بعنوان انتقال السلطات نشرت في مجلة الشئون الخارجية الامريكية عام1997 عملية انتقال السلطات في الدولة إلي أعلي وإلي أسفل وعلي الجانبين, أي إلي ما فوق الدولة, وما تحت الدولة, وإلي الأطراف الفاعلة من خارج الدولة, خاصة اولئك اللاعبين الجدد الذين ضاعفوا من الولاءات والامتداد الكوني, وترجع ذلك إلي تغير في بنية المنظمات من التراتبية إلي الشبكات ومن الإلزام المركزي, إلي الإتحاد الطوعي, ومحرك هذا التحول هو ثورة تكنولوجيا المعلومات, وقدرة الإتصالات المتسعة علي نحو جذري, والتي عززت من قوة الأفراد والجماعات بينما قلصت من السلطة التقليدية. ومن ثم فالأمر بناءا علي هذا التشخيص يتطلب إعادة هيكلة هذه الأبنية بحيث تتواءم مع الواقع الجديد الذي تتعامل معه, ومن ثم فالرأي عندنا ان الدولة القومية كإطار لنشاط النظم السياسية لن تختفي أو تتفكك ولكنها لن تصبح الدائرة الوحيدة لنشاط هذه النظم, وإنما أصبحت دائرة بين دوائر أخري عديدة لهذا النشاط وهذه الدوائر هي: أ ـ دائرة ما فوق الدولة الوطنية وتشمل المستوي الاقليمي والكوني. ب ـ دائرة أدني من الدولة الوطنية ونطلق عليها الدائرة المحلية وبينهما تقع دائرة الدولة الوطنية, وهي في هذا السياق أداة للربط بين الدائرتين السابقتين. ج ـ إن الوضع القائم بالمفهوم المتقدم يفرض إعادة هيكلة النظم السياسية بحيث تكون قادرة علي التعامل مع الواقع الجديد, فالنظم السياسية بحاجة إلي بناء مؤسسي جديد يتكون من مستوي للتعامل مع الإطار الكوني وآخر للتعامل مع الإطار الإقليمي, وثالث للتعامل مع الإطار المحلي, ورابع للربط بين هذه المستويا. وبالتالي فثمة حاجة إلي بناء مؤسسي جديد يضم مؤسسات فوق وطنية ومؤسسات وطنية, ومؤسسات محلية, ولاشك أن هذا يتطلب مايلي: أ ـ تحديد طبيعة كل مجموعة من المؤسسات علي كل من هذه المستويات من حيث أسلوب تشكيلها وأسلوب عملها والوظائف التي يتعين عليها القيام بها. ب ـ تحديد علاقاتها ببعضها بعضا ووضع النظم الكفيلة بتسيير عملها. ج ـ تحديد الوظائف التي يمكن أن تقوم بها علي كل من هذه المستويات. د ـ تحديد علاقاتها بالمواطنين, وتحديد واجبات وحقوق المواطنين تجاه هذا البناء المؤسسي الجديد. من ناحية أخري ففي نطاق إعادة هيكلة النظم السياسية المعاصرة بالمفهوم المتقدم تبرز إشكالية أخري تتمثل في ضرورة التحول من المركزية السياسية إلي اللامركزية السياسية حيث يتطلب الواقع السياسي الجديد تعددية مراكز السلطة علي كافة المستويات وبحيث يكون لهذه المراكز اختصاصات أصيلة وبما لا يتعارض مع سيادة الدولة. إن التحول المطلوب بالنسبة للنظم السياسية المعاصرة نحو اللامركزية السياسية هو شرط ضروري لزيادة كفاءة وفعالية أداء النظم السياسية المعاصرة أيا كان نوع هذه النظم حيث إن الدور المركزي للسلطة السياسية في المجتمع لابد وأن يتغير من السيطرة والتحكم إستنادا إلي المفهوم الكلاسيكي للسيادة إلي دور السعي للوصول إلي نقطة توازن ملائمة تتحقق عندها أقصي مصالح ممكنة للقوي السياسية المختلفة في المجتمع, وبحيث تقتنع هذه القوي بأن ما يتحقق لها عند هذه النقطة لا يمكن أن يتحقق لها في حالة إستمرار الصراع والتنافس, وعندئذ يتحقق ما أشار إليه عالم السياسة الأمريكي أبتر من أن السياسة يمكن النظر إليها بوصفها الأمر الذي يحافظ علي التوازن السياسي والإستقرار وقابلية النظام السياسي للحياة. وفي نطاق مجموعة الأبعاد البنائية تبرز إشكالية التمثيل السياسي والتي تدور حول كيفية الوصول إلي الأسلوب الملائم الذي يتيح تمثيل كافة القوي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما في ذلك القوي الجديدة في المجتمع في نطاق النظام السياسي, وبحيث تمارس نشاطها في إطار هذا النظام, خاصة وأن الأسلوب الكلاسيكي للتمثيل السياسي لم يعد كافيا للقيام بهذه المهمة في ظل الواقع السياسي الجديد. والجدير بالذكر وكما يقول روبرت داهل إن مفهوم التمثيل السياسي وأساليبه الحالية قد ارتبطت بتطور الدولة القومية, ومن ثم يصبح من الضروري في ظل التطورات الجديدة للدولة القومية أن يتطور هذا المفهوم وآلياته بما يتواءم والمستجدات الجديدة. والواقع أن الحاجة قد أصبحت ملحة بالنسبة للنظم السياسية المعاصرة كافة لخلق قنوات جديدة للتمثيل السياسي تتواءم مع المستجدات التي تواجه هذه النظم ولا توجد وصفة جاهزة في هذا المجال, وإنما يمكن لكل نظام سياسي أن يكتشف من خلال دراسة واقع الحياة السياسية الذي يتعامل معه متطلبات التمثيل السياسي لهذا الواقع. وتبقي في إطار هذه المجموعة من الأبعاد البنائية, البعد المتعلق بالتغيير السياسي فكل النظم السياسية تتعرض للتغيير, ويذكر عالم السياسة الأمريكي روبرت داهل أنه علي مدي التاريخ السياسي لا يوجد نظام سياسي لم يتغير ويشير إلي صعوبة التنبؤ بالتغير السياسي, ومن ثم فإن مساحة كبيرة من عدم التأكد تصبح السمة المميزة للحياة السياسية خاصة في هذا العصر الذي يتسم بسرعة التغير. ويحدد عالم السياسة الموند مصادر التغير السياسي فيشير إلي أنها تنبع من النظام السياسي نفسه والتغيرات التي تلحق بالنخبة السياسية, ومن الجماعات المحلية في البيئة الاجتماعية, ثم من النظم السياسية في البيئة الدولية وعادة ما تتفاعل العوامل النابعة من هذه المصادر مع بعضها البعض, فضغوط النخبة قد تؤثر علي قدرات النظام السياسي ويمكن أن تمتد إلي المجتمع والنظام الدولي. ولا شك في أن النظم السياسية المعاصرة تواجه العديد من العوامل الدافعة نحو التغيير ومن ثم فإن عملية التغيير السياسي في الواقع المعاصر تتبلور في كيفية الوصول إلي نقط التوازن الملائمة بين الحاجة الملحة للتغيير السياسي المستمر بفعل المتغيرات التي تتعرض لها النظم السياسية, والحاجة إلي درجة ملاءمة من الاستقرار السياسي التي تكفل انتظام سير العمل السياسي. هذه هي أهم عناصر الأزمة البنائية أو الهيكلية التي تواجه النظم السياسية المعاصرة وهي العناصر التي تؤدي إلي تفجر العديد من الأزمات الفرعية فالفشل في إعادة هيكلة مؤسسات النظام السياسي بما يتلائم والمتغيرات الجديدة يؤدي إلي عدم قدرة النظام ككل علي التعامل مع ماتفرزه هذه المتغيرات من قضايا ومشكلات بالكفاءة والفعالية المطلوبة الأمر الذي يؤدي إلي توالد بؤر للأزمات في بنية النظام تكون قابلة للانفجار في اللحظة التي تتوافر فيها العوامل المفجرة للأزمة, ويرتبط بهذا التمثيل والتغيير السياسي بعد التوصل إلي الآليات المناسبة لتحقيق التمثيل السياسي الملاءم لواقع القوي السياسية في المجتمع يؤدي إلي تكوين بؤرة أزموية قابلة للانفجار وفي ذات السياق فإن الفشل في التوصل إلي الآليات التي تؤدي إلي تحقيق التغيير السياسي في الوقت المناسب تتولد عنه بؤرة أزمة قابلة للانفجار. ثانيا: مجموعة الأبعاد الوظيفية وتتمثل في ازدياد الأهمية النسبية لبعض وظائف النظم السياسية واتساع دائرة بعض الوظائف, وتغير محتوي وظائف أخري وضرورة تغيير أسلوب أداء بعض الوظائف حيث أن الأداء التقليدي لم يعد ملائما لواقع الحياة السياسية المعاصرة, هذا بالإضافة الي ظهور مجالات جديدة لوظائق النظم السياسية. ويكفي أن نشير إلي نماذج لبعض وظائف النظم السياسية للتعرف علي طبيعة ما تواجهه النظم السياسية من إشكاليات في هذا المجال. من وظائف النظم السياسية الوظيفة الاتصالية وهي تدور حول توفير قنوات الاتصال التي تربط بين مكونات النظام السياسي, وتوفير المعلومات اللازمة لصنع واتخاذ القرارات السياسية, وكذلك التعرف علي ردود أفعال الموطنين تجاه هذه القرارات وعادة ما تقوم بهذه الوظيفة وسائل الإعلام والأحزاب السياسية. هذه الوظيفة كانت من الوظائف الفنية المرتبطة بعمل النظام السياسي إلا أنها في الواقع المعاصر ازدادت أهميتها النسبية بصورة واضحة فلم تعد قاصرة علي دائرة الدولة القومية, بل أصبح لها دور هام في المجال الخارجي حيث تتطلب ظروف هذا العصر, خلق قنوات اتصال ساخنة ومستمرة مع مراكز التأثير الخارجية حيث أن وجود هذه القنوات يسهل مهمة النظم السياسية في التعامل مع الآثار الناتجة عن القرارات التي تتخذ عبر مراكز التاثير الخارجية, كما تتيح لها اإكانية التأثير في بعض هذه القرارات, من ناحية أخري, ازداد مجال عمل الوظيفة الاتصالية حيث انها الأداة الرئيسية لما يطلق عليه التسويق السياسي, حيث يتم من خلال هذه الوظيفة الترويج لبعض السياسات والقرارات التي تتخذها النظم السياسية, بل وكذلك الترويج لبعض الرؤي والأفكار, كما تتيح للنظم السياسية في ظل الامكانات المتطورة لوسائل الإعلام والاتصال ونظم المعلومات أن تعرض لعناصر ثقافتها وحضارتها, وخلق رأي عام خارجي مساند لقضاياها. من ناحية أخري فإن الواقع السياسي المعاصر يعطي لأساليب التعامل النفسي أهمية خاصة, وهو ما يزيد من أهمية الوظيفة الاتصالية بوصفها تقوم في جوهرها علي التعامل النفسي, إن تهيئة البيئه الداخلية علي سبيل المثال لقرار معين, يمثل خطوة هامة لتحقيق هذا القرار للأهداف التي اتخذ من أجلها ونفس الشئ يمكن تطبيقه علي البيئة الخارجية. ومن الوظائف الأخري التي ازدادت أهميتها النسبية الوظيفة التطويرية والتي تتمثل في قيام النظام السياسي بتوفير الآليات التي تسمح له بتطوير نفسه باستمرار, من حيث بنائه المؤسسي وأساليبه وأدواته في العمل بما يتناسب مع المتغيرات الجديدة في المجتمع, وبما يؤدي إلي زيادة قدرته علي استيعاب القوي السياسية الجديدة في نطاق النظام السياسي وهو ما يساعد علي تحقيق الاستقرار السياسي, والآليات الرئيسية لهذه الوظيفة هي الانتخابات والأحزاب السياسية وجماعات المصالح وجماعات الضغط. وفي إطار الواقع الجديد تزداد أهمية آلية قياس اتجاهات الرأي العام داخليا وخارجيا, حيث إن هذه القياسات تساعد علي اكتشاف الجديد باستمرار, وتتيح للنظام السياسي الفرصة لتحديد مجال ونطاق التطوير المطلوب والبحث عن وسائل تحقيقه. ومن الوظائف التي اتسعت دائرتها وظيفة تجميع المصالح حيث إن الأمر لم يعد قاصرا علي المستوي القومي وإنما أصبح يمتد إلي المستوي الخارجي والمستوي المحلي, حيث تزداد درجة تداخل المصالح وتشابكها ولقد كانت هذه الوظيفة تضطلع بها أساسا الأحزاب السياسية وجماعات المصالح ويضاف إليها اليوم الجمعيات الأهلية غير الحكومية, إلا أنه نظرا لازدياد درجة تعقد هذه الوظيفة فإن النظم السياسية المعاصرة بحاجة إلي إيجاد مؤسسات أخري متخصصة في هذا المجال, لأن اكتشاف التشابكات في المصالح في الواقع السياسي المعاصر ليس أمرا سهلا, حيث نجد قطاعات من أصحاب المصالح تستند إلي عناصر قوة خارجية بحكم ارتباط مصالحها مع الخارج, كما أن تقدير الأهمية النسبية لمصلحة معينة يختلف من مجتمع محلي إلي مجتمع آخر لهذه الأسباب فإن هذه الوظيفة لم تعد كما كان الوضع في المرحلة التاريخية السابقة قاصرة علي المستوي القومي. ومن الوظائف التي تحتاج إلي تغيير أسلوب أدائها الوظيفة التنفيذية التي تتلخص في نقل السياسات والقرارات الي الواقع المادي وإلي حيز التنفيذ, هذه الوظيفة كانت تعتمد في أدائها علي القوة القهرية إستنادا إلي ان النظام السياسي يحتكر الحق الشرعي في استخدام القوة والعنف لتنفيذ سياساته وقراراته إذا تطلب الأمر ذلك إتباع هذا الأسلوب لم يعد هو الاسلوب الملائم لواقع الحياة السياسية المعاصر إذ أن الأمر يتطلب المشاركة الشعبية في تنفيذ السياسات والقرارات, ومن ثم فمن خلال الحوار يمكن تحديد الوسائل الملاءمة لتنفيذ السياسات والقرارات بل إن المشاركة الشعبية في هذا المجال قد تؤدي إلي اكتشاف وسائل وأساليب أكثر فعالية وأقل تكلفة كذلك يمكن الإستفادة بما تتيحة تكنولوجيا المعلومات من وسائل وأساليب جديدة أكثر فاعلية وأقل تكلفة في تنفيذ بعض السياسات والقرارات, وقد أثبتت بعض التجارب العملية في بعض الدول نجاح الأساليب المستمدة من تكنولوجيا المعلومات في تنفيذ بعض السياسات في مجال التعليم والصحة وتحصيل الضرائب. ومن الوظائف التي اتسع مجالها الوظيفة التشريعية, حيث إن نطاق التشريع قد اتسع ليشمل مجالات جديدة ذات خصائص فنية معقدة وذات أبعاد متعددة, كذلك أصبحت عملية التشريع لا تخضع فقط للمؤثرات الداخلية وإنما أصبح للمؤثرات الخارجية تأثير لا يمكن تجاهله في مجالات التشريع الجديدة, كالبيئه والتجارة الالكترونية ومنع الاحتكار وحماية المستهلك, وحماية الملكية الفكرية, ومكافحة غسل الأموال والإرهاب والفساد وكافة أشكال الجريمة المنظمة, وكلها مجالات ذات طبيعة فنية معقدة تتطلب توافر قدرات ومهارات وخبرات خاصة لمن يقوم بوضع التشريعات الخاصة بها. ومن أمثلة التأثير الخارجي علي عملية التشريع ما يتعلق بالرسوم الجمركية والضرائب, حيث أن أي تشريع في هذا المجال لابد وأن يأخذ في الإعتبار علي سبيل المثال القواعد المنظمة لحركة التجارة العالمية وأسعار الضريبة في الدول المنافسة من ناحية أخري إزدادت الأهمية النسبية للوظيفة التشريعية بإعتبارها إحدي الوظائف الهامة في مجال وضع أسس التنظيم الاقتصادي والإجتماعي في المجتمع في ظل نظام اقتصادالسوق وصار الحديث اليوم في ادبيات النظم السياسية يدور حول جودة المنتج التشريعي وتحديد مواصفات الجودة لهذا المنتج بوصفه عاملا مؤثرا في حركة الإستثمار وتدفق الإستثمارات من الخارج وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. وتأتي الوظيفة القضائية لتبرز كذلك بوصفها عاملا محددا لزيادة القدرة التنافسية للإقتصاد الوطني فوجود نظام قضائي حر منضبط لا يخضع للمؤثرات والضغوط السياسية, ولديه القدرة علي الفصل السريع في المنازعات وسرعة تنفيذ الأحكام يعد من العوامل الجاذبة للاستثمارات وانتظام المعاملات, كذلك فإن القضاء قد أصبح يقوم بالفصل في منازعات ذات طبيعة فنية معقدة الأمر الذي يتطلب زيادة مهارات الهيئات القضائية وتوفير الخبرات اللازمة لها للتعامل مع مثل هذا النوع من القضايا, خاصة في ظل الاتجاه إلي الإتفاق علي عرض المنازعات علي ما يعرف بمحاكم التحكيم, وهي محاكم ذات طبيعة خاصة تختلف عن المحاكم العادية. ومن الوظائف التي تغير محتواها الوظيفة التوزيعية والتي تقوم علي أساس تحقيق التوازن بين المطالب والحاجات والموارد المتاحة لإشباع هذه الحاجات والمطالب من خلال قيام النظام السياسي بوضع الآليات اللازمة لترتيب الأولويات وتوزيع الموارد, فالوظيفة التوزيعية كانت تركز علي الجوانب المادية أساسا, أما محتوي هذه الوظيفة في الواقع المعاصر, فهو يمتد إلي الجوانب المعنويه كالحاجة إلي المعلومات وإلي إكتساب المعرفة وتنمية المهارات, فإن كان الهدف الرئيسي للوظيفة التوزيعية هو تحقيق العدالة الإجتماعية, فإن تحقيق هذا الهدف لابد وأن يراعي التغيير الذي طرأ علي مفهوم العدالة الاجتماعية في الواقع المعاصر. هذه نماذج لبعض الإشكاليات التي تواجه النظم السياسية علي المستوي الوظيفي, ولا شك أنها تتطلب إجراء العديد من التغييرات علي هذا المستوي, بالنسبة للنظم السياسية المعاصرة ولكن جوهر هذه الإشكاليات يتمثل في أن التغييرات المطلوبة لابد وأن تكون تغييرات سريعة وهو ما يصطدم عادة بقيود ناتجة عن الخبرات السابقة في مجال أداء هذه الوظائف, حيث إن الاعتماد علي القيام بوظيفة ما بطريقة معينة وبمفهوم معين علي مدي زمن طويل يتولد عنه مقاومة شديدة للتغيير الذي يتطلب فكرا جديدا وفهما جديدا وابتكارا ومهارات جديدة. ومن خلال العرض المتقدم يمكننا القول بأن الأبعاد الوظيفية لأزمة النظم السياسية المعاصرة من أخطر أبعاد هذه الأزمة لأنها ترتبط ارتباطا مباشرا بالواقع الذي تتعامل معه هذه النظم, وبالتالي فالخلل الذي يمكن أن يحدث نتيجة عدم القدرة علي أداء هذه الوظائف بما يتلاءم والظروف الموضوعية للواقع القائم الذي تتعامل معه قد يؤدي الي تفجر مفاجيء لازمات محدودة أو واسعة النطاق فعدم الوصول إلي المستوي الملائم في أداء الوظائف السياسية يكون بحد ذاته العامل المفجر لبؤر من الأزمات الكامنة في النظام السياسي. ثالثا: مجموعة الأبعاد الفكرية: وهذه المجموعة هي من أصعب ما يواجه النظم السياسية المعاصرة, فالمعروف أن معدل التغيير في الواقع المادي الملموس يفوق معدل التغيير في الجانب المعنوي, فالطبيعة البشرية تحتاج الي المزيد من الوقت لتفهم التغير الذي يحدث وتمثله وإضفاء المعني عليه, وهذه المسألة تزداد تعقيدا في عصر تفوق فيه معدلات التغييرات ومداها وطبيعتها قدرة البشر علي استيعابها وتمثلها, والأمر لا يختلف في هذا الشان بالنسبة للنظم السياسية التي تحركها قوي بشرية وتستهدف تحقيق أهداف بشرية في مجتمع بشري. ومن ثم فالأبعاد الفكرية تتمثل في مدي قدرة النظم السياسية علي إدراك التغييرات التي تحدث ومداها وطبيعتها, وفي توافر القدرة لدي القائمين علي هذه النظم علي الإيمان بضرورة التغيير والاقتناع بأنه هو الوسيلة الرئيسية لتحقيق التوازن والاستقرار للنظام السياسي, إلا أن عملية التغييير تصطدم عادة بقوة مقاومة لحركة التغيير ليس استنادا إلي معيار المصالح التي قد تدار نتيجة لذلك فحسب وإنما استنادا إلي رؤي فكرية تشكلت علي مدي مرحلة زمنية سابقة, مليئة بالخبرات والعادات والتقاليد الأمر الذي يجعل من الصعب التخلص منها بسهولة, كذلك فإن درجة المخاطرة في عملية التغيير تبدو بالنسبة للقائمين علي النظم السياسية مرتفعة للغاية, حيث إنها ربما تقودهم إلي ما لا يعرفون, ويزداد الاحساس بذلك في ظل واقع سريع التغير, ومن ناحية أخري, فثمة قضايا جديدة ووسائل جديدة لا يستطيع الكثيرون من القائمين علي النظم السياسية إداركها بحكم تشكل أساليب إدراكهم في ظروف مختلفة, لذلك يمثل الجانب الفكري أخطر الاشكاليات التي تواجه النظم السياسية المعاصرة في تعاملها مع ظواهر العولمة, وفي هذا المجال تبرز الأيدولوجيات السياسية ذات الأنساق الفكرية المغلقة والتي شكلت فكر وثقافة الكثيرين من الساسة الذين اكتسبوا خبراتهم السياسية في إطارها لتعد من اهم الإشكاليات التي تواجه النظم السياسية المعاصرة في التعامل مع ظواهرهذا العصر. من خلال ما تقدم يتضح لنا حقيقة الأزمة التي تواجه النظم السياسية المعاصرة فهي أزمة مركبة متعددة الأبعاد في إطار واقع يتسم بسرعة التغيرات وكثافتها, وفي ظل تشكل منظومة اجتماعية جديدة سريعة التغير والتحول, وثقافة تقوم علي الانفتاح بحثا عن معني لما يحدث علي أرض الواقع في اطار من الشك وعدم اليقين, كيف تتعامل النظم السياسية مع هذه الازمة, كيف تديرها وتحل, إشكالياتها.. سؤال سيكون محلا لمقال آخر. نشرت بمجلة الديمقراطية العدد 39 يوليو 2010 على الرابط التالى http://democracy.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=stud1.htm&DID=10360 | |
|